جامعة اسمرة... التي فَرَّتْ من قسوره - الجزء التاسع
بقلم المهندس: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري
جامعة أديس أبابا.. النشأة والتطور:
تأسست كلية أديس أبابا الجامعية (UCAA) في عام 1950م تحت رعاية وبمبادرة من الحكومة الإمبراطورية،
بالتعاون مع المعلمين اليسوعيين الكنديين الذين تم تكليفهم بإدارتها خلال العقد الأول من عمرها، بدأت كلية أديس أبابا الجامعة بكليتي العلوم والآداب، ثم في عام 1952م قامت ادارة الكلية بإضافة كلية الهندسة وكلية الزراعة في أليمايا بالقرب من هرر، في عام 1954م تم إفتتاح كلية الصحة العامة في قوندر، وفي 18 ديسمبر 1961م تم الاعلان رسمياً بتسميتها بجامعة هيلاسلاسي الأول (HSIU) بعد أن تم افتتاح العديد من الكليات الجديدة، ثم خلال الفترة الانتقالية القصيرة بعد انهيار النظام الإمبراطوري وحتى توطيد أركان نظام المجلس العسكري (1974-1975) تم تسميتها بالجامعة الوطنية (National University)، وأخيرًا في عام 1975م وتحديداً في 22 مارس 1975م أخذت الجامعة مسماها الحالي (جامعة أديس أبابا Addis Ababa University) بحسب ديفيد شين David H. Shinn وتوماس أوفكانسكي Thomas P. Ofcansky في القاموس التاريخي لإثيوبيا Historical Dictionary of Ethiopia، ووفقاً لما ذكره ترودو فإن الدراسة في الكلية الجامعية بدأت في 11 ديسمبر 1950م بشكل متواضع، حيث كانت هيئة التدريس تتكون من (9) معلمين فقط بما فيهم مدير الجامعة و(71) طالبًا، في عام 1961 كان فيها حوالي (900) طالب كما ارتفع عدد هيئة التدريس الى (100) وبنهاية عقدها الأول نمت لتصبح واحدة من أكبر الجامعات في افريقيا حيث تم استيعاب خريجيها في الخدمة المدنية وكانوا يتمتعون بمكانة اجتماعية عالية ومتميزة.
كان اليسوعي الكندي - لوسيان مات Lucien Matte - أول مدير لكلية أديس أبابا الجامعية، تلاه الأمريكي هارولد دبليو بنتلي Harold W. Bentley وذلك خلال العقد الأول من عمر الجامعة (1951-1962) ثم بعد أن اعتمدت الحكومة الاثيوبية سياسة توطين الوظائف قامت بتعيين كاسا ولد ماريام مديراً لها في الفترة (1962-1969) ثم توالى على رئاستها كل من أخليلو هبتي (Aklilu Habte (1974-1969 وتايي جليللات (Tayye Gullilat (1977-1974 ودوري محمد الذي خدم لفترتين: (1977-1985، 1991-1995)، أبي كيفلا (Abiy Kifla (1991-1985، ألمايهو تافارا Alamayyahu Tafarra كان أول مدير منتخب على الإطلاق - (1992-1993)، موجاسي أشنافي (Mogase Ashennafi (2000-1995، أشاتو وانشاقو Eshatu Wanchaqqo ثاني مدير منتخب (2001-2002)، كان كافة مدراء الجامعة باستثناء اثنان قد تم تعيينهم من قبل الحكومة، وأن جميعهم ينتمون إلى الجامعة نفسها، ومعظمهم من كليتي العلوم والهندسة الأمر الذي أثار بعض الاستياء خلال السنوات الاخيرة.
كان حرم الكلية الجامعية الرئيسي في المنطقة المعروفة بـ Arat Kilo، ليس بعيدًا عن قصر الإمبراطور مينيليك، والبرلمان، ووزارة التعليم، ثم في عام 1961 انتقل الحرم الجامعي الرئيسي إلى المنطقة التي تعرف بـ (Sidist Kilo) في مجمع القصر الامبراطوري المعروف بـ (الجنة الأميرية Gannata Leul عندما تبرع الإمبراطور بالمجمع المترامي الأطراف ليكون بمثابة الحرم الجامعي الرئيسي وموقعًا لمكاتب الإدارة المركزية، وكليات العلوم الاجتماعية والآداب والتربية والقانون ومعهد الدراسات الإثيوبية (IES) ومعهد الدراسات اللغوية (ILS) ومكتبة كينيدي الجامعية.
الجدير بالذكر أن هذه المكرمة الملكية لم تأتي من باب الاحسان للجامعة بقدر ما كانت رغبةً من الامبراطور في محو ذاكرته من آثار المذبحة التي وقعت أثناء الانقلاب الفاشل الذي قاده رئيس الحرس الملكي منقستو نواي في العام 1960م والذي أدى إلى مقتل العديد من أفراد النظام من بينهم رئيس الوزراء أببي أرقاي ومكنن هبتولد الذي كان كلمة السر في إفشال الانقلاب وكذلك الجنرال (ملوقيتا) بالاضافة إلى العديد من أفراد الطبقة الأرستقراطية، حيث وقعت هذه المذبحة في ما كان يسمى آنذاك بالصالون الأخضر (أو قاعة رأس مكنن) التي أصبحت فيما بعد غرفة القراءة الرئيسية بمكتبة معهد الدراسات الاثيوبية.
بناءً على ملاحظاتنا في السيرة الذاتية لجامعة أديس أبابا نستطيع القول بأن العقد الأول للجامعة هو الوحيد في تاريخ المؤسسة الذي كان فيه طلابها وموظفوها غير سياسيين أو غير مبالين بالشأن العام، محايدين وغير نشطين، إن لم يكن يفتقرون تمامًا إلى الوعي السياسي - في وقت كانت فيه الساحة الارترية تغلي كالمرجل سياسياً - حيث اتسمت العلاقة بينهم والامبراطور بالأبوة والرعاية.
الحركة الطلابية الاثيوبية.. النشأة والتطور:
تنبع أهمية الحديث عن الحركة الطلابية الاثيوبية بشكل عام وإتحاد طلاب جامعة أديس أبابا بشكل خاص من ثلاثة زوايا وهي:-
الأولى: كانت تمثل الحاضنة والمظلة التي مكنت الحركة الطلابية الارترية من التحرك والنشاط تحت ظلالها في أديس أبابا مستفيدةً من الزخم الذي توفره الحركة الطلابية الاثيوبية في المسرح الذي تقل فيه الحاضنة المجتمعية الارترية.
الثانية: كانت تعد في مرحلة لاحقة قوة الدفع النفاث التي يستمد منها الطلاب الارتريون الثوريون الطاقة الفكرية والقوة الثورية اللازمة لاستيفاء استحقاقات مقاومة الظلم وتقديم التضحيات.
الثالثة: كانت القضية الارترية بالنسبة للحركة الطلابية الاثيوبية جزء لا يتجزأ من قضايا القوميات الاثيوبية والتي كانت تقف في وجه النظام الامبراطوري الاقطاعي دفاعاً عن حقوقها كما سيتضح لاحقاً.
يعود ميلاد الحركة الطلابية الاثيوبية بشكل منظم الى ديسمبر 1960م، عندما وقف طلاب كلية أديس أبابا الجامعية الى جانب الانقلاب الفاشل الذي قاده قائد الحرس الامبراطوري العميد/ منقستو نواي، وان التظاهرة التي نظمها هؤلاء الطلاب دعماً للانقلاب كانت التحدي الأول من نوعه الذي يقوم به الطلاب ضد النظام الامبراطوري الأبوي، وأن انقلاب عام 1960م لم يحدد فقط ميلاد الحركة الطلابية بل ساهم في تطورها، حيث أن هذا الانقلاب الذي ولد من رحم المعاناة في أوساط المثقفين من العسكريين والمدنيين الذين كانوا يرون العديد من الدول الافريقية التي كانت تتقدم وبسرعة سياسياً واجتماعياً بينما أثيوبيا لا تزال ترزح في التخلف والتقهقر في عهدها الاقطاعي، دفع بالطلاب إلى إعادة النظر في الأدوار التي يجب القيام بها في ظل نظام الامبراطور هيلاسلاسي الأمر الذي أكسبهم وعياً سياسياً لم يكن موجوداً من قبل خلال العقد الأول من عمر الجامعة كما ذكرنا في الجزء السابق.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب الاثيوبي "ليقيسي ليما Legesse Limma" وهذا ما ذهب إليه أيضاً مؤرخ الحركة الطلابية الاثيوبية البروفسور "بحرو زودي Bahru Zewde" في كتابه: The Quest for Socialist Utopia: The Ethiopian Student Movement، يقول ليقيسي: بالرغم من أن الانقلاب الفاشل كان من بين الأسباب التي أدت إلى ميلاد الحركة الطلابية الاثيوبية إلا أنه لم يكن السبب الوحيد الذي أدى إلى ميلاد الوعي السياسي في أوساط طلاب جامعة أديس أبابا، فهناك العديد من العوامل التي ساهمت في رفع الوعي السياسي الثوري والحس الوطني في نفوس الطلاب، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر منها العوامل التالية:-
أولاً: وصول عدد من الطلاب من الدول الافريقية بعد عام 1958م ضمن البرنامج الذي تم اقراره بين الدول الافريقية المستقلة في مؤتمر (أكرا) عام 1958م، وبما أن النظام الملكي في اثيوبيا كان يتطلع حينها الى لعب أدوار ريادية ومحورية للدول الافريقية المستقلة حديثاً، فإنه التزم بتقديم عدد (200) منحة دراسية للطلاب الأفارقة، وبحلول العام (1962-1963) قدم البرنامج خدماته لـ (120) طالباً فقط من كل من مصر، غانا، كينيا، ليبيريا، نيجيريا، روديسيا، الصومال وتنزانيا - وأن هذه الدول كانت قد عبرت لتوها خلال نضالات سياسية دراماتيكية إما داخلية أو ضد استعمار خارجي، وأن الاستماع الى انجازات وتطلعات الشعوب الافريقية بشكل مباشر عبر الطلاب القادمون من هذه الدول للدراسة في جامعة أديس أبابا كان للشباب الاثيوبي بمثابة درس غاية في الاهمية، وصل الطلاب الإثيوبيون من خلاله إلى فهم أفضل لأسباب التخلف السياسي والانهيار الاقتصادي في بلادهم، الأمر الذي مكنهم من رفع صوتهم ضد الوضع الاقطاعي الذي كان سائداً، وبما أن طلاب المنح الدراسية - وهو الاسم الذي كانوا يعرفون به - كانوا ناشطين سياسياً في بلدانهم، فقد إحتل بعضهم مناصب عليا في قيادة الحركة الطلابية في بلدانهم ما مكنهم من التأثير على الحركة الطلابية الاثيوبية بشكل قوي وفعال.
ثانياً: استفادت الحركة الطلابية الاثيوبية من برنامج (الخدمة الوطنية للطلاب الجامعيين) الذي تم تطبيقه في عام 1964م، حيث كان لزاماً على طلاب الجامعة الانخراط في هذا البرنامج بعد السنة الاولى الجامعية في الغالب، وأن النسبة الأكبر من طلاب الخدمة كان يتم الاستفادة منهم في التدريس في كافة محافظات البلاد الأمر الذي وفر لهم فرصة الالتقاء مع طلاب المدارس في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية الذين ليس لهم تواصل مع الحركة الطلابية التي كانت محصورة إلى حد ما في أديس أبابا، وعبر هذا البرنامج تمكن طلاب الخدمة من نقل أشواق الحركة الطلابية إلى طلاب المدارس بطول البلاد وعرضها فأصبح الطالب يأتي إلى جامعة أديس أبابا مجنداً وجاهزاً للنشاط الطلابي المقاوم، كذلك وبما هؤلاء الطلاب كانوا يعملون في مناطق نائية تمكنوا من رؤية الاقطاعية التي كانت متجذرة في هذه المناطق بؤم أعينهم لينقلوا مشاهداتهم بعد عودتهم إلى الجامعة لأقرانهم الطلاب وهو الأمر الذي ساهم بشكل كبير في استقطاب المزيد من الطلاب للدفاع عن المزارعين الذين يتم استغلالهم تحت مظلة النظام الاقطاعي.
ثالثاً: تواجد أعداد كبيرة من المتطوعين التابعين لفيلق السلام الامريكي في المدارس الاثيوبية ساعد على تفكيك القيم الإقطاعية التي كانت سائدة في المجتمع من ناحية وعمل على رفع الوعي السياسي للطلاب من ناحية أخرى نظراً لثقافة حرية التعبير والصحافة التي كان يحملها هؤلاء الامريكان.
وبالرغم من كل هذه العوامل التي ساعدت في ميلاد الحركة الطلابية الاثيوبية ومشاركتها في دعم الانقلاب الفاشل في العام 1960م، إلا أنها ظلت حتى العام 1965م دون فاعلية تذكر.
إلى اللقاء... في الجزء القادم