جامعة اسمرة... التي فَرَّتْ من قسوره - الجزء السابع
بقلم المهندس: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري
الطريق إلى كســـــــلا:
قبل الحديث عن إيفاد جبهة التحرير الارترية المناضلين/ سيوم عقبا ميكائيل وولد داويت تمسقن،
لتنظيم الخلايا الطلابية والمهنية داخل مدينة أسمرا، دعونا في هذه الجزء نتحدث عن رحلة انضمام المناضلين الى جيش التحرير الارتري، تلك المغامرة التي رواها المناضل/ سيوم حرستاي في مقابلة نشرت في موقع عواتي الالكتروني بتاريخ 29 يونيو 2001م والتي زودني بها المنقب عن تاريخ نضالات وبطولات الشعب الارتري ابان فترة الكفاح المسلح الاستاذ/ أحمد داير - مشكوراً - حيث كتب عنها باقتضاب في معرض حديثه عن سيرة حياة المناضل/ ولد داويت تمسقن، ولا بأس من أن نورد عنها بعض التفاصيل كما رواها المناضل/ سيوم حرستاي في المقابلة المذكورة أعلاه.
يقول حرستاي: بنهاية مظاهرات 1965م واعتقال الآلاف من الطلاب في سجن سمبل، كان من الصعب على اثيوبيا الاحتفاظ بكل هذه الأعداد الهائلة من الطلاب في السجون، لذا قامت بإطلاق سراحهم بعد حوالي ثلاثة أيام من الاعتقال، لكنها ركزت في استهداف القيادات الطلابية والتي من بينها سيوم وولد دوايت وآخرون، فغادر العديد منهم العاصمة أسمرا إلى مناطق نائية للابتعاد عن أعين الأجهزة الامنية، وبما أنهما من سكان العاصمة أسمرا لم يجدا مكاناً يختبئان فيه وأن كافة الأماكن المحتملة للاختباء أصبحت تحت الرقابة الأمنية، وبعد استشارة بعض الأصقاء المقربين قررا الانضمام لجيش التحرير الارتري، وكانت تلك أيضاً نصيحة عناصر جبهة التحرير الارترية لهما.
بالرغم من أن الطريق إلى كسلا يمر عبر المعابر الغربية لارتريا إلا أن الطالبان قررا أن يسلكا طريقاً آخر عبر العمق الاثيوبي نفسه، وذلك لسببين هما:-
1. بما أن الأجهزة الأمنية الاثيوبية قامت بتوزيع صورهما على كافة المنافذ ونقاط التفتيش خصوصاً في المنطقة الغربية المؤدية الى كسلا، كان عليهما تضليل الأجهزة الأمنية بتفادي المرور عبر المنطقة الغربية.
2. بما أن المقاومة الطلابية في أسمرا أصبحت أمراً بالغ الصعوبة نظراً للقبضة الأمنية، فكر الطالبان في تكوين خلايا طلابية وعمالية داخل اثيوبيا قبل مغادرتهما الى جيش التحرير لتكون بديلاً ورافداً للمقاومة داخل أرض الوطن.
وبناءً عليه، قاما بالتوجه فوراً إلى مدينة قندر الأثيوبية التي كان يتواجد بها عدد كبير من الطلاب والعمال الارتريين الهاربين من بطش النظام الاثيوبي بعد تظاهرة 1958م العمالية، فور وصولهما الى قندر توجها مباشرة الى كلية الطب التي يتمركز فيها الطلاب الارتريين، وقد تمكنا من التواصل مع كافة الوطنيين المتواجدين بالمدينة وتم تكوين خلايا عمالية وطلابية سرية، ولم يكن لديهم المال الكافي سوى لرحلة واحدة، لذا قام أعضاء الخلايا السرية التي قاموا بتأسيسها بتمويل الرحلة الى أديس أبابا، ويقول حرستاي: أنه لا يمكن أن يتخيل كيف وصلا إلى أديس أبابا نسبةً للمخاطر التي كانت تحيط بهما، ولولا الطاقة الشبابية المتدفقة التي كانت تدفعهم، وطبيعة الروح الشبابية التي لا تكترث في الغالب للظروف والمخاطر الأمنية - مهما تعاظمت - ما أقدما على تلك المغامرة، بعد وصولهما إلى أديس أبابا أقاما في بادئ الأمر في داخليات الطلاب بكلية الاتصالات، حيث قاما بتنظيم الخلية الطلابية السرية فيها، ثم انتقلا لباقي الكليات في جامعة أديس أبابا واحدة تلو الأخرى، وبعد أن أكملا تنظيم الخلايا الطلابية في جامعة أديس أبابا توجها إلى مدينتي (جيما Jimma) و (ديري داوا Dire Dawa) وتشكيل الخلايا فيهما، حيث تمكنا من تشكيل خلايا واسعة في (ديري داوا Dire Dawa) لوجود مدرسة ثانوية كبيرة هناك، ثم انتقلا إلى هرر ليشكلا فيها العديد من الخلايا الطلابية والعمالية في جميع البلدات التابعة لها، وعلى الرغم من كل هذه الأسفار بقيا على اتصال مع زملائهما في أسمرا عبر رسائل مشفرة متفق عليها مسبقاً، حيث كانا يزودانهما بكل ما هو جديد عن كافة الانشطة التي يقومان بها، وعند وصول لحظة المغادرة خارج اثيوبيا، كان لديهما خيارين، هما:-
• عبر قندر إلى السودان،
• عبر صحراء هرر إلى الصومال،
وقبلها كانا قد حاولا عبور الحدود إلى جبوتي بشكل غير رسمي إلا أنه تم القبض عليهما وأعيدا إلى اثيوبيا، لذا قاما هذه المرة بالمحاولة عبر مكان يسمى (عايشة دويللي Aisha Dewelle) في أوقادين للعبور إلى الصومال، إلا أنه قبض عليهما في نقطة التفتيش ولحسن الحظ وجدا العقيد المسئول من المركز ممن كانوا يعملون في ارتريا وله ذكريات جميلة في ارتريا، وعندما سألهما عن وجهتهما أخبراه أنهما في رحلة استكشافية لوطنهما الكبير اثيوبيا، الجدير بالذكر ان سيوم حرستاي كان مولعاً بالعَلَمْ الارتري وكان يحمله في حقيبته وعندما دخلا لمركز الشرطة قام بدفنه داخل المكتب، وبعد الانتهاء من عملية التفتيش، أخذه دون أن يشعر به أحد، ثم قام العقيد باعادتهما الى ديري داوا بعد أن تكفل بؤجرة السيارة التي أقلتهما، ثم توجها من ديري داوا إلى قندر، وفي طريقهما تمكنا من المرور على كافة الخلايا التي قاما بإنشائها للاطلاع على أحوالها والاطمئنان على تطور نشاطاتها، وفي كل مرة كانت هذه الخلايا تتكفل بتكاليف الرحلة التي تليها.
الطريق إلى المتمة: يتطلب العبور من قندر إلى المتمة الكثير من المعلومات، لم تكن هناك وسيلة نقل من قندر إلى المتمة في ذلك الوقت سوى مركبة واحدة تعبر إلى السودان مرة كل ستة أشهر في رحلة شاقة تستغرق عشرة أيام عبر الغابات والطرق الوحلة، كان عليهما الوصول إلى هذه المركبة سراً بعد عودتها من المتمة لأنه كانا يخشيان أن ينكشف أمرهما، وأخيرًا وصلا إلى سائق الشاحنة الإثيوبية، وهو مواطن سوداني، قدما له نفسيهما كضباط متدربين من الأكاديمية الإثيوبية تم تعيينهم في المتمة، لكنه حذرهما من مخاطر الرحلة فوافقا على تحمل المخاطر، استغرقت الرحلة من قندر إلى المتمة عشرة أيام، وعند وصولهم إلى المتمة - وبما أنهما كانا يعرفان نفسيهما كضباط حديثي التخرج - قام الركاب الذين كانوا معهم في الرحلة بإبلاغ ضباط مركز الشرطة في المتمة بوجود ضابطين تم تعيينهما في المتمة، فكان ذلك فخاً لم يضعاه في الحسبان، لذا تركا حقيبتيهما مع اثنين من التقراي كانا قريبين منهما خلال الرحلة وتسللا بعيداً عن أعين الناس، ثم بعد أن تمكنا من الهروب من فخ ضباط الشرطة واجها مشكلة العثور على الحقائب ليعثرا عليها بعد جهد جهيد، علماً أن التقراويين كانا قادمين للبحث عن أخ لهما مفقود منذ خمسة وعشرين عاماً، فوجداه في المتمة وقد أصبح ثرياً، والذي كان قدراً إلاهياً ساقه الله إلى المناضلين للوصول لوجهتهما فيما بعد.
يقول حرستاي: عندما وجدنا الرجلين التقراويين اللذين تركنا الحقائب معهما، وجدنا عندهما أخاهما الثري المفقود، فشرحنا لهم وضعنا الحساس فتعاطفوا معنا، لذا أصبحت قضية عبورنا الحدود موضوع نقاش بيننا جميعًا، تم حل مشكلة الدعم المالي لأن أخاهما الثري عرض علينا أن يدفع ثمن رحلة العبور - ولكن - هل نعبر بنفس السيارة أم ماذا؟ عند استفسارنا عن طريقة العبور إلى السودان، قيل لنا أن الطريقة الأكثر أمانًا هي العبور في شاحنة، لأنه وبالرغم من أن المتمة شبه سودانية، إلا أن محاولة عبور الحدود سيرًا على الأقدام تنطوي على مخاطرة كبيرة، وبعد بحث طويل، اكتشفنا أن نفس السيارة التي نقلتنا إلى المتمة كانت في طريقها إلى السودان، ولكن كيف نتصرف مع سائق السيارة وقد هربنا منه بعد وصولنا إلى المتمة، ولو أكتشف أمرنا ماذا نفعل؟ وأخيرً توكلنا على الله وأخبرناه أننا نريد العبور إلى السودان، كان الرجل غاضبًا وقال لنا: أنتم لديكم مشكلة، لأن الشرطة تبحث عنكما بسبب مغادرتكما المحطة بطريقة غريبة وكأنكما تبخرتما، ثم أردف قائلاً: إنه لا يريد الدخول في مشاكل، ورفض أن يقلنا في سيارته، وعندما أصرَّ على رفضه اقترب منه الرجل الثري مقدماً له عرضاً بأن يدفع له أجرة الرحلة ضعفين، فوافق الرجل بشرط أن يمكننا من عبور الحدود فقط.
تمكنا من عبور الحدود ووصلنا مكان يسمى (باسندا) داخل الأراضي السودانية - ولحسن حظنا - كان ذلك في عام 1965م بعد أن قامت ثورة أكتوبر 1964م المجيدة بالإطاحة بالجنرال عبود، للتولى مقاليد الحكم في السودان حكومة انتقالية برئاسة سرالختم الخليفة، والتي قامت بالاعلان عن تضامنها مع الثورة الارترية والثورة الكنغولية، ولم يكن هذا الموقف موقفها فسحب بل كان موقف ثورة أكتوبر الشعبية المجيدة، لذا عندما دخلنا السودان تم استقبالنا استقبال الأبطال الفاتحين، في باسندا إلتقينا محافظ المنطقة واستضافنا كشخصيات هامة، شرح لنا الثورة السودانية وبدورنا اطلعناه على أوضاعنا، ثم عرض علينا كي يرتب لنا رحلة خاصة إلى مدينة القضارف، لكننا فضلنا الاستمرار بنفس السيارة، لأنها أيضاً كانت في طريقها إلى القضارف - ثم حدث شيء غريب - وهو عندما غادرنا بيت الضيافة بحثاً عن الأشخاص الذين جاءوا معنا في الرحلة، وهم عمال إثيوبيين يأتون إلى السودان بحثًا عن عمل، ومن كثرة سؤالنا عنهم، شك بنا بعض رجال الأمن وألقوا القبض علينا وتم اقتيادنا إلى المحافظ الذي كنا في ضيافته، وأبلغوه إنهم اعتقلوا جواسيس إثيوبيين، فضحك عليهم المحافظ وأوضح لهم أننا كنا في ضيافته وأعيدت لنا أمتعتنا وأفرج عنا في الحال.
وهكذا توجهنا إلى القضارف، وأتذكر أن ولد داويت مرض مرضاً شديداً أثناء الرحلة، لأنه كان يعاني سعالاً شديداً، وقد تزامن وصولنا إلى القضارف مع ذاك الاجتماع الكبير الذي عقدته جبهة التحرير الإريترية، وكان يترأسه المناضل/ محمد علي عمرو والمناضل/ ملو قرقيس Mulu Ghiorghis الذي كان لاحقًا سبباً في إعتقالنا - وعندما وصلنا مكان الاجتماع، أوقفوا الاجتماع وأعطونا فرصة مخاطبة الجماهير، فألقينا كلمة حول الوضع السياسي والأمني في إرتريا عامة، ووضع الحركة الطلابية خاصة، وبشكل عام تم تغيير برنامج الاجتماع للاحتفاء بنا والاستماع إلينا، فرحبوا بنا ترحاباً حاراً، لدرجة أن بعض الجماهير كانوا يبكون من فرط مشاعر الفرح لوصولنا، هكذا تم الاحتفاء بنا في السودان، كانت رحلة طويلة وشاقة، لكنها ارتبطت بنضالات الحركة الطلابية وارتباطها بالكفاح المسلح، فقمنا بعقد عدة اجتماعات في القضارف، ثم توجهنا إلى كسلا، وبعد وصلونا إلى كسلا حضرنا الاجتماع الخاص بتقسيم المناطق، فتم تعييني (سيوم عقبا ميكائيل) مفوضاً سياسياً للمنطقة الثالثة والتي كان يقودها الشهيد/ عبدالكريم، أما الشهيد/ ولد داويت تمسقن تم تعيينه مسئولاً للدعاية والاعلام، لتبدأ مرحلة جديدة ومختلفة من النضالات والتضحيات.
كسرة: ذكر المناضل/ محمد عثمان إزاز في كتابه: جبهة التحرير الارترية.. انتصار البداية وانتكاسة النهاية، ذكر فيه ما نصه: "المفوض السياسي للمنطقة الثالثة (سيوم عقبا ميكائيل) تم سحبه بتوجيه من القيادة العامة وعين مسئولاً للفلاحين وتم تعيين أحمد إبراهيم كمفوض سياسي بديلاً عنه في المنطقة".
أعتقد النص أعلاه الذي ذكره المناضل/ محمد عثمان إزاز ليس دقيقاً، للأسباب التالية:-
أولاً: عاد الشهيد/ سيوم عقبا ميكائيل إلى داخل العاصمة أسمرا وفق برنامج وضعه هو شخصياً باعتباره مفوض سياسي وأشرف على تنفيذه - كما سنقوم بسرد تفاصيله في الجزء القادم بمشيئة الله - ولم يتم سحبه من منصبه لتنفيذ المهمة، لكنه اعتقل وكان ذلك في عام 1965م.
ثانياً: عندما انبثقت القيادة العامة من مؤتمر أدوبحا 1969م كان سيوم في المعتقل ولم يخرج إلا في 1975م، كما أن مؤتمر أدوبحا قام بإلغاء نظام المناطق (ان لم تخني الذاكرة) ثم عند خروج سيوم من السجن في عام 1975م لم تكن هناك لا مناطق ولا قيادة عامة.
ثالثاً: بعد خروج سيوم من السجن تم تعيينه ولفترة قصيرة مفوض سياسي للوحدة الادارية رقم 10 (أكلي قوزاي) وليس المنطقة الثالثة، ثم عضواً في لجنة الحوار مع الجبهة الشعبية في 1977م، ثم مديراً لمدرسة الكادر، ثم عضواً في اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيسي لإتحاد الفلاحين المنعقد في عام 1978م في مدينة مندفرا، وبعد المؤتمر مسئولاً له.
ولكن ربما أراد المناضل/ محمد عثمان إزاز القول: أنه بعد اعتقال سيوم قامت القيادة الثورية وليس القيادة العامة بتعيين المناضل/ أحمد إبراهيم مفوضاً سياسياً للمنطقة الثالثة بديلاً عنه.
والعلم عند الله والفاعلين والمعاصرين.
إلى اللقاء... في الجزء القادم