مفتي أرتريا الشيخ الأمين عثمان، ماله وما عليه
بقلم الأستاذ: أحمد حامد
حق الأبوة والعلم: رحل الشيخ الأمين عن دنيانا الفانية بعد عمر طويل وحافل، قضاه في رحاب العلم في الأزهر الشريف،
وفي رحاب الشؤون الإسلامية الأرترية معلما، وخطيبا، وقاضيا، ومفتيا. وقد امتدت مسيرته الدعوية في أرتريا لأكثر من خمسة عقود، عاصر وشاهد فيها كل التقلبات التي مرت بها أرتريا. وهو خاتمة علماء الأزهر الذين ازدخرت بهم أرتريا منذ الأربعينيات إلى السبعينيات، فملئوا جنباتها علما، وهدى، ونورا. وللشيخ علينا حق التقدير والإحترام لسنه، ولعلمه، ولمساهماته الممتدة. وقد قال رسول الله (ص): ”ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا”.
في قفص الإفتاء:
ظل الشيخ الأمين يعمل في سلك القضاء والتدريس حتى وصل سن التقاعد، وبقي كل هذه الفترة بعيدا عن الأضواء، محمود السيرة عند الجميع، حتى تولى منصب المفتي بعد أن قارب السبعين من عمره، فأصبح محط أنظار الناس، وتوقعاتهم الكبيرة. وهنا أصبح الشيخ عرضة للإنتقادات والإتهامات؛ بعضها موضوعي، وبعضها مجحف. والشيخ بشر يخطئ ويصيب، فله الجزاء الحسن فيما أحسن فيه، وله المغفرة فيما أخطأ فيه.
تولى الشيخ الأمين منصب الإفتاء بعد أن أصبحت دار الإفتاء أثرا بعد عين، بعد وفاة مؤسسها الأول الشيخ إبراهيم المختار، حيث ظل منصب المفتي شاغرا لأربع وعشرين عاما. تولى الشيخ الأمين منصب المفتي في لحظة فارقة في التاريخ الأرتري بعد تحرير أرتريا من الإستعمار الأثيوبي. ومنذ تولى الشيخ المنصب ظل الناس ينظرون إلى دوره، ويقيمون أدائه، من خلال الدور التاريخي لسلفه الشيخ إبراهيم المختار، وهو دور لايزال محل إعجاب وتقدير قطاع كبير من الأرتريين. ولكن هذه النظرة قد تكون في بعض جزئياتها غير منصفة، فالزمان غير الزمان، والظرف غير الظرف. لا شك أن الشيخ إبراهيم المختار كان رجلا فذا، تميز بغزارة علمه، وشجاعته، وغزارة عطائه، وبعد نظره ؛ ولكن الحقيقة التاريخية تقول أن الأفذاذ لا يتكررون دائما، وإنما يظهرون على فترات متباعدة، وهم نبراس لمن بعدهم، وليسوا مقياسا يقارن به غيرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
لقد تولى سماحة المفتي الشيخ الأمين دار الافتاء في وقت فرغت البلاد فيها من وجهائها، وقادتها، ورموزها الذين كان لهم دور في إيجاد التوازن الإجتماعي، فكان الشيخ وسط هذا الفراغ الهائل وحده في مهب الريح دون نصير، ولا مشير، ولا صاحب كلمة نافذة. تولى سماحة المفتي المنصب في فترة تاريخية تعتبر هي الأكثر قمعا، وأشدها تكميما للحريات في التاريخ الارتري كله ؛ فترة حكم عصابة لا تراعي عرفا، ولا تحترم قيمة، ولا ترحم شيخا ولا مسنا ؛ فترة نكل بها ببطريارك الأرثوذكس بما لا سابق له من قبل في التاريخ ؛ فترة قذف فيها في السجن بالمئات من الأحرار، والشيوخ ؛ فترة أضحت فيه أرتريا سجنا لا متنفس فيه ؛ فترة صار شعار الناس فيها “أنج سعد فقد هلك سعيد”. في هذا الظرف الحالك تولى الشيخ دار الإفتاء التي ولدت من أول يومها مهيضة الجناح، مسلوبة الإرادة، يعمل الشيخ فيها ومن معه ورجل المخابرات جاثم على صدره، يحصي عليه أنفاسه، ويسوق جرائمه باسمه، وينكل بالدعاة ويحبس من شاء منهم ثم ينسب ذلك زورا إلى دار الإفتاء. وهكذا عاش المفتي ودار الإفتاء بين مطرقة الدولة على رأسه، وألسنة عامة الناس التي لا تعرف ظرفه.
لا شك أن الشيخ كانت عليه مآخذ ؛ فالشيخ بما عرف عنه من طبع مهادن يخشى الصدام، بالغ في مهادنة ومجارات النظام في أمور كان يستطيع أن يكون له موقف مستقل. والشيخ - غفر الله له - لم يحسن الإستفادة من الهامش الضيق من الحرية الذي كان النظام يسمح به، وكان بإمكانه السكوت عن الدفاع عن النظام في بعض المواقف. وهذه المآخذ ستلقي بظلالها الداكنه على كل من سيخلف المفتي في هذا المنصب. ورغم كل شئ فإنه يحمد للشيخ محافظته على دار الإفتاء وما يتبعها من مؤسسات علمية ودعوية في ظروف غاية في الخطورة والتحدي.
خليفة القفص:
خلت أرتريا في عهد إسياس من العلماء، حيث أصبح من النادر أن يعود خريجوا الجامعات الإسلامية إلى أرتريا، خوفا من بطش النظام وتوجهه الطائفي. وليس من الميسور في أرتريا اليوم أن يكون فيها عدد مقدر ممن لهم مؤهلات علمية تقارب مؤهل الشيخ الأمين. ولعل أبرز مرشح لخلافة المفتي ربما يكون الشيخ سالم ابن المفتي الأسبق الشيخ إبراهيم المختار. والشيخ سالم عالم أزهري - مثل والده، وخطيب مفوه شهدت له جوامع أسمرة، وكان الساعد الأيمن للشيخ الأمين منذ بدايات دار الإفتاء إلي يومنا هذا ؛ والقرار في النهاية هو قرار إسياس، كما هو الحال في كل شأن ذي بال في أرتريا.
ومنصب المفتي في أرتريا منصب لا يحسد عليه أحد، فهو كقفص العصفورة، تمنع فيه من الطيران، وفي نفس الوقت يعاب عليها عجزها عن التحليق في الأجواء. فلنعذر الشيخ لما كان منه من تقصير، ولنقلل من توقعاتنا ممن يقوم مقامه، ولندعوا الله الخلاص لأرتريا لتنطلق دار الإفتاء وكل المؤسسات من قيدها وتؤدي رسالتها كاملة غير منقوصة.
إنهاء القطيعة:
تقول القاعدة الفقهية: ”ما لايدرك كله، لا يترك جله“. لقد كانت هناك قطيعة واضحة بين دار الإفتاء في أرتريا والجاليات الارترية المسلمة في الخارج. وهذه القطيعة، وإن كان لها أسبابها الموضوعية، إلا إنها تصب في صالح النظام الطائفي في أرتريا. ومن المهم إيجاد قنوات تواصل جديدة، كما هو الحاصل بين الكنيسة الأرثوذكسية والجاليات الأرترية المسيحية في الخارج، وذلك ضمن توقعات موضوعية، ودون توريط لدار الإفتاء في مواقف تتجاوز إمكانياتها المتاحة، ولا يسمح الظرف المحيط بها.