التباين الفكري حول اللغة العربية في أرتريا
بقلم الأستاذ الشيخ: إسماعيل إبراهيم المختار - عضو لجنة الفقه في الهيئة الاسلامية في مانيتوبا
تذكر الأخبارالمتداولة شفهياً حوارا دار في داخل أول برلمان أرتري منتخب في الخمسينيات
من القرن الماضي.
كان ذلك خلال نقاش حاد حول اللغات الرسمية لإرتريا، حين وقف عضو برلماني من كتلة الإستقلال متحدثا لصالح تبني اللغة العربية كلغة رسمية ثانية لأرتريا. وبينما كان يتحدث باللغة التيجرينية معبرا عن موقفه، قاطعه برلماني آخر من حزب الإنضمام، وسأله بنبرة ساخرة، لماذا تتحدث بالتجرينية؟ تحدث بالعربية! أليست العربية لغتكم كما تدعي!؟ هذا التبادل البرلماني، على بساطته، يعبر عن التباينات الموجودة في الواقع الأرتري حول وضع ومكانة اللغة العربية في أرتريا.
ولقد بدأ هذا التباين مبكرا مع بدايات الحوار الوطني حول المصير الأرتري، وهو تباين لا يزال مستمرا في المحافل الأرترية المختلفة. على مدار العقود الماضية تراوحت مواقف السياسيين والمثقفين من أبناء أرتريا مابين معارض ومؤيد. فالبعض يعتبر اللغة العربية لغة الأقلية - قبيلة الرشايدة، ولغة الشعائر الإسلامية فقط. بينما يعتبر أخرون اللغة العربية في أرتريا هي اللغة الأساسية التي تتجاوز كل اللغات المحلية.
إطلالة تاريخية:
يرتبط التاريخ، والعرف، والظرف الإجتماعي الإريتري بتاريخ وثقافة الجزيرة العربية إرتباطا وثيقا. كانت أرتريا عبر التاريخ نقطة تلاقح بين ثقافة ضفتى البحر الأحمر؛ الثقافة السامية - العربية والثقافة الأفريقية. فمملكة أكسوم وحضارتها، ولغة الجئز وماتفرع منها من التيغرينية والتيجري، لهما أصول وروابط يمنية - عربية عميقة. وعبر القرون، من خلال الهجرات المتتالية، والعلاقات التجارية، وحركات الغزو، تعرضت أرتريا لموجات من التأثيرات العربية المستمرة.
ولذلك، كانت اللغة العربية جزءًا من تشكيل اللغات المتداولة في أرتريا منذ وقت مبكر في التاريخ. ولعله من الصعب تحديد أبعاد وعمق تأثير اللغة العربية في أرتريا قبل الإسلام، لكن إحتمال كون اللغة العربية جزءًا من مزيج اللغات الأرترية في ذلك الوقت أمر لا يمكن إنكاره. وبحسب بعض التقارير التاريخية، فإن ملك الحبشة الذي هاجر إليه صحابة النبي (ص)، كان يتقن اللغة العربية حيث قضى جزءًا من شبابه في الجزيرة العربية. ومع حلول فجر الإسلام في أرتريا، انتشرت اللغة العربية، واتسع نطاق تداولها والتحدث بها.
استخدمت القوى الإستعمارية العربية والتجرينية في اتصالاتها مع الجمهور الأرتري، وتمشياً مع سياسة فرق تسد، عاملت اللغة العربية كلغة خاصة بالمسلمين والتجرينية كلغة للمسيحيين. في حقبة تقرير المصير الأرتري، تبنت الكتلتان السياسيتان - كتلة الإنضمام وكتلة الإستقلال - مواقف متعارضة.
دعت كتلة الاستقلال بقيادة الرابطة إلى الاعتراف باللغتين العربية والتجرينية كلغات رسمية؛ بينما عارضت الكتلة الإنضمامية الإعتراف بالعربية ودعت إلى إعتماد التجرينية فقط أو التجرينية والأمهرية.
أثناء صياغة الدستور الأرتري، بعد إنشاء البرلمان الأرتري، كانت مادة اللغة الرسمية هي الأكثر إثارة للجدل والخلاف. وبعد نقاشات محتدمة، وردود متبادلة، ومفاوضات جانبية، صوت البرلمان لصالح المادة 39 والتي تنص على ما يلي:-
1. تكون اللغتان التيجرينية والعربية اللغتان الرسميتان في أرتريا.
2. حسب العرف المتبع في أرتريا سيسمح باستعمال اللغات المكتوبة والمنطوقة لدى مختلف عناصر الشعب عند الإتصال بالسلطات العامة كما يسمح باستعمالها للأغراض التعليمية والدينية ولجميع أوجه التعبير عن الرأي.
في حقبة الكفاح المسلح تمسكت حركة التحرير الأرترية وكذلك جبهة التحرير الإرترية بالموقف الذي تبنته الكتلة الإستقلالية، وما قررته مادة 39 من الدستور الأرتري حول اللغات الرسمية في أرتريا، وأكدت جبهة التحرير هذا الموقف في مؤتمرها المنعقد عام 1971. ورغم هذا فقد برزت من داخل جبهة التحرير أقلية لها رؤية مغايرة لمسألة اللغات الرسمية. أصدرت هذه المجموعة وثيقة "نحن وأهدافنا" (1971)، وفيها تشكيك في مدى تعبير مادة اللغات الرسمية في الدستور الأرتري عن رغبات الشعب الأرتري.
تقول الوثيقة: "أصبحت اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية في أرتريا فقط من خلال "القرار الفيدرالي" لعام 1952 الذي لم يشارك فيه الشعب الأرتري"
في وقت لاحق، تبنت الجبهة الشعبية لتحرير أرتريا ما أطلق عليه "سياسة المساواة في اللغة"، والذي كان يشكل تحولا عمليًا عن سياسة ثنائية اللغة الرسمية المستقرة منذ الخمسينيات. بعد إستقلال أرتريا وأثناء صياغة دستور عام 1997، برز للسطح نقاش اللغة الرسمية في أرتريا. تجنب واضعوا المسودة ذكر أي شئ يتعلق باللغات الرسمية، واكتفوا بالمادة 4 (3) والتي تنص: "المساواة بين جميع اللغات الأرترية مضمونة".
النقاش البرلماني بين المؤيدين والمعارضين:
ناقش البرلمانيون قضية اللغة الرسمية بحماس بالغ، وقدم الطرفان حججهما بقوة وعزم. ولا تزال هذه الحجج هي الأصل في كثير من النقاشات التي تدور اليوم. وفيما يلي نبذة مختصرة عن حجج المعارضين والمؤيديين:-
المعارضون:
• لا يوجد في أرتريا أحد لا يفهم التجرينية، وعليه يجب أن تكون هي اللغة الرسمية الوحيدة.
• اللغة العربية لغة دينية، وأجنبية، ولا يمكن أن تكون لغة رسمية.
• بما أننا سنرتبط فيدراليا مع إثيوبيا، فلتكن اللغة الأمهرية هي اللغة الرسمية الثانية مع التيجرينية.
• إذا كانت هناك حاجة للغة رسمية ثانية، فلتكن لغة التيجري اللغة الثانية.
• لتكن التجرينية فقط اللغة الرسمية، ولنستخدم اللغة العربية بصورة مرحلية، حتى يتعلمها من يجهلها.
• معظم الدول لديها لغة رسمية واحدة، وعلم واحد... دعونا نتبنى التجرينية فقط.
المؤيدون:
• اللغة العربية لها تاريخ طويل، وهي لغة العديد من الدول.
• اللغة التيجرينية محدودة وهي لغة سكان الهضبة (كبسا) فقط.
• اللغة العربية ليست أكثر أجنبية من التيجرينية، كلتاهما - العربية والتجرينية - نشأتا في اليمن.
• اللغة العربية في أرتريا ليست مجرد لغة دينية، بل هي أيضًا لغة الثقافة والتعليم.
ملاحظات:
• من الملفت للنظر أن مقترح إعتماد لغة التيجري، لم يتقدم به البرلمانييون الناطقون بالتيجري، ولكن تقدم به البرلماني الإنضمامي - ممثل منطقة سراي - القس ديمطروس، نائب رئيس البرلمان الأرتري. وقد عارض الناطقون بالتيجري هذا المقترح من أساسه، وكانوا من أبرز المؤيدين لاعتماد اللغة العربية.
• عبر البرلماني الإتحادي المسيحي، "أمباي هبتى" - منطقة كرن - عن دعمه لاعتماد العربية والتجرينية، ودعى إلى نبذ الفرقة.
• الأقلية البرلمانية المسلمة في داخل حزب الإنضمام أصدرت بيانا مخالفا لموقف الحزب، مؤيدة إعتماد اللغة العربية كلغة رسمية ثانية.
• عارض البرلمانيون المؤيدون للعربية - في أغلبهم - إدراج البند 39 (2)، حيث كانوا يشكون من مقصدها، ويرونها غير ضرورية، وقد تكون مدخلا لتقويض البند 39 (1).
• طالب البعض - كرد فعل - إعتماد اللغة العربية فقط كلغة رسمية إذا كانت ثنائية اللغة غير مقبولة.
تحليل مسائل الخلاف:
أ) هل اللغة العربية "لغة أم" في أرتريا؟
الجواب: بداهة - النفي، مع إستثناء الرشايدة. لكن النظر الأعمق يبين بوضوح أن اللغة العربية وإن لم تكن "لغة الأم"، فهي "لغة البيت"، وذلك من خلال تداولها الواسع في البيوت الأرترية. والنظرة الإستقرائية العابرة تكشف أن العديد من العائلات الأرترية المسلمة تستعمل بجانب اللغة الأم، اللغة العربية.
علاوة على ذلك، فإن الأسر التي ترتبط برباط المصاهرة وتختلف لغاتها، تستخدم اللغة العربية كوسيلة مشتركة للتواصل والتفاهم بينها. ويُلاحظ هذا بصورة أوسع في الأسر المصوعية والمنخفضات الأرترية. بالإضافة إلى هذا، فإن مصطلحات اللغة العربية منتشرة، ليس فقط في اللغات السامية الأرترية، ولكن أيضًا في اللغات الحامية، مثل لغة "الساهو" والتجرينية التي يتحدث بها الجبرتة في أرتريا، على سبيل المثال، تزخر بالمصطلحات العربية. ونظرة سريعة في الشعرالسيهاوي، وخاصة شعر الشاعر المخضرم، الحاج صالح إندجو، نجد فيها كثرة المفردات العربية. ولقد أصبح إنتشار اللغة العربية في داخل أكبر الجاليات الأرترية في الخارج، في السودان والسعودية أمرا واقعا، حيث أصبحت اللغة العربية لغة البيت والأسرة.
ب) هل العربية لغة دينية في أرتريا؟
نعم وأكثر. اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة الشعائر الإسلامية. ومؤيدوا اللغة العربية يرفضون دعوى إقتصارها على الشعائر الدينية، ويعارضون مشابهة اللغة العربية بلغة الجئز، التي يستخدمها رجال الدين الأرثوذكس في طقوسهم الدينية. في عام 1950م، بناءا على طلب من إنزو ماتينزو، مبعوث الأمم المتحدة إلى أرتريا، كتب سماحة مفتي أرتريا رسالة مفصلة، يوضح فيها مدى إنتشار اللغة العربية، ووجوه استخدامها من قبل مسلمي إرتريا في ذلك الوقت. وفيما يلي مقتطفات من تلك الرسالة:-
١) يستعملونها ثقافيا في مختلف مدارسهم سواء كان تدريسا دينيا أو تدريسا علميا..، وجميع صحفهم تصدر باللغة العربية. وتاريخ إبتداء الصحافة في أرتريا منذ أربعة وعشرين عاما تقريبا، ومن ذلك الحين إلى هذا اليوم ما زالت تصدر الصحف بالعربية كغيرها حتى بلغ عدد الصحف التي صدرت بالعربية من بدئها إلى هذا اليوم أربعة عشر صحيفة ما بين يومية وأسبوعية وشهرية، منها خمسة حكومية والباقي صحف حزبية وفردية. وحكومات أرتريا في العهد التركي والمصري كانت تكتب وتنشر ما يخص الأهالي باللغة العربية فقط، حيث لم تكن هناك لغة كتابة غيرها في أرتريا في ذلك العهد، ثم بعدها مازالت الحكومات التالية لها تكتب وتنشر بالعربية جميع ما يخص المسلمين سواء كانت الحكومة الإيطالية أو الحكومة الأثيوبية أو الحكومة البريطانية كما أطلعتكم على نماذج من ذلك وكما ترون في سير الإدارة المحلية وصنيع معاليكم في نشراتكم أيضا.
٢) المسلمون يستعملونها دينيا وأخلاقيا حيث يوجد في أرتريا حوالي خمسمائة مسجد وأربعة آلاف خلوة قرآنية وجميع أذكارهم وتلاوتهم للقرآن وأذانهم للصلوات فيها كلها بالعربية. ويوجد في ما بينها أربعين جامع ا يلقي الخطباء فيها أربعين خطبة بالعربية أسبوعيا في كل يوم جمعة، وهي كلها في تقويم أخلاق العامة وتحذيرها من الأعمال المخالفة للدين والقانون والنظام والآداب.
٣) يستعملونها عائليا فإن جميع الوصايا وأنسابهم وتواريخ أجدادهم ومراسلاتهم كلها بالعربية.
٤) يستعملونها تجاريا وفي المعاملات، فإن جميع عقودات المسلمين من شركات ورهونات وديونات وحسابات تجارية كلها تكتب بالعربية.
٥) يستعملونها قضائيا فإن جميع المحاكم الإسلامية تكتب وارداتها ومحاضر قضاياها وسجلاتها وأحكامها ومراسلاتها وغير ذلك باللغة العربية. وتوجد في المحاكم المذكورة اليوم سجلات مضى عليها قرابة قرن في القضايا وغيرها، ويوجد منها في محكمة مصوع وحدها فوق ستين مجلدا وكلها قبل العصر الإيطالي، الذي كانت فيه {محكمة مصوع} مرجع الحقوق القضائية في تلك المدينة قبل العصر الإيطالي وإلى هذا اليوم.
٦) يستعملونها إجتماعيا فإن جميع المنظمات الإسلامية سواء كانت ثقافية أو رياضية أو سياسية أو قومية إنما تكتب دساتيرها ولوائحها ودفاترها ووثائقها وتلقي محاضراتها كلها باللغة العربية كما يشهد لكم بجميع ذلك الواقع المحسوس وكتب التواريخ. (ii)
ج) هل تشكل اللغة العربية خطرا على المسيحية؟
يعرض الكاتب "هبتى ماريام سمرى" في كتابه عن تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في الحبشة، تخوف المسيحيين من العربية ويقول:
"المسيحيون الأحباش، سواء في أرتريا أو إثيوبيا، ليس لديهم أي مشكلة مع الإسلام، لكنهم لا يرضون إستيراد وترويج، لغة وثقافة من شأنها أن تعفو أثر تراثهم الأثير لديهم، بأموال مدعومة. اللغة العربية في نظر معظم المسيحيين الأحباش خطر وتهديد رئيسي". صفحة 266
التخوف الذي نقله "هبتى ماريام" مفهوم وغير مستغرب. التاريخ يبين أن إنتشار اللغة العربية كان مرتبطا بانتشار الإسلام. واللغة العربية كانت وعاء الإسلام التي ساعدت في إنتشار الإسلام في بعض المراحل الزمنية. ولكن النظر الأبعد يبين عدم تلازم هذا التخوف. نظرة سريعة إلى الأدب العربي في الحاضر والماضي، تبين أن بعض أبرز الشعراء، والكتاب، والرواد في اللغة العربية كانوا من المسيحيين. من أبرز شعراء العصر الأموي، كان الأخطل - نظير جرير، والفرزدق - وكان مسيحيًا من قبيلة تغلب.
وفي الأدب العربي المعاصر، تبرز أسماء الأدباء من المسيحيين العرب، أمثال جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، سلامة موسى، بطرس البستاني وغيرهم. وقد كان ميشيل عفلق، وهو مسيحي عربي، من أبرز منظري القومية العربية، ومن مؤسسي حزب البعث العربي. ولا تزال بعض أقدم الكنائس والمجموعات المسيحية في العالم اليوم تستعمل اللغة العربية من قبل ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، ويقدر عدد المسيحيين العرب اليوم 15 مليون. وبناءا عليه، فإن ربط اللغة العربية بالإسلام فقط ربط غير دقيق، واعتبار اللغة العربية تهديدًا للمسيحية أيضا غير صحيح.
د) هل مقترح إعتماد اللغة العربية كلغة رسمية مقترح أرتري أصيل؟
يؤكد البعض ممن يعارض اللغة العربية، أن فكرة إعتماد اللغة العربية فكرة غير أرترية، زرعتها أيدي أجنبية وعميلة. لاشك أن هذا الزعم بعيد عن الواقع تماما، وإن كان فيه جوانب صحة في بعض مناحيه. الشواهد التاريخية تؤكد إنقسام الشعب الأرتري حول اللغة العربية، في الغالب على خطوط طائفية. المسلمون الإرتريون، على الرغم من خلافاتهم وانقساماتهم السياسية، أجمعوا على مطلب إعتماد اللغة العربية، بما في ذلك من انتسب إلي الحزب الاتحادي من المسلمين. حدث هذا الإجماع في داخل الكيان الأرتري، قبل ظهور أي تأثيرات خارجية، سواء كان من تأثير الأموال النفطية أو دعايات القومية العربية.
بالتأكيد هناك عنصر من عناصر التأثير الخارجي يمكن أن ينسب إلى قوى خارجية. ففي أثناء فترة الكفاح المسلح، حاول حزب البعث القومي العربي - بشقيه السوري والعراقي - بث فكرة القومية العربية في إرتريا من خلال بعض الفصائل الإريترية التي قام برعايتها. وهذا بالتأكيد أمر مرفوض. ودعوة الأرتريين عموما لإعتماد اللغة العربية لم تكن إحتضانا للقومية العربية. الفكري العربي القومي دخيل على الساحة الأرترية، ومن الخطل الخلط بينه وبين المطالب المشروعة التي عبر عنها بوضوح قطاع كبير من الإريتريين باعتماد اللغة العربية.
هـ) هل اللغة العربية هي أصل الخلاف؟
الإختلاف حول اللغات الرسمية وما شابهها من القضايا الوطنية ليس مقصورا على إرتريا. والمشكلة الأساسية التي هي أصل الخلاف ليست في مكانة العربية، وكونها لغة رسمية أو غير رسمية. المشكلة الحقيقية تكمن في "العقلية" التي يتم التعامل بها في معالجة القضايا الخلافية. إن وجود عقلية هادئة، وموضوعية، تبحث عن الصالح العام أمر بالغ الأهمية في إجراء حوار بناء ومثمر. وهذه العقلية من ملامحها أنها: تحلق في أفاق "نحن"، وليس أفق "أنا"؛ تسعى لتحقيق الفوز المشترك، دون الفوز على حساب الطرف الآخر؛ تبحث عن القواسم المشتركة، لا القواسم المتضادة؛ تسعى للفهم، قبل طلبها لأن تفهم. الخلاف حول اللغة العربية عرض لمشكلة أكبر، تحول دون تحقيق الحلول الناجعة للقضايا العالقة.
إن العقلية المندفعة، والمتوجسة، والمرتكزة على التفكير التآمري، والمصبوغة بالروح الحزبية، والقائمة على النظرات الجزئية، لا تزيد الساحة الأرترية إلا مزيدا من البلبلة، وتوسيعا للشرخ الوطني. ولقد آن الأون لتغير نوعي في العقلية التي تعالج بها المسائل، والكيفيات التي تدار بها الحوارات.
الخاتمة:
بغض النظر عن ماهية اللغة الرسمية في أرتريا، فإن معرفة اللغة العربية والتجرينية أمر بالغ الأهمية لكل من يسعى إلى حسن فهم النبض والعقل الأرتري بشكل كامل. الإنتاج الفكري والأدبي في أرتريا هو في غالبه باللغتين العربية والتجرينية. ولغة التواصل الاجتماعي، وحوارت الشبكة العنكبوية، والمواقع الأرترية هي بالجملة باللغتين العربية والتيجرينية. وكما أشرت في مقال سابق، هناك "فجوة فكرية" (iii) داخل المثقفين الأرتريين، ولا يمكن سد هذه الفجوة إلا من خلال نظرة متكاملة للواقع الأرتري، بعيدا عن النظرات المجزأة والحزبية.
الواقع الإرتري اليوم مغاير لواقع الخمسينيات من القرن الماضي. التيجرينية لم تعد لغة الهضبة فقط؛ لقد خطت خطوات كبيرة لتكون لغة متكاملة. كما أن اللغة العربية قد إنتشرت إنتشارا أوسع في وسط عامة الناس، وبين عدد متزايد من الشرائح المتعلمة والمثقفة. في عالم اليوم، فقدت الحدود اللغوية والطائفية، والأيديولوجية معانيها، وأصبح العالم كالقرية الواحدة. إن الازدهار في هذا العالم الجديد لا يأتي إلا من خلال الإنفتاح، والتواصل، والترحيب بكل جديد نافع، وقبول كل توجه صالح، كل ذلك في إطار نفسية واثقة وعقل مستقل. ولا يصح في عالم هذا شأنه، أن يشيح بوجهه أي أرتري واعي فرص تعلم وإتقان التجرينية والعربية. ومن تحاشى ذلك فإنه قد يكون ممن ضيقوا أفاقهم، وحددوا مداركهم.
المراجع:
Redie Bereketeab, The Politics of Language In Eritrea: Equality Of Languages Vs. Bilingual Official Language Policy, The Nordic Africa Institute Uppsala, Sweden.
Richard A. Rosen (1999), Constitutional Process, Constitutionalism, and the Eritrean Experience.
Habtemariam T. Semere (2017), Reflections on the History of the Abyssinian Orthodox Tewahdo Church, Africa World Press, Inc.
Negash Ghirmai (2010), A History of Tigrinya Literature, Africa World Press, Inc.
محمد سعيد ناوود، العروبة والإسلام بالقرن الأفريقي
أبوبكر جيلاني، جذور الصراع حول لغات التعليم في أرتريا
አለምሰገድ ተስፋይ (2005), ፈደረሽን ኤርትራ ምስ ኢትዪጲያ
https://mukhtar.ca
تفرق بعض المذاهب الفقهية بين المسجد والجامع. والجامع هوالذي تقام فيه صلاة الجمعة. ( i )
https://mukhtar.ca/ خطاب-المفتي-إلى-مندوب-الأمم-المتحدة-في/ ( ii )
https://www.farajat.net/ar/سد-الفجوة-الفكرية-والثقافية ( iii )
التعليقات
مقال رائع يستند على حقائق تاريخية و يطرح الموضوع بشكل علمي شاملا اراء الكتاب الذين تناولو الموضوع منطقيا وعلميا بعيد من التعصب.
إلا انا المقال لم يقدم الحلول أكتفى بمعاينة المرض دون تقديم الداء او الدواء وهذا يترك الملق مفتوح مما يجعل الموضوع يظهر لمرة الثانية من نقطة الصفر و دوران لاتنتهي إن موضوع اللغات الرسمية يحسم عن طريق الدستور.
وقبل ان اتحدث في هذا الموضوع اشير إلى موضوع الدستور الارتري فهناك قولان: القول الأول يقول بأن الدستور الأرتري موجود لكن غير مُطبق بسبب منع الحكومة الحالية من تنفيذه اما القول الثاني يقول انه لا يوجد دستور ولكن مسودة. ومن بين فريق الأول الدكتور برخت هبتي سلاسي الرئيس السابق لهيئة الدستور الأرترية. إنما قدمت موضوع الدستور لأن في كلتا الحالتين لا توجد مادة في الدستور تشير بشكل واضح وقاطع بالنسبة للغة او للغات الرسمية في إرتريا.
وارى بأن لا بد من تعديل الدستور ليشمل موضوع اللغات الرسمية في إرتريا مثل ما فعله دستور الفيدرالية في الخمسينات لقرن الماضي وذلك بجعل العربية والتجرنية لغتان رسميتان للبلاد.
هذا الموضوع يقودنا إلى سؤال من وكيف يقوم بتعديل الدستور ليجعل اللغة العربية والتجرنية. هل هو الحزب الحاكم ام الحكومة المُنتخبة التي تأسس من المعارضة التي تطالب الديمقراطية والعدالة و احترام حقول الإنسان.
هل نريد ألإستفتاء لحسم الموضع؟
بحيث يختار الشعب بالحرية ويحسم الموضوع برأي الاغلبية؟
هذه هي بعض حلول اراها تجعل موضوع وضع اللغة العربية وبخاصة موضوع جعلها باللغة رسمية موضعا محسوما.