وماذا بعد الملاحظات؟ 3-3
بقلم الدكتور: عبدالله جمع إدريس - ناشط سياسي وإعلامي - ملبورن أستراليا
إنّ فكرة المركز والهامش، القائمة علي أساس إثني، طرحها الراحل الدكتور جون غارانغ، في إطار مشروع السودان الحديث،
والذي طرح الحل في صورة تفكيك السودان القديم وبناء السودان الحديث علي أسس جديدة. تلك الأسس كانت محددة في (المانفستو)، والأدوات كانت معدة، وعلي رأسها العمل المسلح الذي يؤدي إلي إنهيار المنظومة الحاكمة، أو إنهيار الدولة. وعندها يفرض الطرف المنتصر المانفستو. وفي أسوأ السيناريوهات يتم الوصول الي حالة من تعادل القوي تجبر الطرف الآخر علي التفاوض، وأخذ حق تقرير المصير المفتوح علي كل الاحتمالات. واستُكمل البرنامج لاحقاً في الإطار التفاوضي حيث تم الإتفاق علي تقاسم السلطة (جغرافياً - الي شمال للمركز، وجنوب للهامش القوي، أما بقية الهوامش فلا عزاء لها)، وتقاسم الثروة (بين النخب المتحاورة، ولا عزاء للمواطن). وعندما تقبل الدنيا علي بعض من كان مهمشاً، يسعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، ويقلد جلاده بتهميش من حوله. وتبدأ سلسلة أخري من الصراع. هذا هو التسلسل المنطقي والتاريخي المجرّب لهذا البرنامج، ولكل من يريد تطبيقه أن يوجد البيئة المشابهة للوضع الذي كان قائماً في السودان، خاصة المصالح الدولية والإقليمية التي ساندت المانفستو، والقوة العسكرية التي كسرت معادلة القوة القديمة وأوجدت واقعاً جديداً. فتقاسم السلطة والثروة بالبيانات الإنشائية هو ضرب من الخيال. إذن علينا أن نتحسس الأرض التي نقف عليها لنفهم ما عناصر أزمتنا، ثم نقلّب وجوه الخيارات التي تناسب الحالة التي نعيش.
إننا في صراعنا الاستراتيجي مع أشقائنا المسيحيين أشبه بحال الفلسطينيين في صراعهم مع الاحتلال الصهيوني، فلا يجدون مع مرور الأيام ما كان يُعرض عليهم في مرحلة سابقة حتي أصبحت حقوق أساسية للإنسان ضمن أجندة التفاوض. وهذا الواقع المأساوي ناتج عن اختلال ميزان القوي الاستراتيجي، لذلك تحرص القوي الدولية حليفة إسرائيل علي إبقاء ذلك الميزان مختلاً. أما في إرتريا فإنّ البيئة الإجتماعية والموروث التنظيمي المتمثل في وجود سلطة مركزية لدي المكوّن المسيحي، وفقدانه نسبياً لدي المكوّن المسلم، هو العامل الأساسي الذي ينجح في أستمرار هذا الإختلال. فالنخب المسيحية تفكر في إطار استراتيجي يبقي مصلحتها العامة مرجحة علي خلافاتها الثانوية، علي سبيل المثال عندما قام إسياس بتصفية مجموعة من أكلي غوزاي وأسماهم خفافيش الظلام (منكع)، أجّل أبناء المنطقة تصفية الحساب لوقته واستكمال ما خططوا له معاً، وعندما خرجت اللعبة عن السيطرة، وبدأ أفورقي يضر بالمشروع الطائفي من حيث أراد الانفراد بالقرار، بدأ قادة المنطقة بعملية فك الإرتباط بالمشروع،بدءاً بتمرد هيلي درع وأدحنوم وغيرهم كحالات أشبه ما تكون بمواقف فردية، لكنها كانت إشارات قيادية أدّت لتكوّن موقف مجتمعي، ورأينا ذلك يسري في مفاصل الدولة والحزب الحاكم ثم انتقلت العدوي الي أطر المعارضة.
بينما المسلمون بدءاً من جيل الرابطة الإسلامية، كلما يقيّض الله لهم أمر رشد فيه يجتمعون علي كلمةٍ سواء، تتفلت مجموعات عن الإجماع حتي تفتّ في عضد الجماعة. فبالرغم من أنّ المكوِّن المسلم في إرتريا يتمتع بروح وطنية جياشة وآمال عريضة، إلا إنه لا يجيد التخطيط للوصول إلي آماله، بل يغلب علي عمله الإرتجال والعشوائية، وهو سريع الإنفعال ويميل إلي التعامل بردود الأفعال ويسهل تشتيت تفكيره الجمعي مما يؤدي الي عدم تركيزه علي برنامج استراتيجي فيظل ينتقل من مشروع إلي آخر بغير هديً.. وكان السبب بشكل أساسي هو تفرّق الأمة عن قيادتها، وبروز نزعات الأثرة الشخصية والجهوية، والتي استغلها الأعداء وجيّروها لصالح برنامجهم. ولم يكن إنقسام مجموعة إسياس هو فقط الذي أثّر علي مسيرة الثورة وعلي أوضاع المسلمين داخل البلاد. بل إنّ الإنقسامات بين القيادات المسلمة هي التي سارعت بتسليم قياد الثورة والدولة إلي مجموعة أفورقي الطائفية. علينا أن نراجع دفاتر الثورة لنتعلم منها ونجيب علي الأسئلة الصعبة. ما أسباب الخلافات بين المناضلين الشهداء عثمان سبي وإدريس قلايدوس وإدريس محمد آدم وبقية قيادة الجبهة في القاهرة وفي الميدان وفي الشتات. هل كانت هناك مشكلة بين شرق إرتريا وغربها أم أنّ هؤلاء الرجال قد اتخذوا من مناطقهم ساتراً للدفاع عن أنفسهم وطموحاتهم، وكيف ولماذا إنشقّت مجموعات جهوية وعشائرية وطائفية عن الجبهة في وقت واحد، ليتوحدوا في تنظيم واحد رغم اختلاف الأهداف والمطالب والمصالح. كيف تمكّن أفورقي من السيطرة علي قوات التحرير الشعبية وتحويلها الي الجبهة الشعبية رغم قوة القيادة الميدانية للمسلمين فيها وسيطرتهم علي مصادر التمويل الخارجية. كيف فشلت جميع جهود توحيد فصائل الثورة، لماذا فشلنا في العودة إلي الميدان، وهذا السؤال الأخير يعتبر مربط الفرس، وهو ما فطن الي خطورته بعض القيادات مثل الشهيد عبدالله إدريس فعمل علي إبقاء قوة علي الأرض، لكن الظروف الإقليمية والدولية، إضافة الي ضعف الظهير الوطني الجماهيري، قد أدت مجتمعةً الي إنهاء تلك المحاولة حيث تضاءلت الي حالة عشائرية. ونفس الشئ حدث لتجربة الجهاد وكل الفصائل الأخري.
إننا أحوج ما نكون الي إسقاط النظام الحالي أكثر من أشقائنا المسيحيين الذين تنحصر حوجتهم الي ذلك في إيجاد وضع قانوني (دستوري) يقر الأمر الواقع بدل الفوضي السلطوية لأفورقي ومجموعته، والتي تهدد مصالحهم قبل كيان الدولة وبقائها. حتي إنني أقول للإسلاميين إنّ الإسلام دين له قوة دفع ذاتية، ويحتاج فقط الي جوٍ من الحرية لينداح بين الناس. وإننا نحتاج الي العودة الي الوطن ثم الي الديمقراطية وحكم القانون، وهو مطلب عادل ويناسب كل مكونات الوطن. ولكن المطالب لا تنال بالتمني، ولكن تأخذ غلاباً، أو بتعظيم النوال مما يتاح من فرصٍ يجود بها الزمان قليلاً، وذلك بحسن التدبير والاستعداد.
الوجه الآخر للمقارنة هو أن الاحتلال الصهيوني يصر علي سياسة تهجير الفلسطينيين وإنكار حق العودة والإستيطان الممنهج وطمس حقائق التاريخ.، وهو ما تتبعه قيادة المشروع الطائفي في إرتريا حذو النعل بالنعل. غير أنه لا يزال الفلسطينيون والمسلمون الإرتريون يتشبثون بحقهم وبأرضهم ويراهنون علي وجودهم علي أرضهم جزئياً. لكن العقبة الكبري في وجه أي أمل في تغيير حقيقي في إرتريا هي وجود المعارضة وغالبية من يناصرونها خارج حدود الوطن. وأفورقي يعرف أن هذه النقطة هي التي ترجح كفة الميزان لصالح برنامجه، فجعلها أولي أولياته في استراتيجية الحكم، وعمل علي إبقائها علي ما هي عليه مراهناً علي عامل الزمن.
بالمقابل لا تواجه هذه الاستراتيجية بموقف استراتيجي متماسك، بل تتنقل القيادات المسلمة في مواقف تقفز بين الحبال كألعاب السيرك، فتصبح عنصر فكاهة ولا يأخذها الطرف الآخر مأخذ الجد. وحتي يكمل متعته علي كل المسارح يقوم باعطاء (قومياتنا) تمثيلاً فلكلورياً في الرقص والغناء والتمثيل والتعليم بلغة الأم، وكفي!. وعندما يتعلق الأمر بالمواقف الجدية ينكر تمثيلها علي المسرح السياسي وفي الخدمة المدنية وفي مركز اتخاذ القرار.
وما يزيد الطين بلة، أنّ الاختلالات يتم تغذيتها بالانقسامات السرطانية في جسد الضحية، حيث لا يمكن معالجة الأزمة بالمطالب الجزئية التي تجعلنا أقليات أمام الطائفة المهيمنة. والضحية تتماهي مع جلادها كما يقول علماء النفس. فنري المهمشين يتخذون المعيار القيمي ذاته ل(سلفي ناتسنت) في تعريف أنفسهم، والذي قام الجلاد بوضعه في تحديد الإطار الفكري لتهميشهم. وهذا التماهي هو ما أسماه المفكر الجزائري مالك بن نبي ب(القابلية للاستعمار). فما معني أن نصرّ علي الموافقة علي تجزيئ أنفسنا الي إثنيات وقبائل وجهويات تبقينا في خانة الأقليات، في وقت تستخدم فيه قيادة (هقدف) هذا المعيار في تبرير ما تقوم به من سياسة تمكّن للطائفة (القومية) التي تعتبر الأغلبية بالمعايير القومية والجهوية.
ونتيجة لضمور المشروع الوطني داخل التنظيمات التقليدية، برزت تنظيمات تدعي تمثيل قبائلها. بعض هذه التنظيمات استطاع أن يوجد له ثقلاً داخل (قوميته) كالعفر والنهضة، لكن أي تنظيم لا يمثل في النهاية إلا من التحق بالتنظيم مهما أدعي غير ذلك، والبعض فرض الأمر الواقع بتصفية منافسيه (القوميين) واستفاد من دعم الدولة المضيفة في الالتحاق بالأطر القائمة للمعارضة مثل المدعو قرناليوس، أما البعض الآخر فلم تأبه له (قوميته) وأضحى موضوع للسخرية والتندر.
والإخوة الذين يجعلون حجتهم وجود تنظيمات إثنية علي الساحة لقيام رابطة للمنخفضات نقول لهم أمرين في هذه المسألة. الأول هو أننا نرفض هذا السلوك من أيٍ كان ولكن عندما يصل الحريق الي داري أكون من الغباء إن سكتُ عليه ولم أقم بعمل ما لمواجهته بدعوي أنّ بيوت الجيران احترقت من قبل ولا بأس أن ينالني ما نالهم. الأمر الآخر هو أنّ تلك الأطراف أعلنت برنامجاً سياسياً وأحزاباً ينضم إليها من يتفق معها ويختلف من يختلف، ولكن الرابطة ينقصها الوضوح التنظيمي، حيث تقدم برنامجاً سياسياً وتدعي أنها منظمة مدنية للمّ شمل المنخفضات. فلنختر لنفسها رؤية واضحة ولتترك للجماهير حرية تقييم برنامجها إن كانت سياسية. أما إن كانت منظمة مجتمع مدني برؤية سليمة فأحسب أنّ الجماهير لا تمانع دعم مجهود (مدني) حقيقي يركز علي احتياجاتهم الاجتماعية والإنسانية. فحري بمنظمة مجتمع مدني، تريد أن ترفع من شأن منطقتها، أن تعمل علي سد الفجوة في الخدمات الثقافية والإعلامية (رفع الوعي) والصحية والتعليمية والأمنية والحقوقية لمجتمعنا اللاجئ بدلاً من زيادة جيوش السياسيين ومنافسة الأطر السياسية. ومن أراد أن يبعث الروح في المقاومة والتحدي السياسي فليختر له من بين التنظيمات القائمة لينضوي تحته ويقدم له الدعم المادي الذي يعينه، فرابطة المنخفضات بدلاً من تكوين تنظيم عابر للتنظيمات عليها إن تختار تنظيم أو عدد من التنظيمات تتوافق معها علي برنامج الحد الأدني وتوفر لها الإسناد الجماهيري، وهنا عليها أن تعلن أنها منظمة سياسية ولا تدلّس علي الناس. وأؤيّد، علي سبيل المثال، مطالبة أحد الكتاب (أبو أسامة) في دعوته الرابطة المشاركة في إنجاح مؤتمر جبهة التحرير وتعزيز قدراتها. فهذا سيكون أجدي من الدخول من النوافذ إلي كل التنظيمات (المنخفضاتية).
وبالمقابل فإنّ بعض التنظيمات ينوء كاهله بمظلات إغاثة وتعليم ولاجئين ومراكز دراسات ودعوة وما إلي ذلك مما يمكن أن تقدمه منظمات مجتمعية كالرابطة وغيرها. وجديرّ أن إنوّه هنا إلي النجاح الذي حققه أصحاب (مبادرة) كمنظمة مجتمع مدني في مجالات حقوق الإنسان وفي الإعلام خدمةً لمجتمعهم، وذلك بعدما تراجعوا عن اقتحام الأطر السياسية وركزوا علي النواحي المدنية. وكذلك النجاح المضطرد للإتحادالعام للطلاب بالخرطوم الذي خرّج عشرات آلاف الطلاب ويشارك في القوافل الصحية وغيرها، ويلتزم بمعايير المجتمع المدني رغم أنّ غالبية القائمين عليه لهم تنظيمات سياسية ينتمون إليها. ونفس الشئ يقال عن منظمات إغاثة مثل (إيثار) التي تسد عنا ثغرةً وتؤدي (فرض الكفاية) في عون أهلنا اللاجئين. وكذلك منظماتنا وجالياتنا في الخارج تقوم بدورٍ مقدرٍ لربط الأجيال الجديدة بوطنها وتتحدث في السياسة لكنها لا تنافس الأطر السياسية.
إنّ خلط الأوراق قد أضر بقضايانا، وأضرب مثالاً، حيث كان تكوين المجلس الوطني (ولا زال) الأمل في الإبقاء علي جذوة الروح الثورية وإعادة اللحمة الوطنية وفرصة التغيير الديمقراطي. فذلك هو الحل أو الطوفان الذي سيجرف الوطن ومكوناته الي جرفٍ هارٍ. ولكن فشلنا حين فشلت الجماهير في تمويل المجلس، والقوي المدنية التي جاء بها التحالف لتعينه صارت عبئاً علي العمل، لإنها لم تعي دورها ونافست القوي السياسية علي قيادة العمل السياسي. والقوي السياسية فشلت لإنها لم تتعلم من تجربة ربع القرن الماضية التي أضيفت لتجربة الثورة.
ولا زالت علة عدم التركيز علي الهدف وتشتيت العقل الجمعي تطاردنا، فنهرع كعادتنا في الاستجابة للمستجدات بردود أفعال لا تخدم قضيتنا. فبعد جهود مضنية لجمع القوي السياسية والمدنية ونجاح المؤتمر في إجازة أوراقه، أقبلت علينا آفتنا التي لا يستدبرها (نضالنا) السياسي، وهي آفة الصراع علي كرسي الرئاسة. وهكذا أفشلنا برنامجنا السياسي ولم نصبر علي إنضاجه، بل سارع البعض كالعادة للإنتقام منا جميعاً بإشعال حريق داخل البيت، وظهرت نغمة المرتفعات والمنخفضات علي الساحة السياسية بعد المؤتمر مباشرةً، وليس ما جري في لندن إلا إعلان إمتداد الحريق إلي المجتمع المدني. فما حدث في أواسا كان تحالفات سياسية تكتيكية لأطراف متعددة لا تربطها رابطة جهوية، بل كانت كثير من الأطراف تتنقل بين الكتل. أنظر يرعاك الله، إلي التنسيق بين الإنقاذ والعفر (وكان بينهما تحالفاً عسكرياً) إضافة الي النهضة والحزب الإسلامي وآخرين، وفي الكتلة الأخري الفيدرالية والجبهة وأدحنوم وقرناليوس وقبريسلاسي وآخرين منهم (ادعم). قل لي هل هناك أي اصطفاف جهوي في هذه التحالفات، أم هي السياسة والحرب والمكيدة. وكان عند البعض الحد الفاصل بين الأهداف العليا للمؤتمر المتجسدة في التغيير الديمقراطي للوضع في إرتريا وبين نتائج المؤتمر الإنتخابية مساحة ضبابية. وفشلت الإنقاذ وفشلت التضامن وفشل المجلس وقيادة المجلس وكل مكونات المجلس وعلي رأسها القوي السياسية والتحالف الديمقراطي في تنفيذ الحد الأدني من البرنامج نتيجة خلط أوراق المعارضة،والتباس الاستراتيجي بالتكتيكي، وغياب الأولويات وعدم السمو علي حظوظ الأنفس والتطلع الي الأهداف العليا، فضاعت الفرص- الفرصة تلو الأخري لترتيب البيت الداخلي ولتقاسم الأدوار.
يجب علينا إعادة التفكير في مآلات الفشل، والطرف الذي سيقع عليه الضرر نتيجة هذا الفشل، وهو شعبنا المغلوب علي أمره والذي ينتظر أي فرصة للخلاص، وكذلك مجتمعنا في أرض اللجوء المحروم من حق العودة. إنّ عدم التركيز علي تحقيق ما يتاح من فرص التقدم نحو الهدف ومحاولات جرنا الي نقطة الصفر ما هي إلا قبلة الحياة للدكتاتور الذي ينازع الموت وإطالة أمد معاناة شعبنا. كيف يعقل أن نعطي المترددين من طائفة الدكتاتور مزيد من المبررات لدعمه، بل نقتطع من جسدنا أجزاء أصيلة فينا (مسلمي المرتفعات) ونتخفف منها لأنها تثقل المركب الذي يغرق بإهله، فليس من الحكمة كسب عداوات جديدة ونحن محاطون بما يكفي من الأعداء. إننا لن ننهض من كبوتنا ولن نسلم من الزلل إلا إذا تركنا العنتريات و(الفوجاج) وأقبلنا علي قضايانا بعقلية ناضجة تقدر خطواتنا وتؤمّن موضع أقدامنا.
دعونا نعود لمسألة تكوين جبهة (التضامن)، ونسأل لماذا تكونت، وما داعي تكوينها وما أهدافها ومنطلقاتها؟ هل كان الغرض منها تكوين منبر انتخابي للبعض في مؤتمر (أواسا) أم كانت تسعي في مصلحة لمِّ شمل المهمشين كما ذكر بيانها؟ إذا كان ذلك الهدف صحيحاً لماذا ماتت بعد (أواسا) وبعد فشل دورها الانتخابي؟، وهل نستبق كل مؤتمر بتكوين مظلة انتخابية تدعي تمثيل مصالحنا؟ وهل انتجت التضامن أكثر من استفزاز الآخرين لكي يتحالفوا ضدها، مثل تكوين جبهة القوميات؟ بل أنها عمّقت الخلافات بين مكوناتها ولم يبق منها غير بيانات التهنئة والتعازي. أسئلة قد توضح مخاوفنا من أن نُستٓغلٓ في تحقيق طموحات سياسيين يدلسون بضاعتهم لتشتري منهم الجماهير (الترماي) كما يقول المثل المصري.
وهذا يذكرني بتجربة شخصية في مطلع القرن الحالي، حيث دعاني المناضل الشهيد محمد عثمان أبوبكر لكتابة برنامج عمل سياسي يريد تقديمه الي كل القوي السياسية في المعارضة (للمّ شملها) وتفعيل التحالف المعارض. وقدم لي أفكاراً عامة تساعدني علي إنجاز تلك الوثيقة، وقال أنه ناقش تلك الأفكار مع المناضل حسين باقر وبعضها يعود الي المناضل علي برحتو. لاقت مني تلك الدعوة حماساً شديداً، وانجزنا الوثيقة وكتبنا الرسائل الي التنظيمات، وصحبتُ الرجل في لقاءاته بالخرطوم مع قيادات بعض الفصائل، وأدهشتني بعض الملاحظات، فكنت أتعجب للبرود وعدم الحماس من قيادات تاريخية مثل الشهيد عبدالله إدريس تجاه المبادرة (الوطنية). ولكن بعد حين فهمت أن تلك المبادرة كانت بساط الريح الذي حمل صاحب المبادرة إلي عضوية التحالف وتقلُد منصب مسؤول العلاقات الخارجية فيه، وترؤّس حليفه السياسي حينها (حروي تدلا بايرو) للتحالف، وكانت من النتائج المباشرة لتلك الخطوات المتسارعة ولوج تنظيمات مايكروسكوبية الي التحالف. ومن النتائج غير المباشرة حدوث حالة من الاستقطاب انتهت بخروج (المجلس الثوري) عن الإجماع السياسي وإنشقاقه إلي فصيلين واستمرار دوامة التحالف حتي استطاع وضع معايير للعضوية. وفي النهاية اتضح لي أنّ المبادرة لم تحقق أهدافها بل زادت الأوضاع سوءاً. عندها فهمت أنّ حسن النوايا وحدها لا تقيم الأوطان، وأنّ التفكير العاطفي، دون إنضاج الفكرة وبغير البناء علي الواقع، سلوك يضر الأفراد والمنظمات والأوطان كذلك.