هل يحاولون اقتسام ارتيريا؟

بقلم الأستاذ: محمد أبوالقاسم حاج محمد  المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

حين وصف الرئيس الارتيري «اسياس أفورقي» المنشقين عليه من الذين تقدموا بمذكرة تطالب بالاصلاحات

على مستوى الدولة والحزب في اغسطس/آب 2001 بأوصاف اعتبرتها في حينها «غير لائقة» سارعت إلى تحليل «أزمة نظام الحكم في ارتيريا ونشرت مقالتي تلك على صفحات «اخبار العرب - ابوظبي - عدد 554 - تاريخ 3 يونيو/حزيران 2002. فمن الصعب وصف زملاء النضال والسلاح ورفاق الشهداء الذين تجاوز عددهم سبعين الفا في مسيرة الثورة الارتيرية طوال ثلاثين عاما بأنهم بلا ضمير ومرتزقة وتحركهم اهواؤهم الذاتية. غضبت من «افورقي» رفيق الدرب الطويل، ولم تكن تلك هي الغضبة الاولى، ولعلها لن تكون الاخيرة، ولكنها غضبة بين رجلين يجمعهما «مصير واحد» إلى القبر، ويدرك كل واحد منهما تعلق الآخر بأهداف استراتيجية أفنيا ثلثي عمريهما فيها، سيادة إرتيريا واستقلالية قرارها ووحدتها وكنفدرالية القرن الافريقي.

وما يأتي بعد ذلك من مشكلات داخلية فبالامكان علاجها، ومنها كيفية التحول من الثورة إلى الدولة، وكيفية الموازنة بين متطلبات العولمة التي «تخصص» كل شيء في سوقها الحر العالمي ومتطلبات المجتمع المتخلف اقتصاديا الذي يفرض على الدولة الوطنية التزاما تجاه مجتمعها ونموه بما يفرض التخطيط المركزي. وكذلك كيفية الموازنة بين الديمقراطية الليبرالية ومنع قوى التخلف الاجتماعي بالعشائرية والطائفية والاقليمية من السيطرة على السلطة بغالبيتها الميكانيكية الكمية وعصبياتها الموروثة، وقد سبق لها ان هددت وحدة الثورة من قبل. وكذلك معالجة قضية «الهوية الارتيرية» في مجتمع من دون مرحلة التشكيل «القومي الحضاري» ويعيش «مركبات إتنية» وما دونها. وكذلك في مجتمع يتميز «بهويات عابرة» لحدود البلاد الجغرافية - السياسية فسكان ارتيريا وغربها يعبرون إثنيا إلى مشرق السودان إذ ينتمون إلى عنصر «البجا - التجري»، وسكان مرتفعات ارتيريا يعبرون إثنيا إلى شمال اثيوبيا إذ ينتمون إلى وحدة الاصل الحضاري والديني الجامع لكليهما فيما يعرف بـ«تجرينيا - تجراي» وهي وحدة اصول تجمع بين «زيناوي» - الرئيس الاثيوبي - و«أفورقي» نفسه. ثم سكان «سواحل ارتيريا الجنوبية الذين يعبرون اثنيا إلى «العفر» في جيبوتي وإلى «الاوسا» في اثيوبيا.

قضايا كثيرة مطروحة على اربعة ملايين إرتيري، وتتردد اصداؤها على مدى 124 الف كيلو متر مربع، وفي إطار تجربة لم يتجاوز مداها الزمني في عمر الدولة «المستقلة» اكثر من عقد واحد فقط من الزمان «1993/ 2003».

عقد واحد مطلوب فيه من «افورقي» ان يعالج كل شيء في الداخل بداية من تمرد بعض فصائل جيش التحرير قبل اربعة ايام من اعلان الاستقلال وداخل العاصمة «اسمرا» وان يعالج مواجهات اقليمية - ايا كانت اسبابها الحقيقية وغير المعلنة حتى الان - مع السودان منذ نهاية 1994 ومع اليمن في 1995 ثم مع اثيوبيا في حربين 1998 و 2000 حصدت من الجانبين سبعين الفا ووصل فيها الأمر إلى الاشتباك بالايادي والسلاح الابيض وحتى العض بالاسنان.

ذلك عدا «الموازنات» التي ذكرتها في دولة ارتيرية يراد تأسيسها من دون موروث من «مؤسسات» أو «كادر» متخصص، وفي مدى عقد واحد من الزمان. فما ورثته ارتيريا عن اثيوبيا طوال احتلالها الممتد من العام 1958 إلى 1993 (طوال 35 عاما) لا تتجاوز البارات واحياء الدعارة و«ادارات» السلب والنهب في الموانئ والمطارات وحتى الطرقات، فأرتيريا الموروثة عن اثيوبيا ليست فيما كانت - سوى «معسكر كبير» متحرك بآلة الموت والدمار.

هذا الواقع الذي يتحدى قدرات البشر اثبت فيه «افورقي» جدارته باعتباره «قائدا»، سواء بقامته الطويلة المماثلة «لماوكسي تونغ» الذي تدرب على يديه اثناء الثورة الثقافية في الصين، في نهاية الستينات. أو سواء بعقله المماثل لنهج «كاسترو» في «كوبا» مع ذلك، فإن التحديات التي ذكرتها اكبر من «افورقي»، لانها اكبر من قدرات البشر والمطلوب منهم في عقد واحد فقط من الزمن. غير ان ذلك كله لا يبرر حوادث الانقسامات الداخلية.

إذ كان لابد من «اعادة تقييم» دور الحزب وبالذات بعد تنحي الأمين العام السابق «رمضان محمد نور» في العام 1987 ثم تمرد بعض فصائل جيش التحرير قبيل الاستقلال بأيام العام 1993 ثم فشل التنمية تحت مظلة الحزب، والتي لم تتخذ مداها الشعبي الثوري كما يفترض من الحزب، ولم تتخذ البديل الاقتصادي المفتوح. وكذلك فشل الحزب في تحقيق «المشاركة الشعبية» في السلطة وإدارة البلاد الامر الذي انتهى بتكريس متزايد لسلطة «افورقي» بوصفه رئيسا للدولة ورئيسا للحزب في آن واحد، ومسئولا عن الاخطاء في الرئاستين.

وان امكنت موازنة ذاك مع «الجوانب الايجابية» في تجربة عقد واحد من الزمان، وتفهم للتحديات الداخلية والاقليمية والدولية، وفوق ذلك تفهم «لشخصية» افورقي نفسه باعتباره فنانا تشكيليا - لا يريد لأحد ان يمتد بريشته إلى لوحته، واللوحة هي ارتيريا، بما في ذلك كاتب هذا المقال على رغم ما يجمع بيننا من مصير واحد حتى القبر.

الان، ماذا لو اطل شهداء ثلاثين عاما برؤوسهم ليروا بأم أعينهم ما يحدث بين الرفقاء الذين اصبحوا فرقاء؟! قطعا سيفضلون العودة مجددا إلى قبورهم. ولا أملك خيارهم لاني «حي» للأسف ويجب ان اواصل المسيرة على رغم تقدمي في السن.

أمر واحد غير مقدور عليه

قلت ان كل ما يلبي وحدة ارتيريا وسيادتها وقرارها المستقل امور مقدور عليها، ولذلك التقيت في حوارات مفتوحة حتى مع أعتى خصوم النظام الارتيري من «الاصوليين» الذين شكلوا تنظيمات «الجهاد» وشنوا عملياتهم في الريف الغربي من ارتيريا.

ولكن ثمة ما هو غير مقدور عليه إلا بموقف حازم حاسم لا حوار فيه وذلك حين تتعرض وحدة ارتيريا وسيادتها للخطر. لهذا تابعت عن كثب، وبكل ما يتوافر من «معلومات» و«علاقات» تشكيل محور صنعاء الثلاثي بين اثيوبيا والسودان واليمن، والذي اتخذ قراراته ضد «النظام الارتيري» في قمته المنعقدة في صنعاء بتاريخ 15 اكتوبر/تشرين الاول 2002 بوصف ذلك النظام «مدعاة لعدم الاستقرار» في المنطقة وغير ملتزم «بالديمقراطية» و«حقوق الانسان»، وقد عقبت على نتائج تلك القمة في صحيفة «الوسط - 20 اكتوبر 2002.

ثم تابعت الاجتماعات الوزارية الثلاثية الممتدة عن القمة في «اديس ابابا» بتاريخ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2002 ثم الخرطوم بتاريخ 10 إلى 12 يناير/ كانون الثاني الجاري.

ولم يكن يزعجني لا في قرارات قمة صنعاء ولا الاجتماعات الوزارية اللاحقة حديث «الأنظمة» في اثيوبيا واليمن والسودان عن الديمقراطية ومحنتها في ارتيريا وكذلك لجنة «حقوق الانسان» فتلك امور لها «تقديرات اخرى» في ارتيريا ضمن تواصل تجربتها النضالية منذ العام 1961 و«اهل مكة ادرى بشعابها» ويقع ذلك كله في إطار «المقدور عليه».

ولكن الذي ازعجني فعلا تلك المناقشة التي تمت بين وزير الخارجية الاثيوبي «سيوم مسفن» والمعارض الارتيري «ادحنوم قبر ماريام» ضمن اجتماع بينهما في الخرطوم رتبته الحكومة السودانية في يوم الثلثاء 14 يناير الجاري. إذ تناول الطرفان البحث في «قضايا تقرير المصير للقوميات - الارتيرية».

الآن وضحت الامور تماما، اي ما يريده محور صنعاء الثلاثي الان هو «رأس ارتيريا» نفسها وليس «رأس النظام» الارتيري.

فحين يطرح النظام السوداني الذي رتب هذا اللقاء بين الاثيوبيين المعارضين الارتيريين حق تقرير المصير للقوميات في ارتيريا فذاك يعني بوضوح العودة إلى مشروع 1943 والذي تفاهم عليه حاكم عام ارتيريا «تزافاسكش« ممثل الانتداب البريطاني على ارتيريا بعد هزيمة ايطاليا، والسكرتير الاداري البريطاني في السودان (نيوبولد) والقاضي بتقسيم ارتيريا بين اثيوبيا والسودان.

فتضم مرتفعات ارتيريا التي يقطنها مسيحيو التجرينيا وكذلك منيائا «مصوع» و«عصب» إلى اثيوبيا، فيما تضم منخفضات ارتيريا الغربية وسواحلها ومرتفعاتها الشمالية إلى السودان.

جوبه مشروع التقسيم للعام 1943 بالرفض التام من الشعب السوداني والارتيري، فحاولت بريطانيا ايجاد مشروع آخر لتجزئة السودان وارتيريا معا، وذلك بضم شمال ارتيريا وغربها إلى «شرق» السودان وتكوين دولة جديدة تعتمد على وحدة الاثنيات الجامعة لقبائل «البجا» في هاتين المنطقتين، الارتيرية والسودانية باسم «دولة البجا الكبرى» ثم الحاق ما تبقى من ارتيريا (المرتفعات والسواحل الشرقية والجنوبية) باثيوبيا. وقد تم ايضا رفض مشروع دولة البجا الكبرى.

ثم حين عرضت قضية مصير ارتيريا على الامم المتحدة طرح مندوب بريطانيا خطة التقسيم بتاريخ 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1950 وكاد ان يمر هذا الاقتراح لولا معارضة «قدرية الهية»، غير متوقعة، حين رجح مندوب «هايتي» اصوات المعارضين للتقسيم بصوته «الواحد» ولم يكن الأمر يعنيه كثيرا ولا يعني دولته الصغيرة فاغتاظت منه بريطانيا وفصل سريعا من منصبه.

ثم كررت بريطانيا محاولتها عبر «نيوزيلاندا» في جلسات العام 1949 إلى ان انتهت الجمعية العمومية بإصدار القرار الفيدرالي بين ارتيريا واثيوبيا رقم (390 - أ - 5) بتاريخ 2 ديسمبر/ كانون الاول 1950 والذي حولته اثيوبيا إلى «احتلال مباشر» تدرج في إحكام قبضته على ارتيريا منذ بداية تنفيذ القرار الفيدرالي في 15 سبتمبر/ ايلول 1952 وإلى ان اعلنت ضم ارتيريا اليها في 14 نوفمبر 1962.

قد حاولت سوابق محاولات التقسيم الاستعماري تلك منذ 1943 إلى 1950 وعلى مدى سبع سنوات النفخ في نزعتين:

الاولى وهي: «الاتنية البجاوية» في شرق السودان وشمال وغرب ارتيريا. والثانية وهي «الاتنية التجرينية» في مرتفعات ارتيريا. مع اضافة العامل «الديني» لهذا النفخ «الاثني» نظرا إلى سلامة غرب وشمال ارتيريا، ومسيحية المرتفعات.

وفي احشاء هذا التناقض ظهر مشروع وحدة مرتفعات ارتيريا مع شمال اثيوبيا والذي عرف «بتجرينيا/ تجراي» إذ يتحدر هؤلاء من اصول «اكسومية» واحدة. وبشر به كثيرون وأبرزهم المرحوم «ولد آب ولد ماريام» إذ كان يرى ان ارتيريا تتكون من شعبين مختلفين (التجرينيا وأصلهم يمتد إلى التجراي في شمال اثيوبيا) و(البجا في شمالها وغربها).

وإلى حد كبير يتبنى قادة بارزون في «الجبهة الشعبية لتحرير تجراي» - والتي تحكم اثيوبيا الان بقيادة «مليبس زيناوي» هذا الاتجاه. وهذا هو «محور الخلاف الجذري» بينهم وبين افورقي الذي ينتمي إلى اثنية التجرينيا/ تجراي نفسها فأفورقي ينظر إلى «كل» ارتيريا باعتبارها شعبا واحدا «متداخل الهويات» وليس شعبين كما افترض «ولد آب ولدماريام» وبعض قادة «تجراي». ويربط في ذهنيته التاريخية عن تكوين ارتيريا بين ثقافة الساحل الارتيري «ادوليس - مصوع» وبين ثقافة مرتفعات ارتيريا «الكبسا» بشكل يميز حضاريا ابناء تجرينيا في مرتفعات ارتيريا والعاصمة «اسمرا» عن ابناء عمومتهم في الجبل الاثيوبي «المغلق» في منطقة «تجراي».

كما يرى «اسياس» ان العلاقات بين مرتفعات ارتيريا وسواحلها ومنحدراتها هي علاقة تفاعل ووصل «وليست» علاقة فصل وان التجربة النضالية «الوطنية السياسية» قد عمقت من «التفاعل الثقافي» داخل ارتيريا بحيث تتجه مرتفعات ارتيريا المسيحية التجرينية إلى سواحلها وشمالها وغربها لتكوين الهوية الوطنية الارتيرية وليس «التجراي» في اثيوبيا.

لذلك حين كان اسياس يعتبر تحالف الجبهة الشعبية لتحرير ارتيريا مع التجراي في اثيوبيا تحالفا «استراتيجيا سياسيا » لزعزعة النظام الاثيوبي من داخله، كان بعض قادة الجبهة الشعبية لتحرير تجراي - والذين يحكم بعضهم اثيوبيا الآن - يعتبرونه «تحالفا اثنيا» ينتهي باستتباع ارتيريا والحاقها وجعل سيادتها واستقلالها أمرين شكليين فلما اصدرت ارتيريا عملتها الوطنية بتاريخ 14 يوليو/ تموز 1997 واصر اسياس على اطلاق اسم مدينة الصمود في شمال ارتيريا «نقفة» على تلك العملة اعتبرت حكومة اثيوبيا «التجراوية» ان ذلك بداية التمرد «وفك الارتباط القومي» بها. وهذه هي الاسباب الحقيقية للحرب وهدفها «فرض الطاعة» على ارتيريا وليس مسألة حدود.

والآن مخطط التقسيم من جديد

لقاء الخرطوم الاخير 14 يناير الجاري اوضح الامر تماما، فالمطلوب الان اقتسام ارتيريا «قوميا» بين اثيوبيا والسودان، ثم تكون لليمن حصتها التي تجعلها «سعيدة» في «كل» حنيش وزقز والمياه الاقليمية.

ولولا انه مقال صحافي لسودت صفحات تنوء بحمل مراجعها العصبة اولو القوة، ولهذا لا حوار ولا تسامح مع اي طرف ارتيري يدعي المعارضة الان لتحرير ما لا يمس من سيادة ارتيريا ووحدتها واستقلالها، ارتيريا الساحل والجبل والمنخفضات، ارتيريا التجرينيا والبجا.

اما المتحالفون الثلاثة فقد تجاوزوا «الخطوط الحمراء» فأرادوا «تدنيش» ما هو «مقدس» روي بدماء سبعين الف شهيد ومئة الف دفعوا من اجسادهم وهم احياء.

اما اخطاء افورقي فنحن نعلمها، فكم من «خطأ ضروري» ارتكب «بحكم الضرورة» ولم يكن عنه ثمة مناص، ومن ضمن ذلك التحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير تجراي بضرورة زعزعة النظام الاثيوبي العام 1975 في حين لا يشكل التجراي الذين زحفت بهم القوات الارتيرية إلى اديس ابابا في مايو/ ايار 1991 سوى 7 في المئة من الشعب الاثيوبي في حين يشكل «الاورمور» نسبة 50 في المئة و«الامهرا» نسبة 25 في المئة.

و«الخطأ الضروري» الآخر كان العلاقة مع «اسرائيل»، فوحدها - «اسرائيل» - كانت تملك «الفيتو» الذي يحول دون اي علاقة بين الثورة الارتيرية والولايات المتحدة الاميركية واوروبا اي صانعي القرار الدولي. وهذه القوى منحازة لاثيوبيا وليس لارتيريا كما «يتوهم» البعض من الاعلاميين.

هذه «الاخطاء الضرورية» يجب ان تصحح الان بعد ان وصلت الموس إلى حلق السيادة الارتيرية ووحدة ارتيريا، وهي في طريقها للتصحيح وبقيادة «افورقي» نفسه. ولا يحتاج المهتمون إلى كثير متابعة لادراك ذلك.

Top
X

Right Click

No Right Click