جامعة اسمرة... التي فَرَّتْ من قسوره - الجزء الثاني
بقلم المهندس: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري
التعليم العام في إرتريا الكولونيالية:
لا يمكن الحديث عن حركة طلابية بمعزل عن حواضنها - المؤسسات التعليمية - كما لا يمكن الحديث
عن نضالات الحركة الطلابية دون إبراز الأدوار النضالية المشرفة التي قامت بها الكثير من الجهات ذات العلاقة من لجان تعليمية وإدارات وهيئات تدريس ومعلمين وحتى بعض وجهاء المجتمع الارتري البارزين وتضحياتهم، لذا سوف أقوم في بادئ الأمر بتقديم نبذة مختصرة لنشأة وتطور نظام التعليم العام في إرتريا الكولونيالية (الاستعمارية).
إرتريا الإيطالية:
في السنوات الأولى من الحكم الإيطالي في إريتريا، لم يكن التعليم من أولويات المستعمر، وأن الإيطاليون الأوائل كانوا عبارة عن جنود يهتمون فقط بتعليم اللغة الإيطالية للسكان المحليين، ووفقًا للمراقبين في ذلك الوقت، كان من الصعب جدًا تعيين معلمين من إيطاليا، لأنهم نادرًا ما يرحبون بالعمل في المناطق الاستوائية، ونتيجة لذلك، لعب الرهبان الكاثوليك دورًا رائدًا في نظام التعليم الاستعماري، محافظين على علاقات جيدة مع السلطات الاستعمارية التي أسندت لهم معظم العمل التعليمي، وفي عام 1923 قامت الإدارة الفاشية الجديدة رسميًا بإسناد مهمة التعليم في إريتريا إلى (مجمع سانت آن SantT Ann) كما أن المبشرين احتفظوا بأدوارهم قبل أن يتم طردهم فيما بعد من قبل السلطات الاثيوبية، وفي هذا الصدد يقول ماثيو براتيللي في بحث بعنوان: التعليم في المستعمرات الايطالية خلال فترة ما بين الحربين: "قبل استيلاء موسوليني على السلطة، كان يُنظر السكان الأصليون إلى اللغة الإيطالية باعتبارها أداة تحضر وتجانس، في حين تم إنشاء تعليم منفصل لمن كان يراد تدريبهم في الوظائف التي تتطلب قدراً من المهارة، وقد قام فرديناندو مارتيني (1897م-1907م) بفرض قيود على حصول الإريتريين على التعليم الابتدائي، والذي كان يُنظر إليه على أنه تهديد كبير لقوى الاستعمار، كان هذا الشعور شائعًا بين المستعمرين في تلك الفترة، وعلى العكس من ذلك، فإن خليفته ماركيز جوزيبي (1907-1915) كان يعتقد أن الغرض من التعليم هو تدريب النخبة المحلية على المناصب الإدارية الاستعمارية، لذلك تم إنشاء مدرسة لأبناء القيادات والوجهاء المسلمين في مدينة كرن في عام 1911م لتدريب الطلاب على العمل في خدمات التلغراف والبريد، ثم في عام 1921م قام ريجيو ديكريتو Regio Decreto بإنشاء نظام تعليمي للإرتريين يتألف من المدارس الابتدائية، ونوعًا من المدارس الثانوية الفنية في أسمرة"، ويقول ميكائيل حسامه في كتابه بعنوان: الكائنات الغريبة والحياة المستقبلية Future Life and Occult Beings "عندما غادر الإيطاليون البلاد في عام 1942، بعد حوالي ستين عامًا من الاحتلال، لم يكن هناك خريج إريتري واحد أو أي شخص ماهر في أي نوع من التجارة".
الإدارة العسكرية البريطانية:
خلال هذه الفترة بدأ التوسع في انشاء المدارس بشكل متسارع، ففي عام 1941م تم إنشاء نظام تعليمي جديد في إريتريا حيث أصبح الكابتن كينستون سنيل مديرًا للتعليم وعُين السيد إسحاق تولد مدهن - إريتري تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الإرسالية السويدية - عين مفتشًا للتعليم، كان لديه خبرة في التدريس قبل إغلاق مدرسة الإرسالية السويدية في عام 1932م، وفي ظل نظام التعليم الجديد، تم إنشاء العديد من المدارس الجديدة وافتتاح نظام لتدريب معلمي المدارس الابتدائية في عام 1943م، لذا نستطيع القول أنه وخلال هذه الفترة بدأ التعليم في ارتريا يأخذ شكلاً منظماً ومناسباً، فزادت عدد المدارس في المناطق الحضرية، كما بدأ التعليم ينتشر على نطاق واسع في المناطق الريفية، حيث تم افتتاح المدارس المتوسطة بالإضافة الى المدارس الابتدائية، فبينما كان عدد المدارس الابتدائية في ديسمبر 1934م (19) مدرسة ابتدائية، تنامى العدد ليصبح (28) مدرسة في ديسمبر 1943م وخلال هذه الفترة كان التدريس باللغتين العربية والتقرينية، وقد تم افتتاح أول مدرسة متوسطة تتسع لـ 115 طالب في العام 1947م، في العام 1949م بلغ عدد المدارس الابتدائية (59) مدرسة بالإضافة الى عدد (5) مدرسة متوسطة وهو العام الذي شهد ابتعاث أول (7) طلاب ارتريين الى الخرطوم للدراسة في المدارس الثانوية هناك، وفي العام 1950م بلغ عدد المدارس الابتدائية (85) والمتوسطة (7) وهو العام الذي أصبح فيه التدريس باللغة الانجليزية بدلاً من العربية والتقرينية، كما تم افتتاح المدارس المسائية في أسمرة، حيث تمكن الشباب وكبار السن من ارتياد الفصول الدراسية المسائية لتحسين مستوياتهم التعليمية.
بناءً على ما تقدم نستطيع القول بأن فترة الادارة العسكرية البريطانية كانت تمثل العصر الذهبي للتعليم في ارتريا مقارنة بما قبلها في فترة الحكم الايطالي وربما بما بعدها للحرب التي واجهها التعليم في ارتريا خلال الاستعمار الاثيوبي كما سيتضح لاحقاً.
التعليم العام خلال العقد الفدرالي (1952-1962):
بعد مغادرة البريطانيين إريتريا في عام 1952، وارتباطها مع اثيوبيا في ذاك الزواج الفدرالي الغير متكافئ، تم انشاء المؤسسات الخاصة مثل (كومبوني)، سانت ماري، سانتا فاميليا، البعثة الإنجيلية والجالية العربية، كما قامت الإرسالية السويدية الإنجيلية بإنشاء مدرسة للصم والبكم في كرن، حيث كانت ترعى عددًا من الشباب، رعت الحكومة السويدية برنامجًا يمول جزئيًا بناء مدارس ابتدائية في إثيوبيا من أجل تسهيل التعليم الابتدائي حيث لا توجد مثل هذه المدارس وقد تم تخصيص جزء من هذه الأموال لإريتريا، إلا أنه ولأسباب تتعلق بمحاربة الامبراطورية الاثيوبية للتعليم في ارتريا حولت نصيب المدارس الارترية الى المقاطعات الجنوبية، وقد أدى هذا الاستهداف الممنهج للتعليم في ارتريا الى التراجع في التوسع في التعليم العام، أما الجمعية الأمريكية فقامت بانشاء مدرسة (لالمبا) للأطفال الأيتام، كما قامت ببناء مستشفى صغير في مدينة كرن، بالإضافة الى بناء مدرسة للمكفوفين وتشغيلها في أسمرا، وفي وقت لاحق، من منتصف الخمسينيات فصاعدًا، تم إحراز تقدم جيد من قبل الحكومة الإريترية وحصل الطلاب على فرصة لمتابعة مستواهم التعليمي الثانوي في إريتريا. كان ذلك عندما افتتحت مدرستا هيلاسيلاسي ومدرسة الأمير مكنن الثانوية في عامي 1955 و 1956. خلال العام الدراسي 1956، كان هناك حوالي 250 طالبًا مسجلين في المدرستين.
مدرسة هيلاسلاسي الثانوية:
مدرسة هيلا سيلاسي الثانوية (HSISS) هي أول مدرسة ثانوية تم إنشاؤها في العام 1955م، والتي تم تمويلها مباشرة من قبل الحكومة الإثيوبية، حيث بلغت تكلفتها حوالي مليون دولار إثيوبي، كانت تعتبر أحدث مدرسة تم إنشاؤها في اثيوبيا وارتريا على الإطلاق، حيث تم تأسيسها لتكون مدرسة داخلية تتسع لـ 450 طالب، ولكن في وقت لاحق وبسبب الزيادة في عدد الطلاب والطلب المتزايد على التعليم الثانوي، تم تغيير الخطة، فتم تحويل قاعة الطعام والعنابر إلى فصول دراسية، وبهذا ازدادت السعة الكلية للمدرسة لاستيعاب حوالي 1000 طالب، يذكر الدكتور/ تيم مبرهتو من جامعة بريستول، بأنه من شروط الحصول على القبول في مدرسة هيلاسلاسي الثانوية، فإن جميع الطلاب الذين نجحوا في امتحان الصف الثامن في جميع أنحاء إريتريا عليهم الخضوع لامتحان إضافي للحصول على القبول، فقط (56) طالب من بين (250) طالب كانوا يجتازون هذا الاختبار حيث كان تيم مبرهتو واحدًا ممن اجتازوا الاختبار ليتم قبولهم فيها، تم بناء هذه المدرسة بتعليمات شخصية من الإمبراطور، وقد كانت مبانيها لا مثيل لها في تلك الآونة حتى أنها تفوقت على مباني المدرسة الايطالية المعروفة باسم سكولا فيتوريو (Scuola Vittorio) ويبدو أن الامبراطور كان يقصد هذا التفوق على الايطاليين الأمر الذي دفعه للإنفاق عليها بسخاء لا يجارى والتي كلفته حوالي مليون دولار اثيوبي، كما اعتبرها البعض عملية دعائية تهدف إلى كسب القلوب والعقول لصالح الامبراطور في منطقة لا يتمتع فيها الامبراطور بشعبية كبيرة، كان مديرها كندياً يساعده طاقم إداري اثيوبي، أما هيئة التدريس كانت تتكون من بريطانيين وهنود وأمريكان بالإضافة الى أثيوبيين، وكان يبدأ الطابور الصباحي برفع العلم الاثيوبي الأمر الذي كان يضايق الطلاب الارتريين كثيراً، وهي أول مدرسة تم فيها تطبيق التدريس باللغة الامهرية فيما بعد.
لؤول مكنن الثانوية:
بعد افتتاح ثانوية هيلاسلاسي تزايدت رغبة الطلاب للالتحاق بالتعليم الثانوي، إلا أنها لم تكن قادرة على استيعاب كافة الطلاب الناجحين في امتحان الصف الثامن، خصوصاً الطلاب القادمين من المناطق خارج العاصمة أسمرا وذلك لعدم كفاية سعة عنابر القسم الداخلي، مما دفع البعض لترك الدراسة، ولحل هذه المشكلة تم افتتاح الثانوية الثانية في عام 1956م باسم الأمير مكنن (Pmss) الابن الثاني للامبراطور هيلاسلاسي والذي كان (دوق هرر) والذي تزوج من الدوقة/ سارة قيزاو (Sara Gizaw) - أرجو أن لا تنسوا اسم عائلة قزاو لأننا سنتحدث عن أحد قادة الحراك الطلابي في اثيوبيا من هذه الاسرة وهو تلاهون قزاو Tilahun Gizaw والذي تم اغتياله عام 1969م، وهكذا ولدت مدرسة لؤول مكنن الثانوية والتي كانت في الأصل مدرسة متوسطة تم تحويلها لثانوية لتكون فيما بعد رأس الحربة في قيادة الحراك الطلابي المقاوم للاستعمار الاثيوبي كما سيتضح لاحقاً، تم تمويل هذه المدرسة من قبل السلطات المحلية (الحكومة الارترية) والتي استمرت على تحمل نفقات تشغيلها.
إلى اللقاء... في الجزء القادم