مستقبل علاقة ارتريا مع إقليم تغراي - الجزء الرابع
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي
استئناف الحرب بتحالفات جديدة: خلفت الحرب آثار سياسية، اجتماعية واقتصادية عميقة في إريتريا
أكثر مما فعلت في إثيوبيا. سياسياً، استخدم نظام أسياس حرب 1998 لتعطيل تطبيق دستور 1997 ومنع التحول إلى الديمقراطية وذهب أبعد فاستخدمها كغطاء لانتهاكات واسعة وشاملة لحقوق إنسان حولت حياة الإرتريين إلى جحيم.
تدهور الاقتصاد الإريتري بسبب خسارته رسوم استخدام إثيوبيا لمينائي عصب ومصوع والتي بحساب ما حصلت عليه جيبوتي في السنوات العشرين الماضية بلغ ما يقارب ا 20 مليار دولاراً أمريكياً. وخسر الاقتصاد بسبب توقف التجارة مع إثيوبيا والتي بلغت أكثر من ثلثي تجارة إريتريا الخارجية في 1997. أحكم النظام سيطرته على هذا الاقتصاد المتدهور ومنع أي نوع من الاستثمار الخاص وأخضع جزء كبير من القوة العاملة في البلاد للعمل سخرة تحت مسمى الخدمة الوطنية.
في الجانب الآخر، حققت إثيوبيا في السنوات التي تلت الحرب نمواً اقتصادياً غير مسبوق تجاوز أحياناً حاجز الـ 10%، خفضت معدل الفقر وزادت عدد الملتحقين بالمدارس عدة أضعاف والأهم حققت قدراً كبيراً من الاستقرار. كانت هناك انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان لكن كان هناك أيضاً هامش للحريات يتسع ويضيق حسب الأوضاع الداخلية وتصاعد أو تراجع الضغوط الدولية.
دعم من كل الجبهتين جماعات معارضة للطرف الآخر والملاحظ هنا إنه على الرغم من أن إثيوبيا كانت تُحكم بواسطة تحالف يضم تنظيمات أربع، فإن ملف إريتريا، بما في ذلك التعامل مع معارضتها، كان حكراً على الجبهة الشعبية لتحرير ولم تشرك فيه أي من حلفائها.
صارت إثيوبيا تحت حكم التغراي في سنوات بعد الحرب قوة إقليمية فعالة، ساهمت في عمليات حفظ السلام وفي التأثير على توجهات وخيارات الدول المجاورة لها. وقد لعب رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي بما تميز به من ذكاء وقدرة على المناورة دوراً محورياً في إيصال بلاده إلى تلك المكانة مستخدماً رمزية إثيوبيا إقليمياً ودولياً ومستفيداً من اهتمام الغرب بمحاربة الإرهاب وميله لمقايضة الديمقراطية والعدالة بالاستقرار.
في 2002 أقامت إثيوبيا تحالفاً مع السودان واليمن من أجل إسقاط نظام أسياس لكنها فشلت في تحقيق هدفها واستخدمت لاحقاً نفوذها في المنظمات الإقليمية والدولية لعزل نظام أسياس ونجحت في ذلك مستخدمة تدخله في الصومال، ونزاعه المسلح الحدودي مع جيبوتي. استخدمت إثيوبيا أيضاً ملف حقوق الإنسان ضد نظام أسياس على الرغم من إنها هي نفسها كانت تتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة وقد فشلت مساعيها التي التقت مع منظمات حقوق الإنسان الإريترية والدولية في إجبار النظام على تقديم أية تنازلات في هذا الملف بسبب التطورات الدولية والإقليمية التي ساعدته ذلك في الخروج من عزلته.
مع اختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية في كل من إريتريا وإثيوبيا لصالح الأخيرة إلا أن التغيير حدث في إثيوبيا. كان هناك خلل كبير في بنية النظام السياسي الإثيوبي، فعلى الرغم من أن هذا النظام قام على التوزيع الإثني للسلطة فإن مجموعة إثنية تمثل ما يساوي حوالي 6% من السكان كانت تهمين على السلطة سيطرة تامة.
اعتقدت الجبهة الشعبية لتحرير تغراي التي كانت تدير البلاد من خلال تحالف إثني ضم بجانبها ممثلين عن أكبر مجموعتين إثنيتين في البلاد، الأورمو والأمهرا ومجموعات أخرى أصغر، أن إنجازاتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية ستمكنها بجانب اتباع سياسة فرق تسد بين القوميات الإثيوبية خصوصاً القوميتين الأكبر، ستمكنها من الاستمرار في حكم البلاد إلى ما لا نهاية. كان الخلل في توزيع السلطة وفرص الوصول إلى الثروة واضحاً وقد أثار حفيظة المجموعات القومية الأخرى. لأن المظاهرات الأكثر تأثيراً ضد النظام كانت بين المجموعتين الأكبر، تحالف ممثلو هاتين المجموعتين في الجبهة الحاكمة للإطاحة بسلطة التغراي.
استقال رئيس الوزراء دسالن الذي كان لحد بعيد دمية في أيدي التغراي تحت ضغوط المظاهرات. ونجح التحالف الحاكم في انتخاب رئيس له من بين الأورمو وهو ما كانت جبهة التغراي تعمل على تجنبه لسنوات طويلة. كان زيناوي قد اختار دسالن المنتمي لقومية صغيرة نائباً لضمان له، إذا اقتضت الضرورة، ألا يصل إلى المنصب الأكبر في البلاد منتمي لأحد القوميتين ال|اكبر والذي سيكون من الصعب السيطرة عليه لتمتعه بقاعدة اجتماعية كبيرة. كان اختيار شخص من مجموعة صغيرة هو خطة التراجع التي وضعها زيناوي ونُفذت بعد وفاته.
لم يكن أمراً سهلاً بالنسبة لجبهة التغراي قبول انتزاع السلطة منها على النحو الذي تم به في نهاية مارس 2018. بدا أن السلطة آلت للقومية الأكبر في البلاد لكن الأحداث اللاحقة برهنت على أن المنتصر في ذلك الصراع كان هم الأمهرا فرئيس الوزراء الجديد ينتمي لهم من ناحية أمه وهو بذلك منتمي عرقياً لهم أكثر من الإمبراطور هيلي سلاسي الذي كان ينتمي للأمهرا عرقياً فقط من ناحية جدته لوالده بينما كان ينتمي عرقياً من ناحية والده ووالدته للأورومو. كان هيلي أمهرياً ثقافياً ووجدانياً حتى النخاع وهو يعد أهم رمز لهذه القومية في النصف الثاني من القرن العشرين. أيلولة السيطرة للأمهرا لها دلالات كثيرة، اتضحت لاحقاً في تبني الدولة الإثيوبية لرؤيتها ومصالحها القومية.
تحدث رئيس الوزراء ابي أحمد في خطابة أمام البرلمان في نهاية نوفمبر الماضي عن المضايقات التي تعرض لها من قبل التغراي خلال أيامه الأولى في السلطة. وقد كان ابي أحمد كتب في نفس يوم انتخابه على حسابه في توتير إنه يريد بناء جسور من المحبة مع إريتريا. بالنظر الآن إلى المضايقات التي قال إنه تعرض لها في ذلك الوقت من التغراي يمكن بسهولة معرفة دوافعه من كتابة تلك التغريدة وما تلاها من مواقف؛ لقد أراد توظيف النزاع بين جبهة التغراي والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا لصالحه في الصراع على السلطة، هو الذي يعرف جذور هذا النزاع ليس كضابط مخابرات سابق وعضو في المؤسسة الحاكمة إنما أيضاً كمشارك في حرب 1998.
سارت الأمور بين رئيس الوزراء الجديد وأسياس أفورقي بسرعة. استجاب أسياس لدعوة ابي أحمد للسلام وتنازل عن شرطه القديم برفض التفاوض مع إثيوبيا ما لم تنفذ أولا قرار مفوضية الحدود الدولية. التقى الرجلان في العداء للجبهة الشعبية لتحرير تغراي واتفقا على التخلص منها. لكن العالم والإقليم فهم لقاء الرجلين بشكل خاطئ. تحمست بعض دول الإقليم للسلام المزعوم على امل كسب إثيوبيا لجانبها في أمن البحر الأحمر و من أجل تحقيق مكاسب تجارية يمكن ان توفرها المصالحة بين البلدين. مُنح ابي أحمد جائزة نوبل للسلام وأبدى العالم تساهلاً مع انتهاكاته لحقوق الإنسان والأسوأ تغافل عن استعداداته التي كانت بائنة للعيان لشن حرب على إقليم تغراي مع حليفه أسياس أفورقي. كان المطلوب لشن الحرب إكمال بعض الاستعدادات والبحث عن السيناريو والتوقيت وقد توفرت كل الشروط المطلوبة يوم 3 نوفمبر لتبدأ حرب كارثية لا يعرف أحد متى ستنتهي.
تـابـعـونـا... في الجزء القادم