نيازك في سماواتنا Meteors in our Skies

بقلم المناضل الأستاذ: حامد ضرار - رئيس سابق لحزب الشعب الديمقراطى، لندن المملكة المتحدة

هناك ثمة إناسٌ كالشمس نحتاج إليهم ليضفوا على حياتنا بريقاً خاصاً وكثيرون هم الذين نحبهم

نوارس ونيازك في سماواتنا

ونراهم استثناء عن غيرهم، ولكل منَّا قائمةٌ قد تطول، وبما أن الحياة مهما طالت جد قصيرة، يكون معها جميلاً ومهمًا أنْ نسلط أضواءنا على بعضٍ من الجوانب الساطعة التي تعجبنا في من نراهم نيازك في سماواتنا والذين تعرفنا عليهم عن كثب.

قائمة النيازك عندي وأسماء الذين تركوا أثراً إيجابياً في حياتي وحتى في شخصيتي، ومن مختلف الأعمار ومن مختلف الجنسيات ومختلف الأمكنة، بالمئات وربما بالآلاف، للحد الذي إذا حاولت أن أكتب سطراً واحداً فقط عن كل منهم، فالأمر سيستغرق مني كل العمر دون أن انتهي من مهمة الكتابة، الشيء الذي يضطرني لأن اختار بين فترة واخرى شخصية ما، لا على التعيين، من تلك القائمة الطويلة، فاكتب عنها بضعة أسطر. وبطبيعة الحال، في الغالب، وإلّا في حالات استثنائية، يكون محور تلك النيازك من الأحياء الذين مازالوا بتفاعلهم وعطائهم نيازك ساطعة في حياتنا بحضورهم ويشغلون حيزًا في ذاكرتي.

ويجدر بي أنْ أنوّه إلى أنَّ ما أورده هنا من مفردات أو معلومات تأتي هكذا عرضياً وليس بالضرورة ناتجة عن إجراء بحث من أي نوع، لأن ذلك مجالًا آخر ومهمة تتطلب التفرغ، وبالتالي كم سيكون مفيدًا عدم التدقيق في صحة المعلومات من خطئها، لأنَّ الرسالة المستهدفة من الكتابة، هو الشخصية وليس شيئًا آخر. كما ينبغي التنويه، أنَّ ما أكتبه لا علاقة له بمواقف الأشخاص السياسة، والذين أسميهم هنا "نيازك" فإذا انحصر الأمر في السياسة، فقد نختلف ونتباين في قراءاتنا ومواقفنا، هنا أو هناك. عليه الأمر عندي يؤخذ بمعزل عن قناعاتنا الفكرية وإلتزاماتنا السياسية، فالأخيرة تشكل حيزًا ضيقًا من اهتمامي المتصل بتلك النيازك... لأن الحياة أوسع بكثير من مجرد نقاشات سياسية عابرة، مع أهمية السياسة ولكن في غير مكان...

تنويه لا بد منه: كان مخططاً في الأصل نشر هذه الحلقة من سلسلة "نوارس ونيازك في سماواتنا" بالعربية في يوم 10 أغسطس من عام (2019) ، أي قبل سنة ونصف من الآن. فقد تعودت أن أكتب الموضوعات التي أرى أنها مهمة وتستحق مني أن ألتفت إليه لإعتقادي أنها قد تفيد الجيل الحالي، نعم عمدت على أن أكتبها على الأقل باللغتين العربية والتغرنيا. وبالفعل قد نشرت نسخة التغرنيا في العاشر من أغسطس 2019 ووجدت، في حينها، تفاعلًا مذهلًا ومنقطع النظير من القراء. ولأسباب خارجة عن إرادتي لم أجد الزمن الكافي للنسخة العربية، لانخراطي في هموم ونشاطات أخرى استغرقت وما زالت كل وقتي.

البطاقة الشخصية:

مكان وتاريخ الميلاد: علي قدر 15 مارس 1944

الدراسة:
المرحلة الأولية: بلدة على قدر
المرحلة الثانوية: مدينة تسنيْ
الجامعة: أسمرا كلية الزراعة 3 أعوام ومن ثم الإلتحاق بكلية الهندسة المعمارية في ذات الجامعة؛

اللغات: العربية والانجليزية والإيطالية والتغرنيا والبلين والتقرى والأمهرية.

النشاطات السياسية: بدأ نشاطه الطلابي السياسي وهو في بداية المرحلة المتوسطة عام 1957.

في عام 1960 التحق بحركة تحرير إرتريا وهو مازال طالبًا في كلية الهندسة المعمارية وحينئذٍ كان المناضل ياسين عقّدا مسؤولًا للحركة في أسمرا.
بسبب نشاطاته ووعيه المبكر كان نيزك هذا اليوم على اتصال بمعظم النشطاء الذين انخرطوا في العمل الوطني، فكانت له اتصالات مع المناضل محي الدين منسق فعاليات الحركة ما بين السودان وأديس أبابا. فضلًا عن علاقاته مع المناضل سيد أحمد محمد هاشم عضو المجلس الأعلى للجبهة ومسؤولها داخل إرتريا، والذي حضر إلى البلاد بعد تخرجه في القاهرة، فمعرفته السابقة لذلك العضو القيادي سهلت له أمر التواصل معه ومع غيره، رغم الظروف البالغة التعقيد والمحفوفة بالملاحقات الأمنية. وعن طريق المناضل سيد أحمد محمد هاشم تم تجنيد نيزك اليوم في خلايا جبهة التحرير الإرترية ووتعريفه بالشهيد سعيد حسين والفدائيين الذين كانوا يتسللون إلى داخل العاصمة أسمرا.

أثناء فترة الدراسة في الجامعة قام النيزك الذي نحن بصدده اليوم وبمعية كل من محمد نور كيكيا وود قاضي ودبساي قبري سلاسي وغيرهم بالمساهمة بتكوين نشاط طلابي محدود، ما لبث أن توسع ليشمل كل المدينة، وقد أضحى اتحاد طلبة أسمرا، ذلك لاحقًا النواة لتأسيس اتحاد الطلاب الإرتريين.

وكنتيجة لذلك النشاط الطلابي المنسق ظهرت مجموعة باسم "حزب التأهيل الإرتري" Eritrean Rehabilitation Party كانت مهمتهم تتمحور، كما يستحضر النيزك، في توزيع منشورات حركة تحرير إرتريا أو كل ما يصدر من بيانات تحريضية من المثقفين وتحث الشعب على مقاومة التسلط الإثيوبي الذي بدأ يقضم الحقوق الوطنية. ومن الأعضاء النشطين لتلك المجموعة حسب ما تجود به ذاكرة نيزكنا، كان كل من صلاح الدين عبدالله ويوهانس قرجا وتولدى مدهان الذي قتل عام 1967 في حوادث المنطقة الخامسة التي تم تكوينها في 17 أكتوبر 1966 بحضور المناضل إدريس قلايدوس عضو المجلس الأعلى ومسؤول الشؤون الداخلية للجبهة في ذلك الوقت. كما حضر تأسيس تلك المنطقة العسكرية قادة المناطق الأخرى التي سبقت الخامسة في التأسيس. وكان من بينهم المناضل محمود ديناي للأولى والمناضل عمر إزاز للثانية والمناضل حامد صالح ممثلًا للمناضل عبدالكريم أحمد "سني فالو" وغيرهم.

لم تتوقف علاقات نيزك اليوم عند ذلك الحد، بل كانت له علاقات نضالية وشيجة مع المناضلين في القيادة الثورية وقيادات وكوادر أخرى: كان منهم على سبيل المثال لا الحصر، كل من:-

1. محمد سعد آدم؛

2. جعفر محمد؛

3. الزين ياسين؛

4. صالح إياي؛

5. عمر الحاج إدريس؛

6. صالح حدوق؛

7. محمود محمد صالح؛

8. وآخرون.

في عام 1964 وضمن نشاطه الطلابي والسياسي كان النيزك الذي نحن بشأن تأمل حضوره الوطني في زيارة من أسمرا إلى أغردات وهناك قابله أحد كوادر الجبهة وهو المناضل صالح محمد سعيد. وبعد المناقشة والحوار قام بتسليمه نسخة من اللائحة التنظيمية الداخلية للطلاب للعمل بموجبها في أسمرا. وكانت تلك بمثابة اللائحة الأولى من نوعها بالنسبة للنشاط الطلابي في العاصمة، والذي أخذ في التزايد والتعاظم بالتوزي مع استمرار نشاط الفدائيين بقيادة المناضل سعيد صالح، وبروز نشاطات مماثلة لكثير من الوطنيين الآخرين في تلك الحقبة والموجهة ضد المحتل الإثيوبي.

كان طلاب أسمرا وقياداتهم وفي مقدمتهم نيزكنا وبالإشتراك مع مدرستي لؤول مكنن ومدرسة هيلي سلاسى ومدارس ثانوية أخرى وبالتنسيق مع الشهيد سعيد حسين وبقية الفدائيين ينظمون سريًا الطلاب ويحثونهم للقيام بالتظاهرات والاحتجاجات الرافضة للوجود الإثيوبي. وفي المواجهات التي كانت تنتظم أسمرا بين الطلبة وقوات الأمن والشرطة التابعة لقوات الإحتلال الإثيوبي، كانت تحدث إصابات ووفيات كاستشهاد الطالب محمد حسين عضو الحركة الطلابية.
أيضًا بمشاركة نيزكنا، مع كل من سيد أحمد محمد هاشم مسؤول أسمرا وصالح محمد سعيد في أغردات والشهيد سليمان آدم سليمان مسؤول تسني ويمعيته فكي علي وفرانكو مرفيجا صاحب شاحنة (قوندران) كان يعمل في خط أسمرا أديس أبابا وشخص آخر اسمه إبراهيم زينو كان هو الآخر يعمل في خط تسني أسمرا، من كل هؤلاء تم تشكيل حلقات الاتصال والإرتباط بالجبهة. وكان دور أصحاب الشاحنات يتمحور حول ترحيل الكوادر والمسؤولين من مكان إلى آخر للحيلولة دون وقوعهم في أيدي الشرطة وقوات الأمن التي كانت تلاحقهم لغاية إضعاف الثورة ووأدها.

دور أصحاب الشاحنات كان مهما، فعبرهم تم ترحيل الشهيد سليمان آدم سليمان وانقاذه من خطر اعتقاله من قبل قوات الأمن والشرطةا. كما تم وبذات الطريقة انقاذ حياة المناضل سيد أحمد هاشم الذي حُكم عليه بإبعاده للعمل من إرتريا إلى إثيوبيا كمراجع عام عندما تم اتهامه بالانتساب إلى الجبهة وقضت عليه المحكمة بالقول: أنه مادام لم يخرج المتهم من الأراضي الإثيوبية إلى دولة أخرى، فعقوبته فقط تحويل مكان عمله إلى إثيوبيا بدلًا من المحافظة إرتريا. هنا قام السائق فرانكو ميرفيجا بإعادته إلى أسمرا بغية تهريبه لخارج البلاد. بيد أنه وبسبب إغلاق طريق كرن - كسلا وبسبب المخاطر التي كانت تحفه، تم إرسال المناضل سيد أحمد هاشم، أولًا إلى "عَيْلَتْ" عن طريق مصوع ومن هنا وبعد رحلة شاقة إلى السودان.

التحاق نيزكنا وأحد رعيل الثورة بالميدان:

رغم رغبة الكثير من الكوادر الطلابية والمدنية ومنهم المناضل الذي نحن بصدده اليوم، للإلتحاق بالثورة في أشهرها الأولى إلاَّ أن قيادة الجبهة فضلت بقاءهم داخل المدن لتحريك الشارع وتعبئته ضد المحتل الإثيوبي.

في نهاية عام 1965 تم اكتشاف نشاط وحركة مناضلنا من قبل السلطات الإثيوبية، فقرر الإلتحاق بالميدان ليخدم تنظيم الجبهة داخل الميدان وخارجه ففي عام 1975 شغل منصب ممثل التنظيم في كسلا والذي كان يهتم بكل السودان كما عمل في دول كثيرة كإيطاليا وفي مراحل لاحقة حتى بعد استقلال إرتريا عمل في السودان وإثيوبيا ممثلًا لتنظيم المجلس الثوري ولاحقًا حزب الشعب الديمقراطي الإرتري.

شخصية اليوم - هي نيزكٌ في سماوات النضال من أجل الكرامة ولستة عقود دون انقطاع:

يحتفل اليوم 15 مارس 2021 نيزكنا وهو المناضل جمع أحمد بخيت بعيد ميلاده السابع والسبعين، أمضى منها 63 عامًا بالتمام والكمال وهو يعمل بإخلاص في مرحلة النضال المسلح لتحرير وطنه واستقلالها، والتي أخذتْ من عمره 33 عامًا، ولينخرط بعدها في معركة تحرير الإنسان وانعتاقه من الديكتاتورية والتسلط وبناء دولة المؤسسات التي هي الأخرى خصمت من عمره حتى الآن 30 عامًا، وما زال عطاؤه متواصلًا حتى اليوم دون كلل أو ملل.

يا لها من معارضة وثورة تكافىء مناضليها بالتجاهل والإهمال:

جمع أحمد بخيت، الذي اعتبر النضال وثورة الشعب أسرته وهمه، ومن أجلها عاف كل مظاهر الفردية ولم يهتم قط لا بذويه ولا بأقربائه، بل لم يفكر البتة، في تكوين أسرة وانجاب أطفال إيمانًا منه أن كل أبناء إرتريا وبناتها هم بمثابة أبنائه. جمع أحمد بخيت، الرجل المتواضع وعلى عكس الكثير من قياداتنا، يصرُّ على اختيار مواقع العمل والتعب ويعزف عن تولي المواقع البراقة. فقد ناضل وعمل مع البسطاء واحتك ولازال بالعامة دون ترفع أوتأفف، رغم كونه أكثر الكوادر الإرترية تأهيلًا وتجربة لتولي أرفع المناصب. وقد تعرفت عليه وعرفته عن كثب، شخصًا مثالًا للتواضع والتفاني، محبًا للناس كل الناس دون الاهتمام بالروابط المجتمعية التي تتكأ على الإقليمية والقبلية وغيرها...

جمع أحمد بخيت، رغم كل ذلك الوفاء والإخلاص، تخلينا عنه جميعنا وتناسينا ما قدمه من خدمات ونضالات ندر أن يجد في ساحة النضال الإرتري من قدم كل حياته وكل ما يملك من أجل إرتريا كما فعل هذا النيزك والنورس الحقيقي الذي يستحق من كل الشعب الإرتري والمعارضة الإرترية، ليس تناسيه وهجره كما هو الحال، بل أن تشيّد له نصب تشريف وهو على قيد الحياة، في قلب العاصمة أسمرا وكافة المدن الإرترية، لتتعرف عليه كل الأجيال وتدرك بأنَّ جميعنا مدينون له بالكثير، وليعلم وليعرف الجميع أن هذا الرجل كان وما زال سعيدًا بما قدمه لإيمانه أنَّ كل أطفال إرتريا، وبالذات أولئك الذين ولدوا بعد 1957 أي بعد قرار التحاقه بالنضال، هم أبناؤه وبناته ومن أجلهم قدم كل غالٍ ونفيس.

أقول وبملء الفيه، رغم تخلينا جميعًا كأفراد وقوى سياسية، عن جمع أحمد بخيت في الوقت الذي كان "هو" يحتفل فيه بعيد ميلاده السبعين وحيدًا قبل حوالي 6 سنوات من الآن، تخلينا عنه في وقت كان يستحق أن يكرَّم ويرتاح بعد كل ذلك العطاء والعناء، تخلينا عنه للأسف وتركناه وحيدًا...

لحسن الحظ، فأنَّ كفاءاته اللغوية ومهاراته التي اكتسبها من دراساته الأكاديمية وتجربته الثرة، فتحت له باب عيش شريف ليعمل مستشارًا ومترجمًا مع منظمات إقليمية ودولية تأخذه إلى حيث اللاجئين والحروب ليساهم في مساعدتهم والتعرف على مشاكلهم، أكرر في حدث ذلك في وقت وساعة كان من المفترض أن يتوقف الرجل ويرتاح...

وعلى عكس كل توقع ورغم المرارة التي أحس بها أنا تجاهه وتجاه أمثاله من المناضلين، إلّا أن الرجل مدرسة متكاملة، في كل اتصال به وهو هناك في قارة بعيدة تعج بالمآسي يستقبلني ويحتويني عبر الهاتف باتسامته وضحكته المعتادتين ويفتح لي سفر ذكريات الثورة التي يحتفظ بأدق تفاصيلها، حيث أسماء المناضلين الذين رحب بهم لحظة وصولهم أرض الميدان وهم بالمئات ومنهم رئيس إرتريا الحالي إسياس أفورقي والكثير من المسؤولين في الدولة والمعارضة، الأحياء منهم والأموات، الذين نسوه وتناسوه. وعلى عكس توقعي يتحدث إليَّ جمع أحمد بخيت بنبرة مليئة بالتفاؤل ولا تبدو منه إيماءة امتعاض من أي شخص أو أي مجموعة. إنه بحق مناضلٌ قلَّ مثيله في ساحتنا.

في عيد ميلاده السابع والسبعين، لا أعرف ماذا أقول له أو ماذا أهديه وهو المناضل الصنديد الذي تخلينا عنه، نحن الآنانيين والإنتهازيين، الذين لا هم لنا إلّا التشبث والاستماتة بالظهور بمظاهر آنية ومزيفة...

فقط أقول له قائدنا وصديقنا المناضل جمع أحمد بخيت عيد ميلاد سعيد، ستظل نبراسًا وقدوةً لأبنائك وبناتك الذين من أجلهم ضحيت بكل شيء جميل وعانيت وتألمت وربما لحق بك الأذى من بعضنا نحن الذين تسلقنا فوق ظهرك لنرتقي هناك للوصول إلى اللاشيء... إلى السراب.

كن بخير وسلام وكلنا نحبك يا رجل...

Top
X

Right Click

No Right Click