مبادردة جمع شمل ابناء المنخفضات ام محاولة لنسف الوحدة الوطنية
بقلم الأستاذ: فكاك ناير - قطر
ترددت كثيرا على التعليق عن ما يسمى بسمنار ابناء المنخفضات الذي عقد بلندن في نهاية مارس
المنصرم.
وانبثقت عنه قيادة تأسيسية لتسويق المنتج (الوثيقة). اعتقد ان الكثير ممن يشتغلون بالكتابة يشاطرونني ذلك (التردد)، ليس جهلا بالابعاد الخطيرة التي تنطوي عليها الوثيقة المجازة من اهل السمنار، ولا تخاذلا عن القيام بواجب التصدى لمحاولات تمرير اطروحات قديمة بصيغ جديدة خشية افتضاح أمرها، بل لايماني العميق بوعي الشعب الاريتري في تمييز الغث من السمين، وخاصة عندما يتعلق الامر بوحدة نسيجه الاجتماعي الموروث وهويته الوطنية التي أرسيت خلال ال 6 عقود الماضية.
لكن ذلك لا يمنع من الاسهام في تجذير الوعي بضرورة صيانة المكتسبات الوطنية التي تراكمت عبر مسيرتنا النضالية الطويلة، وتعزيز ثقافة التعايش بين مكونات المجتمع، وتقديم الحقائق التاريخية لقطع الطريق على الاطروحات التي تظهر خلاف ما تبطن، مستغلة مناخ الاحباط الذي تولد بفعل السياسات غير العادلة التي ينتهجها النظام في مختلف مساقات الحياة في البلاد...
لم تكن محاولات تقسيم الجغرافيا والديموغرافيا تحت مبررات ثقافية وعرقية ودينية وليدة اللحظة، بل تعود الى بداية تشكل الكيان السياسي الارتيري في مطلع الاربعينيات من القرن الماضي، عندما تقدم البريطانيون بمسوغات واهية بعدم امكانية قيام دولة ارتيرية نظرا لغياب التجانس الديني والثقافي بين المكونات الارتيرية... وقد تمثلت دعوات الغاء الكيان الارتيري في مشروع الوحدة مع اثيوبيا، ومشروع تجراي - تجرنيا، وتقسيم البلاد بين اثيوبيا والسودان لحيثيات ثقافية وعرقية... واقامة دولة البجا الكبري في شرق السودان باقتطاع شمال وغرب ارتيريا واجزاء من السودان (الشرق). غير ان مشاريع التقسيم والتجزئة الاستعمارية تم احباطها بفضل نضالات شعبنا بكل مكوناته ممثلا في الحركة الوطنية.
في العشرة الاولى للثورة الارتيرية وقعت اخطاء نتيجة سوء التطبيق لتجربة المناطق التي كادت تنسف مفهوم الوحدة الوطنية، ما افرز ذلك نزعات دينية وعرقية، واخرى مناطقية وقبلية. كان ابرزها حزب الحرية (سلفي ناطنت) الذي مثل خطا ظاهره اصلاح مسار الثورة. لكنه كان في جوهره طائفيا عرقيا ينزع الى احياء فكرة تجراي - تجرنيا القائمة على وحدة الاصول العرقية، التي نشأت في اقليم تجراي عقب هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية، وتلقفها بعض مثقفي ارتيريا من ابناء التجرنيا، لكنهم في مراحل لاحقة صاروا جزء من الحركة الاستقلالية. وانكشفت نوايا الشعبية بصورة جلية عندما جرى تحالف اثني بين حركة تحرير تجراي والجبهة الشعبية لتحرير ارتيريا، لانهاء وجود تنظيم جبهة التحرير الارتيرية، وخوض حرب مشتركة ضد نظام منقستو هيلي ماريام، بيد ان اشواق الوحدة بين مكوني التجرنيا في كل من تجراي وارتيريا، لم تجد حماسا لدى الشعبية، ربما حفاظا على التحالف القائم منذ عقود مع بعض ابناء المنخفضات الشرقية او خشية هيمنة التجراي على كعكة السلطة. لذلك اتجهت الشعبية الى ارساء نظام يؤمن لها تنزيل مشروعها الشوفيني الاستعلائي دون الالتفات الى حقوق الشركاء في الوطن. واستتبع ذلك باجراءات صك العملة الوطنية، ووضع أسس لاقتصاد مستقل عن الاقتصاد الاثيوبي، والفكاك من تبعية اثيوبيا في مجال العلاقات الدولية، والشروع في تنفيذ برنامج الخدمة الوطنية لايجاد احتياط وطني تحسبا لردة فعل ما من حلفاء الامس. وهكذا تحولت اشواق الاشقاء في الوحدة الى عداء وقطيعة يصعب وصلها على الاقل في المستقبل المنظور.
وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي طرح نظام منقستو هيلي ماريام مشروعا للحكم الذاتي بغية ضرب الثورة الارتيرية في مقتل، الا انه لم يجد من يتفاعل معه الا بعض ضعاف النفوس وهكذا سقطت مشاريع التجزئة. وبلغت مسيرة الثورة الى شاطئ الامان، وتوج نضالنا التحرري بالاستقلال.
لكن النظام الحاكم في اسمرا فشل في اقامة دولة قائمة على عقد اجتماعي يحقق الشراكة الوطنية في السلطة والثروة، مما عزز ذلك هيمنة مكون اجتماعي واحد على كافة مقاليد السلطة في البلاد. الامر الذي نتج عنه غياب تنمية متوازنة، واقصاء، وتهميش المكونات الاجتماعية الاخرى. لذك تنامت المجموعات المعارضة الساعية - رغم عدم فعاليتها سياسيا وعسكريا - لاسقاط النظام الشوفيني القائم في اسمرا دون ان تحدث أثرا ذي بال حتى اللحظة. وهذا العجز المزمن الذي اصاب المعارضة، بث روح اليأس والاحباط في قطاعات كبيرة من مجتمعنا، الامر الذي ادى لتوالد افكار ومشاريع ذات نزعات مناطقية وجهوية تهدد وحدة البلاد ارضا وشعبا.
ومن خلال ما تطرقنا اليه اعلاه يتضح لنا ان سمنار ابناء المنخفضات لايعدو كونه استنساخا لمشاريع مناطقية واثنية، ذهبت من قبل ادراج الرياح، وانزوى دعاتها في مناطق قصية من العالم غير مأسوف عليهم. رغم استخدام لغة التمويه والتبرير في صياغة الوثيقة المشار اليها اعلاه، والاسهاب عن المظالم الثقافية والاقتصادية والسياسية التي يتعرض لها انسان ذلك الجزء العزيز من الوطن، الا ان المقصد كان واضحا ولا يحتاج الى كثير عناء لفك طلاسه ورموزه لكل قارئ للتاريخ السياسي الارتيري، فضلا عن ان الوثيقة حوت الكثير من القرائن والادلة التي تدعم الى ما ذهبنا اليه في بداية هذه الفقرة.
ان محاولات تقويض الثوابت الوطنية لمجرد الاحساس بغبن او تهميش نشأ نتيجة نهج النظام الاقصائي ، ستدفع الوطن الى سيناريوهات التشظي المناطقي والاثني. وهو الهدف الذي يسعى اليه اهل الحكم في اسمرا. فكان حري بالاخوة دعاة تقوية وتعزيز مجتمع المنخفضات النأي بأنفسهم عن الخوض في هكذا قضايا حساسة تمس وحدة الكيان الارتيري. خاصة ان الوثيقة تهمز وتلمز ضمنا وتصريحا من فكرة الوطن الواحد بحدوده الموروثة من القوى الاستعمارية الاوروبية، والتعدد الاجتماعي والثقافي، وجعل ذلك سببا لعدم تحقيق الوحدة الوطنية، ورهن الحفاظ عليها (الوحدة الوطنية) باحترام مصالح سكان المنخفضات!! ما يعد ذلك تهديدا مبطنا لهدم فكرة الوطن (الجغرافيا والديموغرافيا) بصورة انصرافية... كما انها دعوة لفوضى جهوية، ربما ستؤدي الى نسف المكتسبات التي تراكمت خلال اكثر من ستة عقود، اذا انتقلت العدوى الى مكونات اجتماعية اخرى.
لم يقف اهل الوثيقة عند هذا الحد بل عابوا على سكان المنخفضات تمسكهم بالوحدة الوطنية بصورة مثالية. وهو تحريض واضح يستهدف التأثير على عامة الناس للتخلي عن ثابت الوحدة الوطنية وبناء وشائج جهوية ومناطقية. ومن اكثر الامور اثارة في الوثيقة نزوع اشواق اهل السمنارلوحدة الاصول العرقية الممتدة عبر الحدود الغربية. وهذا ايحاء بالضجر من التنوع الثقافي الذي يميز واقعنا الوطني، والبحث عن مبررات لخلق كيان يضم شتات مكونات فرقتها الحدود الموروثة من الاستعمار الاوربي. وهو ذات النشاط يجرى في السودان منذ سنوات من اجل اقامة دولة البجا الكبري المفترضة التي يمتد حدودها من حلايب الى مصوع. وتتبنى هذه الفكرة قوى جهوية سودانية لها امتدادات عرقية داخل ارتيريا.
لا نغالي اذا قلنا: ان وثيقة مبادرة جمع شمل ابناء المنخفضات تحاكي ذات المنطق البريطاني عن استحالة قيام دولة ارتيرية لغياب التجانس الثقافي والاجتماعي. وهو منطق لا يستصحب حقائق التاريخ الماثلة امامنا. فعلى سبيل المثال ان دولة الصومال قامت على التجانس الثقافي والاجتماعي والديني، الا ان ذلك لم يعصمها من حالة الاحتراب الاهلي وقيام دويلات وكنتونات مستقلة عن المركر. وعلى النقيض من ذلك نجد ان الهند اكثر دول العالم تمتعا بالتنوع الثقافي والاجتماعي والديني، ورغم ذلك تعيش واقعا من الوئام الوطني بين مكوناتها المتعددة باستثناء الوقائع المتفرقة التي حدثت قبل واثناء قيام دولة باكستان في نهاية اربعينيات القرن العشرين.
ليس هناك خلافا على الدور المحوري الذي لعبه سكان المنخفضات من اجل استقلال ارتيريا، ابتداء من النضال السياسي، وتأسيس الثورة واحتضانها في مراحلها الاولى، وتقديم تضحيات جسام من اجل الحرية والكرامة كغيره من اجزاء الوطن. كما انه لا احد يستطيع انكار المظالم الاقتصادية والثقافية والسياسية التي يعاني منها هذا الجزء من الوطن بصورة اكبر، نتيجة السياسات الانتقائية التي ينتهجها النظام الشوفيني في ارتيريا. لكن ذلك لا يستوجب ان يكون دافعا للبعض التفكير في عزل هذا الجزء من محيطه الطبيعي، بدلا من البحث عن آليات نضالية ناجعة من خلال تطوير مشروع المعارضة الرامي لاسقاط النظام، وتعزيز الخط الوطني الديمقراطي، والعمل على تمتين الثوابت الوطنية، والتصدي للنزعات والميول التي من شأنها ان تحدث شرخا في تماسك الكيان الوطني، وحشد الطاقات والامكانات، لاسقاط النظام الشوفيني، وبناء دولة المواطنة وسيادة القانون والحريات.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.