المثقف بين المبادئ والمصالح
بقلم الأستاذ: محمد جمعة ابو الرشيد
عندما يحوز الإنسان علما يمكنه من المعرفة، ومعرفة تمكنه من تمييز الحسن والقبيح،
يبقى كل ما يحتاجه هو أن يسند سلوكه، وتصرفاته الى ذلك المعين الذي يحتاجه كل من نهض للتغيير، لأن من لا يملك المعرفة فهو أشبه بالعميان الذي يريد الخروج من غابة متشابكة.
على كل حال المفارقات العجيبة، والتناقضات الغريبة سوف تظل في دنيا الناس، تنبئ عن تعاسة البعض من هذا المخلوق الذي كرمه الله، ورفع قدره، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، فالإنسان ينال شرفه، وقدره، ومكانته، ومنزلته من شرف المبادئ، والمفاهيم، والقيم التي يحملها، وليس لفصيلة دمه، ووسامة وجهه وسواد شعره، او طوله قامته، أ وعرضه منكبيه اية قيمة يمكن ان تعليه فوق المخلوقات الطينية.
المثقف جزء من الحالة العامة للمجتمع:
المثقف صحيح انه جزء من الحالة العامة للمجتمع، فهو يتأثر كغيره من البشر بما يدور حوله، بل كثير من المثقفين ينحني أمام ضغوط المجتمع، اوالبيئة المحيطة، سواء كان في الجوانب السياسية، اوالفكرية، اوالإجتماعية، وقد نجد له العذر والمبررات نسبة لإختلاف الناس في صمودهم امام الضغوط، وثباتهم امام العواصف، لكن مالا يمكن العذر فيه، هو أن يكون المثقف (حرباية) يتلون بلون مصالحه، ونزواته، وشهواته، وقد كان لبعض المثقفين الأرتريين من ذلك نصيب، فقد رأينا ماركسي تحول وشك اللمح الى لبرالي، وقومي تحول الي اسلامي، واسلامي تحول الى ديمقراطي، بكل تأكيد هذا التحول هو من سنن الله في خلقه، وهو أمر مطلوب ومنشود، ولكن أن يكون الدافع والداعي هو نداء الواقع المتقلب، وضغوط المجتمع المتأزم، وحنين النفس لدماء القبيلة، والحرص على فتات الدنيا، فذلك ما يعيب المثقف، ويقلل من فاعليته وتأثيره.
انحناء امام العاصفة:
ظل المثقف الأرتري وقود الثورة الأرترية، وذهنها السياسي، ونبراسها المضيئ، وقد قدم لثورته عصارة فكره، وبذل اقصى جهده، وبذل دمه، وانفق ماله ووقته، وكان سبب صموده ايمانه بحق شعبه المسلوب، والسعي لإسترداد وطنه السليب، وقد واجه ذلك المثقف الكثير من التحديات، والعنت، والمصاعب، والتقلبات، تمثلت في ملاحقة العدوا الإثيوبي له في كل مكان، والتضييق عليه في المنافي، وحبس كلماته في صدره، ولم يجد بدا من مناصرة فصيل وطني دون دون فصيل آخر، وهو امر فرضه القائد والبندقية، فأستجاب له المثقف وبدء يمجد الأشخاص بدلا من القضية، ويمدح جزء القضية بدلا من القضية، بل أصبح قلمه يصب الزيت في النار، ويوقد الفتن النائمة، ولكن ظل هذا الأمرفي غالبه مجرد استجابة للضغوط الهائلة التي فرضت على المثقف، ولم يخضع لها - بحمد الله تعالى - الا قلة من المثقفين، ولأسباب عديدة يصعب ذكرها هنا.
مازالت المبادئ فوق الطاولة:
بعد استقلال ارتريا، انقسم المثقفون الى مثقف نائم في حضن النظام بإرتياح تام، ومثقف نائم في حضن النظام مع وخزات الإبر وتأنيب الضمير، ومثقف في الخارج جلس على الأريكة ينتظر بزوغ الشمس، ومثقف واصل النضال من اجل مبادئه التي آمن بها، وراى أن تحرير البلد جزء من المهمة الكبري المنوطة بعاتقه، وانا لم اكتب لأكيل عبارات المدح والثناء لأولئك العمالقة الكبار، كما لم اكتب لأقذف ذلك المنبطح تحت ابط النظام بقذائف السب والشتائم، ولكن اكتب لأقول لمثقفينا بأن مبادءكم التي ناضلتم من اجلها ما زالت تنتظركم فوق الطاولة.
هل يليق أن يمدح المثقف النظام الأرتري وهو ما زال يصادر حريات الناس!!!
ارتريا البلد الوحيد في العالم الممنوع فيها حتي مجرد سماع الأخبار التي لا تروق للنظام، فلو اصغيت لشخص يتكلم عن غلاء الأسعار ولم ُتًبَلغ به فأنت وهو في الجرم سواء حتي لو كنت من المغرمين بحب النظام والمعجبين بإنجازاته الضخمة!!!.
هل يليق بمثقف أن يمدح النظام وماتزال السجون تكتظ بالأبرياء من العلماء والدعاة والمعلمين، والأباء المناضلين، والمزارعين والعمال وغيرهم!.
للأسف اعرف مثقفا كان يمدح النظام فلما اعتقل النظام أحد اقربائه بدء يقول فيهم ما لم يقله مالك في الخمر.
هل يليق بمثقف أن يمدح النظام، والعدالة مغيبة والتهميش مستمر، والديمقراطية مذبوحة.
جلست مرة مع مثقف كان يكره النظام نسبة للمظالم التي يرتكبها، ولم يمض عام فإذا به يقول لي: ان التلفزيون الأرتري يبث اغاني وطنية بلغتنا، وبدء يلمح عن رضاه عن النظام، فقلت له: لو تغفل، وتخدع البرامج الترفيهية الإنسان العادي عن المبادئ والحقوق قد لا يلام، اما ان ترضى انت عن النظام لأنه يبث اغاني بلغتك مع علمك بأنه يدوس كل المبادئ ويهين كل الكرامات ويصادر كل الحريات فذلك امر غريب غرابة الغول والعنقاء.
المثقف روح المجتمع:
المثقف هو عين مجتمعه، وضميره النابض، واسده الهصور، بل هو روح المجتمع، فلا يمكن أن تزول العصبيات، ولا أن تصحح المفاهيم، ولا أن تنال الحقوق، ولا ان تسود الحريات، ولا ان تسترد كرامة الإنسان، ولا يمكن أن تثبت الناس، وان تحرص على القيم والمبادئ الا بنضالاته وجهاده، فلا يليق بالمثقف الهروب والخضوع والتلون، فهو الإمام والقائد لأنه موقعه دائما أَمَامَ شعبه، هو قائد المسيرة الحقيقي وليس الزعيم.