عَبَــدة الكيـــــان
بقلم الأستاذ: حامد عمر إزاز - لندن المصدر: فرجت
سأل أحدهم صاحبه: ”لماذا نجد أن مشهد موت الفئران لم يتغيير منذ بدء الخليقة - تلقى حتفها
بذات الطريقة - في مشهد موت متكرر - نفس الفخ والطعُم“. رد عليه صاحبه: ”ببساطة - لأن الفئران لا ذاكرة لها“ د. أحمد بهاء الدين.
لأن الذاكرة هي المحضن الذي حبى به الله الإنسان وخصه به دون سائر الخلق - فهي ذلك الحيز من العقل المسؤل عن تحليل التراكم التاريخي للأحداث والمواقف، والعمل على تحفيز الجين الوراثي البشري لينتج مورثات جديدة تحول دون تكرار التاريخ - وإن حدث - كما قيل - يصبح مأساة.
فمنذ بدايات التشكل الأولى للكيان الإرتري تباينت المواقف من مسألة الوطن - وفقاً لاختلاف المصالح التي تمليها الإختلافات الثقافية - بين الإستقلال و التقسيم - فكان خيارنا الإستقلال، بينما كان خيار الطرف الآخر الوحدة - منشداً لامتداده في إثيوبيا - وفق ما تقتضيه (مصلحته القومية).
وبعد استتباب الأمر للإمبراطور في إلغاء الإتحاد الفيدرالي وضم إرتريا لإثيوبيا - عمد عندها إلى إستمالة قسم من هذا الشعب -الذي لم يتردد في التحالف معه لأن مصلحته هي القطب الذي يحدد حركة بوصلته - يميل حيثما مالت.
إلا أننا - وبرغم رد الفعل الثوري (نتيجة لسياسة الإقصاء والإستهداف الثقافي) الذي قاد إلى قدح فتيل الثورة - نصبنا أنفسنا حراساً للكيان - وقدمنا القرابين له على حساب الحقوق والمصالح، على غير هدى من ينصب نفسه للعب هذا الدور الذي يقتضي إمتلاك عناصر القوة في إملاء إرادته- فمن يتنازل عن حقوقه يصبح حارساً للوهم - لأن الخريطة لا تصنع إلا سرابأ يتراءى لك ماء.
وتم إسكات كل صوتٍ مطالب بهذه الحقوق مخافة إغضاب إله الأرض - فكانت سا حة الثورة ملك مشاع - لا صاحب لها - مطية لكل من إعتلى. فلا حقوقاً صنا ولا وطناً جنينا.
حتى كان عهد ”دولة القومية الواحدة“ التي رفضت كل ما عداها - وأعلنت البلاد محظية لأهل كبسا - وكان نصيب القوميات الإرترية الإقصاء والتهميش والإذلال والإمعان في سياسة الإذابة التامة لمكونات هذا الشعب من خلال فرض ثقافتها - ”فكان التكرار الثالث لذات المشهد“ ظللنا تتخبطنا الأهواء والأمزجة الخاصة لمؤسسة فقدت الأرضية التي تقف عليها بالتنازل المجاني عن الحقوق والتعلق بأسمال الأرض - ليجيء الموقف هذه المرة مجافياً لكل مواقف قوى المقاومة على وجه البسيطة - مخترقاً للذاكرة الجمعية لجموع المظاليم - حيث تدافعت وتبارت بيانات التأييد من فصائل المقاومة معلنة وقوفها مع النظام، أبان الحرب الإرترية الإثيوبية - فالوطن عندنا مفرق من مضامينه - فحين تتطاول قاماتنا في الدفاع عن نظام القهر والتسلط - بحجة إن الأرض هي المستهدفة .. تتقاصر في الدفاع عن الحقوق والمصالح!!!
أما المخترقة عقولهم - والمصيبة أعظم عندما يكونوا من النخبة المفترضة، حين نتطلي عليهم مزاعم النظام بأن إثيوبيا تريد تمزيق إرتريا! - وأنها خط أحمر لا يسمح بتجاوزه!! كفيلاً بدغدغة مكامن العشق القديم عندهم ”الكيان“ ليصيبنا النصل في ذات الخاصرة التي أدماها الطعان.
فإذا إفترضنا جدلاً تصديق المخاطر الإثيوبية - إلا يكون هذا مدعاة لتوحيد صفوف المقاومة والتمترس خلف حقوقها لدرء المخاطر عنها، بإعتبار أنها صمام أمانها الأوحد... لكنهم كعادتهم على مر التاريخ - ديدنهم البحث عن الحلول الجاهزة واللف في فلك النظام.
تنتفي عندهم كل الخيارات وينسد أفق التفكير ليكون الحل عندهم التماهي مع أجندة الجلاد!!
فإثيوبيا اليوم هي الأكثر إستقراراً بين دول القرن الأفريقي - الطامعة لنهضة شعوبها وتنميتها - ماذايمكن أن تجني من تمزيق الكيان الإرتري؟؟؟ وهل إضافة كيان ممزق إلى جانب الصومال ومآلات المجهول في السودان وتصدع اليمن - بإمكانه أن يحقق لها النماء والرخاء؟؟؟ اللهم إلا إذا كانت تريد العيش في حوصلة تحول بينها والتأثر بمجريات الأحداث!!!
فكما أعلن على لسان رئيس وزرائها: ”بأن النظرة التاريخية لإباطرة إثيوبيا تجاه البحر كان يحكمها منطق العنف - أما نحن فنظرتنا هي من خلال التعايش والتراضي، وبناء علاقاتنا وفق حسن الجوار بيننا وشعوب المنطقة بما يضمن الرخاء والإستقرار لنا جميعاً“ أما وصمهم لجموع المشاركين في ملتقى الحوار الديموقراطي بالخيانة وبيع الوطن - يقصدون ”بيع الخريطة“ لأن الحقوق لا ثمن لها عندهم.
كأننا توزعنا في المنافي رسلاً للنظام الإرتري - وأنتهى بنا المطاف في إثيوبيا لنشر دعائم السلام والعدل في ربوعها!!!
هل يتفضل علينا هؤلاء ويخبرونا؟ ماذا نحن إذا لم نكن دعاة حقوق؟؟؟
أم أنهم يروننا قطيع ضال يريدون لنا أن نعود إلى بيت الطاعة؟؟؟
فالوطن فكرة - والفكرة حق - فإذا لم نعمل على إقرار هذه الحقوق باعتبار أنها الشرط المنوط به تحقيق الفكرة - وفق قاعدة الإعتراف بالتعدد والتنوع الإجتماعي، سنتحول إلى كهنة لعبادة الكيان - ويضحى الوطن مجرد ذكرى لابتهالات دراويش في دهاليز الذاكرة - إذا كان في الذاكرة متسع لضريح.