وماذا بعد الملاحظات؟ 1-3
بقلم الدكتور: عبدالله جمع إدريس - ناشط سياسي وإعلامي - ملبورن أستراليا
أوردت عدد من الملاحظات علي الحراك السياسي علي الساحة الإرترية من قبل بعض النشطاء
في الكتلتين الجهويتين للوطن الإرتري (المنخفضات والمرتفعات). وكانت مجرد ملاحظات ووجهة نظر حرصت فيها علي توضيح المخاطر التي تتهدد الوطن الإرتري في حال أفرط الطرفان في دعوتهما الجهوية. ولم أورد البتة ما يفيد الإساءة لرابطة أبناء المنخفضات أو التشكيك في نواياها، وإن كانت حسن النوايا لا تقيم الأوطان دون حسن التدبير.
وقد أعلنت رفضي ما ذهب إليه إخوتنا في رابطة أبناء المنخفضات، وقد انتقد آخرون غيري من أبناء نفس المنطقة تلك الدعوة بدرجات متفاوتة. وحتي أكون منصفاً فيما أقدمت عليه من نقد، أجد لزاماً عليّ أن أقدم قراءة بديلة لقراءة الرابطة للأزمة الوطنية الإرترية، ومن ثم الإشارة للبدائل المتاحة للعمل السياسي و (المدني)، دون أن يعني ذلك حجراً علي أي طرف إتخاذ ما يراه من وسائل التنظيم والعمل السياسي الذي يرتضيه، كما سبق الإشارة إليه في مقالي الأول عند تناولي للملاحظات المذكورة.
وخلاصة القول في قراتي هذه أنّ الممارسات دون الوطنية لمن يدير الأمور في إرتريا قد أدت إلي مظالم عديدة لا تكاد تعفي أحداً من الإرتريين. لكن لا خلاف علي أن المظالم السياسية والثقافية والاجتماعية والإقتصادية تقع علي المسلمين (كل المسلمين) بشكل أكبر من غيرهم في الوطن. وبدأت تلك السياسة في مرحلة الثورة، بإقصاء الكفاءات المسلمة عن مراكز اتخاذ القرار بالاغتيال (إبراهيم عافة) إو الإبعاد (محمد علي عمرو مثالاً) أو التهميش (رمضان محمد نور)، مع الحرص علي إبقاء من لا يمثلون خطراً علي المشروع الطائفي (الأمين محمد سعيد) كممثل صوري للمسلمين وترقية آخرين من فاقدي الأهلية (يوسف صائغ مثالاً). وقد بلغ الأمر مداه وتزايدت الحملات الطائفية الشرسة بعد التحرير الوطني، وتمثت في رفض النظام الطائفي الإقصائي عودة اللاجئين وانتزاع الأراضي والمنازل والممتلكات الخاصة والعامة مثل المعاهد الإسلامية والأوقاف، وتجاوز ذلك النهب للأملاك إلي الأعتداء علي الأنفس التي طالها الإعتقال التعسفي والإختطاف والتعذيب والقتل خارج إطار القانون، وغير ذلك من الممارسات التي إستهدفت المسلمين دون سواهم في بداية تحكم الجبهة الشعبية في إدارة البلاد سياسياً وأمنياً عقب الإستقلال، حتي وصل الأمر إلي تهديد حق الوجود ذاته للمسلمين. وكانت هذه الممارسات تتم بشكل ممنهج، وكانت عناصر قيادية وكوادر وسيطة وحتي مستخدمين عاديين في سلك العمل العام في الدولة الإرترية يقومون بتنفيذ هذه السياسة المجحفة ولا يشعرون بحجم الضرر الذي ينزلونه بالدولة وبالإنسان الإرتري علي المدي البعيد. ونتيجة للتركيز علي تنفيذ تلك السياسات الحمقاء ضاعت فرص عظيمة علي الوطن والشعب الإرتريين لبناء وطن يسع الجميع، وتعود خيراته علي كل أنحاء البلاد. وكان من الطبيعي أن تفشل تلك السياسات في إحداث أي نوع من التقدم علي كل الأصعدة السياسية والإجتماعية والسياسية، فلم يكن لدي الدكتاتور أي برنامج تنموي حقيقي غير إجراءات تكتيكية بتحويل مقدرات البلاد علي ضعفها لصالح مجموعة محدودة من المنتفعين من النظام. فتحكم الحزب الوحيد في النشاط الإقتصادي البدائي فزاده سوءاً علي ما كان عليه من ضحالة. وزادت الأمور سوءاً مع فقدان النظام شرعيته الثورية التي سمحت له بالبقاء سبع سنين عجافاً دون مساءلة، فبدأت القوي القريبة من مركز القرار تدفع باتجاه الشرعية الدستورية، فإنحني الدكتاتور للعاصفة والتي حملت دستور العام 1997م وبرلمان (غير منتخب). وفي تلك المرحلة شعر البعض من ديناصورات الألاعيب السياسية ودهاقنة التدليس السياسي والإعلامي بإمكانية التخلص من عبئ المسؤولية التاريخية عن المظالم التي سبقت مرحلة الدستور وتبرير وقوعها بعدم وجود هياكل دستورية وعدم وجود سلطة سياسية حديثة تقود البلاد أثناء وقوع تلك (التجاوزات)، وأنّ الدستور يجبُّ ما قبله، وعلي الجميع أن يبدأ من تلك النقطة كأمر واقع. وتلك السياسة (العقلانية) لمن يجيدون حبك حبائل المؤامرات لم تعجب الدكتاتور،لأنه كان يخشي أن كرسي الحكم في خطر بتقديمه شخصياً ككبش فداء لحصول (مصالحة) ما تتجاوز كل ما حدث وتبقي علي المكتسبات الطائفية دون أي تنازلات ذات أثر علي الواقع المعاش حينها، والمتمثلة في التحكم في هياكل الدولة ومفاصلها السيادية والإستراتيجية والأمنية، إضافة إلي التحولات الديموغرافية الهائلة التي أحدثتها تلك السياسات التي أشرنا إليها والتي إستكملت السياسة الإستعمارية الإثيوبية ولكن بوتيرة متسارعة وموسعة.
ونتيجة لعدم رضي أفورقي عن تلك اللعبة السياسية الحديثة، والتي تشبه إلي حد كبير سياسة القيادة الإثيوبية الحداثية بزعامة الجبهة الشعبية لتحرير (تغراي)، قرر الهروب إلي حرب خارجية تصرف الأنظار عن (الإستحقاقات) الدستورية، وفي الوقت عينه يجدد الدماء في شرعيته (الثورية) منتهية الصلاحية، ىإعلان الطوارئ وأن لا صوت يعلو علي صوت المعركة. وكان إسياس أفورقي علي قناعة بأنه سيكسب تلك المعركة (السريعة)، والتي تعيد له الهالة القدسية باعتباره المخلص الوطني وقاهر (الوياني). وكان يراهن علي هشاشة تماسك الداخل الإثيوبي وأنّ التوتر الذي قد تحدثه الحرب سيقود إلي إنهيار سلطة (التغراي) في أديس أبابا وتفكك الدولة الإثيوبية، وربما يكون أكثر حظاً من فترة التحرير الأولي والتي لم تسمح له بالسيطرة علي مقدرات الدولة الإثيوبية الكبري وعلي مخرجات مشروع (تغراي تغرينيا)، ويعتقد أفورقي أنّ تلك الفرصة ضاعت نتيجة التدخل الأمريكي (الاستعماري) في الشأن (الداخلي) لذلك التحالف القومي.
ونتيجة الحرب بالطبع لم تأتي في صالح أفورقي، لكنه أعلن الإنتصار لأنه لم (يهزم) أمام القوة الهائلة للجيش الإثيوبي، ويكفيه فخراً أن أبقي علي السلطة (الوطنية) في أسمرا بغض النظر عن وقوع أجزاء واسعة من البلاد تحت الإحتلال. غير أن رفقاء أفورقي (الثلاث عشر) و (الخمسة عشر)، ومن تبعهم فرادي وزرافات من المعارضين لسياسته (الدكتاتورية)، كان لهم رأي آخر، وأعلنوا الهزيمة المرة في تلك الحرب وطالبوه بتحمل نتائجها وأن يفتح الباب للتغيير لصالح الحكم (الدستوري)، مما يعني ذهاب سلطته ومعها ذهاب ماء وجهه، فأعلن عليهم حرباً لا هوادة فيها وقرر إنهاء مرحلة القيادة الطائفية الجماعية وبداية الدكتاتورية الفردية السافرة بكل ما تعنيه من إعادة رسم التكتلات السياسية ومنح الثقة لتولي الأدوار الأمنية، وتوزيع المصالح الإقتصادية المباشرة بشكل يضمن للدكتاتور إحكام قبضته علي السلطة وبشكل مؤبد. ثم جاءت نتيجة التحكيم الدولي في القضية الحدودية مع إثيوبيا لتوفر للرجل ورقة أخري ليتلاعب بها علي العقول في الإعلام ويبرر بها الحرب ويدلل علي مشروعيتها، حيث عادت بادمي بقرار المحكمة إلي إرتريا، وبالتالي يبرر انفراده بالقرار والسلطة في ظروف يدافع فيها هو عن (سيادة البلاد) بزعمه، في حين يعمل خصومه علي إضاعة تلك السيادة بالتآمر مع (الوياني).
وهذه التحولات النوعية في مراكز صنع القرار هي السبب باعتقادي في إفراز واقع جديد أدي لانقسام داخل الطائفة، إلي (مع) و(ضد) الدكتاتورية. كما يبرر ذلك إصرار السياسيين من أبناء الطائفة علي توصيف نظام الحكم بأنه (دكتاتوري) وليس (طائفياً).
نعود في الحلقة القادمة لإستكمال قراءتنا للوضع السياسي بحول الله