اللغة العربية في ظل نظام الجبهة الشعبية هل تستعيد مكانتها بعد تهميش متعمد؟ الحلقة الخامسة والأخيرة
بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح
هل لي أن أشك؟
ذكرت من قبل أن الرئيس إسياس أفورقي يحلو له أن يشير إلى الإنجليز بأنهم ـ حسب رأيه من وراء إدخال اللغة العربية في إرتريا،
بقصد شق المجتمع الإرتري إلى عرب وتجرنيا، ومسيحيين ومسلمين، ومنخفضات ومرتفعات، كما يحلو له أن يتهم كل من يخالفه في قناعته هذه وينادي بأحقية الوجود الدستوري والثقافي للغة العربية في إرتريا، بتكريس سياسات الإنجليز التقسيمية، وأن يوبخه متى ما تجرأ على طرح سؤال من هذا النوع !!.
وإذا كان الرئيس يشك في وطنية من هو على خلاف معه في هذه المسألة، ويتهمه بأزمة هوية فهل من حق مخالفيه المتهمين من جهته بأزمة هوية، أن يشكوا هم بدورهم في نوايا سياسات الرئيس إسياس أفورقي ودوافع موقفه وموقف نظامه السلبي من اللغة العربية، من غير أن يبادلوه الاتهام نفسه؟.
الشك غير السوفسطائي هو ـ في حد ذاته ـ أول خطوة في طريق التفكير الصحيح عند بعض المدارس الفلسفية، فقد شك (ديكارت) في جميع الأشياء التي تأتيه عن طريق الحواس وبواسطتها، ولكنه مع شكه هذا فهو لا يشك بأنه يشك، أي لا يشك بأنه مفكر؛ لأن الشك فكر، ولا يشك أنه موجود؛ لأن الفكر صفة لا تقوم بغير موجود يتصف بها.
والشك عندما يكون فكرا كما يقول ديكارت من الممكن أن يكون طريقا إلى اليقين، وكثير من الأبحاث العلمية التي تجيئ بحلول لمشكلات تعاني منها البشرية في كثير من قضاياها الاجتماعية، والفكرية، والسياسية تبدأ من الشك، ومن حق كل فرد منا أن يشك فيما حوله ما دام شكه هو أول طريق يقينه، ولكن لا بد أن يكون ذلك ضمن معطيات واقعية ومقدمات منطقية، تؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة تفسر حقيقة المشكلة القائمة، وتشخص ماهيتها والدوافع الكامنة من وراء وجودها ومن ثم طرح الحلول الممكنة.
عزل اللغة العربية والتضييق عليها وحرمانها من حقها الدستوري والثقافي، ومحاولة تجرنة المجتمع الإرتري هو أحد المشكلات الجزئية حاليا ـ وليس الكلية ـ في ظل نظام الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، بقيادة الرئيس إسياس أفورقي، بحكم أن المشكلة الكلية والرئيسة تتمثل في انعدام العدالة الشاملة، وسلب الحريات العامة، وغياب الدستور وسيادة الفرد !!.
وهذا مما يستدعي الشك في كل ما يقدم إلينا من سياسات يقول عنها منظروها ومنفذوها في نظام الجبهة الشعبية: إنها بنَّاءة، توجبها حسب قناعتهم الوحدة الوطنية ومصلحتها العليا !!
وصف اللغة العربية بالمشكلة:
وفي حالة من الشك في مثل هذه المقولات التي تردد على أسماعنا بين الحين والآخر، يمكن القول: ليس ثمة جدل حول وصف حالة اللغة العربية بـ(المشكلة) الجزئية، فهي بلا شك مشكلة بغض النظر عن حجمها، وتباين الآراء في تفسيرها، وإلا لما كان إنعقاد ندوة وزارة التعليم في مارس 1997م بشأن التعليم بلغة الأم، ثم هذه الندوة من الوزارة ذاتها التي عقدت من 9ـ 10 إبريل 2010 عن (أهمية ومكانة اللغة العربية في إرتريا) قدمت فيها ورقتا السفيرين (هيجي) و(بادوري) وشهدت حضور كبار الشخصيات القيادية من الحزب الحاكم ومنظريه !!
هي مشكلة بالنسبة للنظام؛ لأن الشكوك ما زالت تحوم حول سياسته المتبعة بشأن اللغة العربية وتسبب له نوعا من العزلة مهما أظهر أنه في عافية من أمره، وفي تلاحم مع شعبه، ومهما تجاهل الأصوات المطالبة بها، وهي مشكلة بالنسبة لشريحة كبيرة من المجتمع الإرتري باعتبار أنها جزء لا يتجزء من هويتها الوطنية والثقافية ويزعجها كثيرا أن تفقد حقها الدستوري والثقافي في المجتمع الإرتري، ومن غير شك يصبح الوطن بالنسبة لها بلا معنى ما دامت العزلة مفروضة على اللغة العربية والفيتو مرفوع ضدها !!
لكن من المعلوم بداهة أن حل المشكلة الجزئية لا يمكن أن يكون مجديا ونافعا من غير حل المشكلة الكلية الأساسية، وبما أن عزل اللغة العربية في إرترية وتهميشها، مع فرض سياسات التجرنة، جزء من مشكلة كلية وأساسية، تتمثل في ما أشرت إليه من إنعدام العدالة الشاملة، وسلب الحريات العامة، وغياب دستور مجمع عليه، وسيادة الفرد، واحتكار السلطة، فإن حلها لا أتوقع أن يكون من خلال ندوة أو ندوتين من وزارة التعليم أو غيرها من الوزارات، ولا من خلال ورقتي السفيرين (هيجي) و(بادوري) مع كبير التقدير والإحترام للجهد الذي بذلاه في محاولة إقناع الاتجاه الشيفوني من التجرنياويين في الجبهة الشعبية بأهمية اللغة العربية، وعمقها التاريخي والثقافي في المجتمع الإرتري.
وبغض الطرف عما إذا كان جهدهما هذا سينال رضا وقبول من بيده عقدة النكاح الرئيس إسياس أولا، بوصفه صاحب التنظير الأول في تهميش اللغة العربية؛ فإن ثمة مخاوف حضارية تقف في نظري من وراء تعقيد الأمر، وهذا ما يجعلني أنا شخصيا ومن يشاطرني الرأي ممن هو على شاكلتي نتساءل عن نوايا سياسات الرئيس إسياس أفورقي السلبية ودوافعها الحضارية من اللغة العربية في إرتريا، ونشك في قدرة هاتين الورقتين غلى تخطي الخطوط الحمراء في مسألة اللغة العربية، وإلا لما أهمل أبو عري في كهوف السجن وظلامه !!
وتأسيسا على نظرية الشك هل لنا أن نتساءل عن نوايا الرئيس إسياس أفورقي تجاه اللغة العربية عما إذا كانت هي نوايا ومخاوف المستعمر الأوروبي نفسه الذي وقف من اللغة العربية في عالمنا الإسلامي يوم احتلها الموقف نفسه الذي يقفه منها الرئيس إسياس أفورقي في إرتريا حاليا بعد الاستقلال، ووقفه منها الإمبراطور الإثيوبي يوم دخل إرتريا غازيا ومستعمرا بمساندة المستعمر الأوروبي؟
هل ثمة إنسجام وتوافق بين سياسات الرئيس إسياس أفورقي السلبية من اللغة العربية في إرتريا وسياسات المستعمر الأوروبي منها في العالم العربي والإسلامي وأيضا سياسة أباطرة الحبشة وملوكها الإقطاعيين ؟
للإجابة على مثل هذه التساؤلات من الضروري استعراض سياسات المستعمر الأوروبي أولا، وبعض ملوك الحبشة الإقطاعيين ثانيا ثم ترك المجال للقارئ الإرتري ليقارن بين السياستين من أجل أن يصل إلى نتيجة هو يراها.
أولا: الفرنسيون واللغة العربية في الجزائر:
أصدر وزير داخلية فرنسا في الجزائر قرارا في 1938/3/8م زعم فيه أن اللغة العربية في الجزائر أجنبية، وأن الجزائر أمازيغية، وعلى هذا طبقت فرنسا سياسة تهميش اللغة العربية وعزلها كليا عن الحياة العامة في سبيل فرنسة الشعب الجزائري التي واجهها رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس الأمازيغي البربري بشعاره الشهير: شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب.
وما زالت فرنسا حتى هذه اللحظة تطبق هذه السياسة على أبناء الجالية المغاربية المهاجرة إلى فرنسا، فقد كتب السيد عثمان سعدي رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية في جريدة الحياة 2000/4/19 يقول: "في يوم 2000/1/7م أصدرت وزارة التربية الفرنسية قرارا يطبق في امتحانات البكالوريا ينص على أن يكون امتحان اللغة العربية بالنسبة للطلاب العرب من المغرب العربي بالحرف الفرنسي، أي أن النصوص العربية التي تقدم في ورقة الامتحانات تكون مكتوبة بالحروف الفرنسية، وإن الجواب يكتب بتلك الحروف، ويشمل هذا القرار الغريب التوقف عن تدريس العربية الفصحى التي يعتبرها القرار لغة تعاهدية غير حية، واستبدالها باللهجات العامية العربية... وحجة وزارة التربية الفرنسية أن الفصحى غير مستعملة في بيوت الطلبة المغاربة، وإن العربية مفروضة أيدلوجيا من طرف القومية العربية التي انتهت وماتت".
المنطق نفسه يقوله منظروا الجبهة الشعبية (لا يتحدث العربية غير الرشايدة) (اللغة العربية غير مستعملة في البيوت) (إنها مفروضة من الإنجليز) (وافدة من الخارج نتيجة التأثر بثقافة ما بعد اللجوء)!!
ثانيا: الإنجليز واللغة العربية في جنوب السودان:
كذلك فعل الإنجليز في جنوب السودان حيث كتب السكرتير الإداري في السودان (ماك مايكل) في مذكرته التي أعدها في 10 سبتمبر 1928 عن مسألة اللغة العربية قائلا: إن نشر اللغة العربية بين زنوج الجنوب يعني نشر الثقافة العربية والديانة الإسلامية".
وبعد دراسة اللورد (ليود) المندوب السامي البريطاني في مصر لآراء حكومة الخرطوم حول اللغة العربية في الجنوب كتب إلى لندن قائلا: "إنه من المرغوب فيه، ولاعتبارات سياسية، وإدارية، ودينية، وتعليمية، اختفاء اللغة العربية من جنوب السودان، وأن تحل اللغة الإنجليزية محلها في المناطق التي يكون التخاطب غير عملي باللهجات المحلية، وينبغي تشجيع الإداريين البريطانيين تعلمها".
تنفيذا لهذه السياسة كتب مدير بحر الغزال إلى المفتش (راجا) من مركز المديرية التي انتشرت فيها اللغة العربية قائلا: "أرجو أن تذكر دائما أنه ينبغي عمل كل شيء وإن كان صغيرا تافها يكون من شأنه المساعدة ولو بقدر ضئيل على محو اللغة العربية، وتشجيع اللهجات المحلية، والوعي القبلي، واللغة الإنجليزية بدلا عنها، وإيقاف الكلمات العربية مثل: شيخ، وسلطان، واتخاذ العبارات المقابلة لها في اللهجات المحلية كلفظة (بنج) مثلا في مناطق الدينكا، كما ينبغي حث زعماء العشائر وعامة الناس على الحفاظ على أسمائهم القبلية، فيجب أن يشجعوا على استعمالها".
السياسات نفسها ينتهجها نظام الجبهة الشعبية (الحرف اللاتيني) بدل الحرف العربي (لغة الأم) بدل اللغة العربية، كتابة (التجري) (بحرف الجئز) بدل كتابتها بـ(الحرف العربي)!!
ثالثا: ملوك الحبشة واللغة العربية في الحبشة:
على الخط نفسه سار ملوك الحبشة وأباطرتها حيث اتخذ جميعهم مواقف سلبية من اللغة العربية ومعادية لها لمخاوف حضارية، وأسباب عقدية، فقد منع (منيليك) "استعمال اللغة العربية في هرر" وفقا لما ذكره فتح غيث في كتابه (الإسلام والحبشة عبر التاريخ).
ولما جاء الإمبراطور هيلي سلاس اتبع سياسات أكثر تشددا وتزمتا، يقتفي أثر من سبقه من أباطرة الحبشة المتعصبين، في محاربة اللغة العربية في الحبشة كلها، وفي إرتريا على وجه الخصوص، وإحلال اللغة الأمحرية محلها، حين دخلها غازيا مستعمرا، وهو ما لاقي مقاومة حادة وجادة من كل الإرتريين الأحرار الذين آمنوا بوحدة الشعب الإرتري في كيان إرتري موحد ومستقل عن الإرادة الإثيوبية ورغبات أباطرتها الإقطاعيين الشيفونيين وناضلوا في سبيل ذلك إلى أن تحقق وجود هذا الكيان بشكل رسمي عام 1993م.
هل لي أن أشك؟
هذه هي سياسات المستعمر الأوروبي في التعامل مع اللغة العربية، وهذه هي سياسات الجبهة الشعبية في الموقف من اللغة العربية في إرتريا وعلى المواطن أن يقارن ليحدد أين نقاط التلاقي وأين نقاط التباين والاختلاف.
وإذا كان من حق كل فرد منا أن يشك وأن يجعل من الشك منطلقه في تحليل الظواهر التي حوله فهل لي أن أشك ـ وفقا للمعطيات التي أوردتها ـ في دوافع سياسات الرئيس إسياس أفورقي السلبية من اللغة العربية في المجتمع الإرتري؟
هل لي أن أشك في براءة هذه السياسات ووطنيتها حين تتهم كل من يطالب باسترداد الحق الدستوري والثقافي للغة العربية بأنه يعاني من (أزمة هوية) على حد تعبير الرئيس إسياس أفورقي؟
هل لي أن أشك في مرامي ومقاصد فرض سياسات التعليم بلغة الأم وشغل الناس بما يعرف بتطوير ثقافة القوميات وبعث فلكلورها التراثي؟
هل لي أن أشك في قدرة ورقة السفيرين (هيجي) و(بادوري) على تغيير هذه السياسة أو التعديل فيها بحكم أن الأمر أكبر من إرادتهما وفوق قناعتهما؟
هل لي أن أشك في أهمية وجدوى ندوة تعقد هنا أو هناك حول جزئية من مشكلة كبرى وأساسية، وهي مشكلة السلطة بحذافيرها، والتي أضحت حكرا في يد فئة بعينها، وحرم منها الآخرون كما أبانتها وثيقة المفتي بإحصائية في منتهى الدقة والشفافية؟
هل لي أن أسأل: ماذا يجدي اعتماد اللغة العربية بشكل وآخر والسلطة على هذه الحال حكر في يد هذه الفئة؟
أليس من حق المظلومين والمهمشين أن يشكوا في أهداف وجدية ندوات لا تلامس أساس المشكلة، ولا تقترب منها، وأن يشكوا في نوايا صانعي القرار الحقيقيين في نظام الجبهة الشعبية ما دامت العدالة على هذا النحو مقصوصة الجناحين تعجز عن الرفرفة في سماء البلاد؟
أليس من الجدية الوطنية، وضرورات العدالة الحقيقية أن تعالج المشكلة من جذورها وأساسها، في ندوة تحاورية، يشارك فيها الإرتريون جميعهم، بكل أطيافهم السياسية، وفئاتهم القومية، ومعتقداتهم الدينية، وتبايناتهم الجهوية، وليس عبر معالجة جزئية، في ندوة جانبية، لا تمثل أدنى ثقل سياسي في معايير النظام الذي أقامها، وليس لقراراتها ولا للأوراق التي ألقيت فيها أي تأثير فاعل من غير موافقة عليا؟!!