جامعة اسمرة... التي فَرَّتْ من قسوره - الجزء الثاني عشر
بقلم المهندس: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري
البذور الأولى للحركة الطلابية الارترية في جامعة أديس أبابا:
يتضح لنا بأن الطلاب الارتريين في جامعة أديس أبابا لم يكونوا كتلة واحدة،
حيث كان كل منهم يناضل على طريقته ووفق موقفه وفهمه للقضية أو (المسألة) الارترية كما كانت تسميها الحركة الطلابية الأثيوبية، وهو انعكاس واضح لانقسام الطلاب الاثيوبيين أنفسهم حول المعضلة الارترية، يتجلى بدوره على نضالات الحركة الطلابية الارترية في أديس أبابا، ونستطيع تقسيم الحركة الطلابية الارترية أديس أبابا إلى ثلاثة مراحل، وهي:-
المرحلة الأولى: في الفترة من 1960م الى 1967م:
كانت نضالات الطلائع الاولى للطلاب الارتريين في جامعة أديس أبابا خلال هذه الفترة تتميز بالاستقلالية عن الحركة الطلابية الاثيوبية من ناحية، وتغلب عليها الجهود الفردية أو في شكل جماعات لا يوجد بينها تنسيق واضح من ناحية أخرى، وربما الانقسامات التي كانت تعيشها الساحة السياسية الارترية أيضاً ألقت بظلالها على اتجاهات الطلاب الارتريين في تلك الفترة مما تسبب في اعاقة التأسيس لفعل مقاوم موحد، إلا أن النضالات الفردية كانت أكثر فاعلية وجدية، ويمثل هذه المدرسة دون منازع الطالب/ كيداني كفلو، والذي قدم نضالات قد لا تجاريها بعض النضالات الخجولة والمنزوية التي قدمتها بعض الخلايا داخل الحرم الجامعي في أديس أبابا، وذلك للأسباب الآتية:-
1. لم يجهد الطالب/ كيداني كفلو نفسه في تبديد قواه في نضالات القوميات الاثيوبية فقد كرس كل جهده للقضية الارترية دون الانخراط في الحركة الطلابية الاثيوبية كما فعل البعض.
2. الجهود التي قدمها بشكل فردي أحياناً وبمعاونة بعض الطلاب أحياناً أخرى كانت أكبر بكثير مما قامت بتقديمه بعض الخلايا الجماعية.
3. موقفه الواضح في عدم الربط بين مسألة حقوق القوميات الاثيوبية في إطار اثيوبيا الكبرى والقضية الارترية باعتبارها قضية وطنية لا علاقة لها بالمظالم الامبراطورية للقوميات الاثيوبية، وهو الأمر الذي أشكل كثيراً على الكثيرين من الطلاب الارتريين - التجرنيا - وهذا ما دفعني للقول بأن الانقسامات السياسية في ارتريا ألقت بظلالها على الحركة الطلابية الارترية في أديس أبابا.
4. لم تكن نضالاته محصورة في حدود الحرم الجامعي وفي أوساط الطلاب بل تجاوزتها إلى السلك الدبلوماسي في العاصمة أديس أبابا، ثم عبرت الحدود بتواصله مع جبهة التحرير الارترية وتنفيذ أنشطتها في الكثير من مناطق تواجدها داخل وخارج أثيوبيا، كما سيتضح لاحقاً.
وسوف أقوم بالحديث عن السيرة الذاتية للطالب/ كيداني كفلو ونضالاته في جامعة أديس أبابا في حلقة منفصلة، وربما حلقةً واحدة لا تعطيه حقه.
أما المدرسة الجماعية فكانت أولى خلاياها تلك التي أسسها في العام 1963م الطلاب: (تكئي مبرهتو - طقاي أسفا - حروي) من الكلية الجامعية، وقرماي قبري مسقل من كلية الهندسة، حيث كانت تعقد اجتماعاتها السرية في غرفة الدكتور/ نرأيو تسفاميكائيل Nerayo Tesfamichael، ثم في نفس العام قاموا بتأسيس خلايا سرية أخرى في كليتي الهندسة والزراعة، وبعد أن انضم لهم نايزقي كفلو وقرماي بخيت قاموا بدمج الخلايا في خلية واحدة، علماً أن قرماي بخيت كان حلقة الوصل بينهم وبين خلايا أخرى في أديس أبابا، وكانت أنشطتهم تنحصر في كتابة المنشورات وتوزيعها في أديس أبابا، ثم في فترات اجازاتهم في أسمرا، وهي أقل بكثير مما قام به كيداني كفلو.
المرحلة الثانية: بدأت هذه المرحلة بعد تأسيس اتحاد طلاب جامعة أديس أبابا في 1967م وظهور التيار الماركسي داخل الحركة الطلابية الاثيوبية، وانتشار مفهوم عالمية الثورة في إطار النظرية الماركسية من ناحية، ومغادرت جيل الرواد العاصمة أديس أبابا من ناحية أخرى، ونتيجة لسيطرة الفكرة الماركسية التي تعتقد في وحدة الثوار عالمياً - ناهيك عن وحدة الثوار الاثيوبيين والارتريين - وهو ما حشر الثورة الارترية في زاوية بعد تبني منقستو هيلاماريام للاشتراكية ودخول الاتحاد السوفياتي على خط الازمة بكل ما يملك من مال وسلاح، نتيجة لهذه الفلسفة الثورية الجديدة إزدادت اشكاليات الخلط بين مسألة مظالم القوميات الاثيوبية والقضية الارترية مما أدى إلى ذوبان نضالات الطلاب الارتريون في الحركة الطلابية الاثيوبية، حتى أن مشروع إدانة الثورة الارترية وإتهامها بالرجعية والطائفية الذي تمكن اتحاد طلاب جامعة أديس أبابا من تمريره في مؤتمره التأسيسي في 1967م لم يؤثر في الطلاب الارتريين الذين كانوا يرون في جبهة التحرير الارترية تنظيماً رجعياً، لإعتقادهم بأنه وفي حال انتصار الثورة الماركسية في اثيوبيا سيتم حل المشكلة الارترية دون الحاجة إلى كفاح مسلح وفقاً للشعارات التي كانت ترفعها الحركة الطلابية الماركسية في اثيوبيا والتي تضمن حق تقرير المصير لكافة الشعوب والقوميات الاثيوبية.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة المفاصلة بين الحركة الطلابية الارترية والحركة الطلابية الاثيوبية، والتي ظهرت بوادرها للسطح بعد الخلاف الذي أدى إلى انشقاق الحركة الطلابية الاثيوبية بسبب القضية الارترية والذي فصلناه في معرض حديثنا عن الحركة الطلابية الاثيوبية في الحلقات السابقة، إلا أن فصول المفاصلة تكاملت بعد رفض الطلاب الاثيوبيون ادانة مذبحة عونا عام 1970م، لكنها تمت على بعد آلاف الأميال هناك في اتحاد الطلاب الأثيوبيين في شمال أمريكا.
نماذج من نضالات الحركة الطلابية الارترية في جامعة أديس أبابا:
الطالب كداني كفلو:
تقول: إمنت تسفاي في بحث لها عن السيرة الذاتية لكداني كفلو: ولد كداني في مدينة (مندفرا) بإقليم (سرايي) ولا يوجد من يعرف عام ميلاده تحديداً، إلا أن بعض أقاربه يقدرون أنه مواليد العام 1941م، توفي والده في مكان عمله بعيداً عن أسرته المقيمة في مندفرا وقبل أن يرى إبنه (كداني) والذي كان يعرف بإسم (كبِّدي) أيضاً، لكداني كفلو شقيق واحد إسمه (يوهانس) توفي عام 2014م، بدأ حياته الدراسية في مدينة مندفرا في المدرسة الابتدائية المعروفة بإسم (تيبو Tipo) ثم مدرسة سان جورج المتوسطة في نفس المدينة، ونظراً لعدم وجود مدرسة ثاوية في مندفرا في تلك الفترة اضطر للذهاب إلى العاصمة أسمرا للالتحاق بمدرسة هيلاسلاسي الثانوية، وكان ذلك في أواخر عقد الخمسينات، ويشهد أصدقائه بذكائه المبكر والذي يتجاوز أقرانه الطلاب لدرجة أنه كان يساعدهم في فهم ومراجعة دروسهم.
لم أجد للطالب كداني كفلو في ثانوية هيلاسلاسي نشاطاً سياسياً يذكر، وقد يعود ذلك إلى الفترة الزمنية التي إلتحق فيها بثانوية هيلاسلاسي التي تم تأسيسها في 1955م، وهي بدايات ظهور المدارس الثاوية في ارتريا، إلاًّ أنه وفور وصوله إلى جامعة أديس أبابا في العام الأكاديمي (1961-1962) انخرط في العمل الثوري السري المناهض لنظام الامبراطور هيلاسلاسي، لذا يعد من الرواد الأوائل الذين انخرطوا في العمل الثوري السري في الجامعة كما ذكرنا في الجزء الماضي.
نماذج من نضالاته:
البيان المجهول: كان ربط الطلاب الارتريين ببعضهم وحمايتهم من الاندماج بالطلاب الاثيوبيين حد التماهي مع الثقافة والكينونة الاثيوبية الشغل الشاغل للطالب كداني كفلو، وذلك بسبب ميل الكثير من الطلاب الارتريين في جامعة أديس أبابا إلى الاندماج في المجتمع الاثيوبي، حيث كان الطالب كداني قلقاً من ضياع الهوية الارترية المستقلة في نفوس الطلاب بسبب تأثير الثقافة الاثيوبية الطاغية على شباب في مقتبل العمر، وعندما لاحظ تأثر الطلاب الارتريين بالثقافة الاثيوبية واندماجهم معها، قام بكتابة بيان من صفحتين ليلاً ثم قام بتثبيته سراً في لوحة اعلانات الحرم الجامعي، وبقلم مجهول، وفي الصباح الباكر وجد الجميع - ارتريون واثيوبيون - البيان أمامهم والذي كان صادماً لكل من قام بقراءته، حيث كان يحمل تجاوزاً وتعدياً سافراً على الهوية الارترية وبوقاحة تقطر بجاحةً، وعندها لم يساور أحدهم الشك - طلاباً وأساتذة - بأن من قام بكتابته هو أحد الطلاب الذين ينتمون لقومية الأمهرا الحاكمة والمتعالية على الجميع، عدا واحداً وهو رئيس قسم الجغرافيا البروفسور/ مسفن ولد ماريام حيث قال: "لا يمكن لأحد أن يكتب مثل هذا البيان سوى الارتريون أنفسهم"، وقد وجدت لغة البيان استنكاراً واسعاً من الجميع للدرجة التي دفعت بإدارة الجامعة إلى اصدار بيان تدين فيه هذا السلوك المشين، إلا أن ما كان يشغل بال الطالب/ كداني هو رد فعل الطلاب الارتريين الذي كان بقدر ما توقعه وخمن له، فإن ما ورد في البيان غير اتجاه أولائك الذين كانوا يميلون إلى التماهي مع الثقافة الاثيوبية (180) درجة بحيث ولد لديهم شعور قوي وقاتل للانتقام من أثيوبيا وشعبها من ناحية، وزرع فيهم روح الحفاظ على الهوية الارترية والدفاع عنها من ناحية أخرى، وهذا ما كان ينتظره من فعلته هذه، صدق من قال: الحرب خدعة.
سفارة جمهورية الصومال: بمساعدة بعض الأكاديميين في جامعة أديس أبابا وبعض الدبلوماسيين الأجانب، لا سيما من السفارة الصومالية في أديس أبابا، تمكن الطالب كداني كفلو من اختراق الدائرة الدبلوماسية في أديس أبابا واغتنم هذه الفرصة لإطلاعهم على تفاصيل القضية الإريترية، حيث كان إلغاء الاتحاد الفيدرالي نقطة انطلاقه للبدء بالعمل ضد الحكومة الاثيوبية يقول البروفسور/ أرايا دبساي Araya Debessay من جامعة ديلاويرUniversity of Delaware، يقول: "في يوم من الأيام عندما كنا في جامعة أديس أبابا، طلب مني كداني كفلو أن أرافقه، وعندما جئت إليه أخبرني بأنه يريد نقل (طردين) إلى السفارة الصومالية يحملان منشورات تخص الكفاح المسلح للثورة الارترية، سيتم توزيع أحدهما في العاصمة أديس أبابا والثاني سوف يتم نقله إلى العاصمة الصومالية مقديشو، فحملنا الطردين وذهبنا إلى مبنى السفارة، وعندما سألنا أفراد الحراسة عن هوياتنا أجابه كداني بأننا قادمون لمقابلة أحد دبلوماسيي السفارة فسمحوا لنا بالدخول، وبعد حوار مع الدبلوماسي لحوالي ربع الساعة - بينما كنت في انتظاره في الغرفة المجاورة - تركنا الطردين وغادرنا مبني السفارة، ومما لاحظته أنه كان يتصرف دونما خوف من سلطات الأمن الاثيوبية المكلفة بتأمين السفارة، وبدوري كنت فخور بنفسي لمشاركتي في هذه المهمة النضالية الأمر الذي أكسبني الثقة بنفسي بأنني يمكن أن أقوم بنشاطات نضالية.
قاعة إفريقيا: في حادثة أخرى قام كداني كفلو بإعداد منشور يحمل شرحاً تفاصيلياً للتغول الاثيوبي على الاتحاد الفدرالي، مبيناً فيه القمع الوحشي الذي يتعرض له الشعب الارتري الذي بدأ الكفاح المسلح لتحرير أرضه، حيث قام بتجهيز العديد من النسخ حتى تكون جاهزة للتوزيع في قاعة إفريقيا التي كانت تحتضن إجتماع وزراء الخارجية الأفارقة، فتمكن من إقناع الأكاديمي الأمريكي السيد/ جرادي الذي كان يعمل محاضراً في الجامعة، فقام بنقلهم بسيارته الخاصة إلى قاعة المؤتمرات، ثم حملوا المنشورات من السيارة ووضعوها عند مدخل القاعة على مرءً ومسمع من الجميع، وأن كل من رآهم اعتقد أنهم من بين العمال الذين يقومون بالتحضير للاجتماع ولم يعترضهم أحد إلى أن تمكنوا من توزيع المنشورات على طاولات قاعة المؤتمرات، ثم غادروا المكان بنفس السيارة بعد أن تم إنجاز المهمة.
جمعية المسرح الارترية: في عام 1968 أتت إلى أديس أبابا فرقة الفنون المسرحية الارترية لتقديم عروض موسيقية، فتولى بعض طلاب الجامعة مسؤولية تنظيم برامجها طوال مدة إقامتها في أديس أبابا، قدمت الفرقة عرضًا للجمهور في مسرح هيلاسلاسي وآخر في حرم الجامعة في (كيلو 6) لطلاب الجامعة، وعند مرور كداني كفلو على الطريق المؤدي إلى محطة المواصلات العامة، قابل ثلاثة من طلاب ومعهم الاعلان الخاص بالفعالية يرغبون في تعليقه بكامل عرض الطريق بربطه على العمودين، إلا أن أحدهم قال: علينا الحصول على إذن من البلدية أولاً، وبينما كانوا في انتظار رأيه، قام كداني ودون سابق انذار بسحب السلم والصعود عليه وربط الاعلان على العمودين، ثم قال لهم: لن تضطر إلى إضاعة الوقت في التعامل مع بيروقراطية البلدية، كيف سيتمكن المارة أو حتى العاملون في البلدية أننا لم نحصل على إذن؟ هكذا يتصرف الطالب الثائر دون إضاعة وقته.
انضمامه للكفاح المسلح: بعد أن بدأت السلطات الأمنية الاثيوبية في أديس أبابا باكتشاف الخلايا السرية وتفكيكها باعتقال عناصرها، أدرك كداني كفلو بأن اسمه لا محالة لن يبقي سراً وأن السلطات الأمنية ستطاله يوماً ما، لذا آثر أن يكمل نضالاته لتحرير أرضه وشعبه بالانضمام إلى الكفاح المسلح في جبهة التحرير الارترية، فقام هو وأحد الطلاب الارتريين واسمه (تسفاي) بالسفر إلى عدن، وبعد وصولهما إلى عدم قرر تسفاي السفر إلى بولندا لمواصلة دراسته إلا أن كداني لم تكن لديه مشروعات شخصية سوى المشروع الوطني، لذا قرر السفر إلى كسلا حيث كان على موعد مع القيادة الثورية هناك والتي كان أحد أعضائها.
هذا غيض من فيض نضالات الطالب الثائر/ كداني كفلو، وأن هذه السيرة النضالات الطالبية لا علاقة لها بنضالاته في صفوف جبهة التحرير الارترية، ولا اغتياله فيما بعد، فذاك مبحثٌ آخر.
كسرة: يعتقد البعض - وقد كنت منهم - بأن كداني كفلو هو شقيق نايزقي كفلو، وبعد بحث طويل ومضني تأكدت بما لا يدع مجالاً للشك بأن كداني كفلو لم يكن له سوى شقيق واحد اسمه يوهانس كما ذكرت في بداية هذه الجزء، وأن نايزقي كفلو تعرف على كداني في جامعة أديس أبابا.
إلى اللقاء... في الجزء القادم