الاجازيان من أين والى أين ؟ الحلقة السادسة
بقلم الأستاذ: جهراي أدال - كاتب إرتري
التغيير الديمغرافي مشروع اجازي:
مواصلة للحديث عن التغيرات الديمغرافية وما نتج عنها من ضيق للأراضي الزراعية والرعوية لسكان المرتفعات
الارترية، وما دفع بالسكان الأصليين للبحث عن حلول على حساب سكان المنخفضات الشرقية والشمالية والغربية، نطرح سؤال مفاده، لماذا تتحمل ارتريا عبئ إيجاد حلول لمشاكل قطاع من المجتمع الإثيوبي (التجراي)؟
ولماذا لا يحافظ السكان الأصليين من أبناء المرتفعات الارترية "الرستنياتات" على أراضيهم، وما الذي يجعلهم يتكبدون عناء البحث عن حلول لمشاكل الآخرين على حساب أنفسهم واشقائهم، ويدخلون البلاد في مشاكل هي في غنى عنها.
بالتأكيد هذا له علاقة مباشرة بالنخب الانتهازية التي لا تكف عن التشكيك في علاقات المجتمع الارتري ووحدته الوطنية، وتستخدم الدين لتدمير هذه الوحدة، وتستخدم اللغة لتمزيق نسق العلاقات بين افراد القبائل الارترية. فمحاولة إثبات حقوق لم تكن لهم يوما في أراضي الغير، والتي لم يكونوا بحاجة اليها أصلا إذا كانت تعاملنا مع الدوافع من منظور متطلبات التطور الطبيعي للسكان للمنطقة.
وان تجربة ال 16 عاما (1974-1991) من العمل المشترك بين الجبهة الشعبية لتحرير تجراي والجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، ولدت لدي البعض قناعة بأنهم أبناء قومية واحدة ويستطيعون من خلال العمل المشترك تنفيذ مشروع ما يسمونه دولة الاجازيان، كيف لا وبعض العناصر القيادية لا ترى لنفسها دورا إلا بإحياء فكرة العمل مع التجراي الإثيوبيين. ولهذا ما ان اشتد الخناق على التجراي بسبب الخلافات الحالية مع الحكومة المركزية بقيادة ابي احمد، رينا مسفن حقوص يركض الى تجراي لتقديم فروض الطاعة وإظهار التضامن مدفوعا بشعور قومي يختزل الوطن في التجرينية فيقول للتجراي "ما يصيبكم يصيبنا وان عدوكم عدونا". ويحاول مسفن بذلك استلهام تجربة الماضي للعمل المشترك ظنا منه بان ظهور العدو المشترك مجددا يكفي لذلك، بعد ان فشلت نظريات العدو المسلم التي عبأ لها حزب هقدف الاجازي الطاقات لقرابة الثلاثة عقود.
انها محاولة يائسة وغبية تسعى الى استنساخ تجارب التاريخ وجر عجلة الماضي الى الوراء دون مراعاة استحالة ذلك لاختلاف الظروف والأسباب وحتى الشخوص. فلا مسفن ولا اسياس نفسيهما يستطيعان إعادة تجربة سياسية خاضها قبل أكثر من أربعين عاما. فمسفن الذي يمشي ويسعى بيننا كغيره من دواب المعارضة الارترية، لم يعد ذاك الذي نعرفه إبان الثورة، ولم يبقى منه الا التاريخ والصورة والجسد، هذا إذا افترضنا جدلا بانه لا يعمل في فلك اسياس وان تحركه الأخير جاء لنقل رسائل سرية بإيحاء من سيده اسياس. لا يزال مسفن يوصف بأنه "الصندوق الأسود" الذي يحمل أسرار اسياس افورقي، وتسلل الى صفوف المعارضة بحجة الانتماء الى مجموعة ال 15، وهو موضوع مشكوك فيه، ولا يزال يرفض نقد تجربة تنظيمه الحاكم، ويرضى بلقب جنرال مع انها رتبة لم يحملها قط.
ان مشروع العمل المشترك مع التجراي الإثيوبيين اصبحت حلم يراود نخب التجرينية مع انه في الأساس كان مشروعا جبهويا للعمل مع كل القوميات الإثيوبية ضد العدو المشترك حينها، الا انه نجح بين هذين الطرفين وفشل مع أطراف اثيوبية أخرى لأسباب لا يتسع الحيز للاجتهاد فيها.
ولكن أخطر ما أسفرت عنه هذه التجربة هو أنها أصبحت تقدم ملازا للنخب من أصحاب الهويات المزدوجة- من التجراي الارتريين الذين يعانون من اضطراب مزمن في الوعي وإفراط في العصبية الدينية والثقافية التي تعميهم عن حقائق التاريخ وطبيعة العلاقات بين الشعوب.
فستظل تنظر هذه النخب الى هذه التجربة "التي لن تتكرر على الأقل في المدى المنظور" على أنها تجربة سياسية رومانسية وسيبقى حلم إعادة إنتاجها يراود النخب من الطرفين لأجيال قادمة فكرة تحبس الأنفاس كحلم الوحدة العربية، كلما شعرا أي من الطرفين بالضيق وأن هناك خطرا يتهدد مصالحهم، وان احلامهم القومية تروح سد.
هذا النوع من التفكير الانعزالي الذي يفضل العمل مع الغريب بدل من العمل مع أبناء الوطن الواحد يدور في محور الفكر الاجازي الانعزالي ويضر بالمصلحة الوطنية الارترية الاثيوبية على حد سواء، ويجعل من التجراي الارتريين والاثيوبيين عنصري عدم استقرار في المنطقة كلها وسيجعل تعايشهم مع الآخرين أمرا في غاية الصعوبة.
فهذا التفكير هو الذي قطع أوصال وحدة شعبنا الى قومية حاكمة وقوميات محكومة مطلوب منها ان ترضى بما تقدمه لها قومية الرئيس اسياس من فتات باعتبارها صاحبة الامتياز والأولوية في كل شيء.
فالمواطن الارتري بغض النظر عن دينه ولغته كان ولا يزال يعيش في أي بقعة من بلاده، ولهذا نرى قبائل من شرق إرتريا في غربها، وقبائل من غربها في شرقها وسكان من جنوبها في شمالها. وبالتالي لم يكن سؤال الانتماء الى بقعة جغرافية معينة في ارتريا قائما في السابقة ولم يكن معضلة إلا بعد ان حوله التجراي الارتريين الى اجندات سياسية استهدفت الناس في وجودهم على ارضهم، وهذه من القضايا الجوهرية التي نختلف فيها كليا مع التجراي الارتريين، لأنها ممارسات وثقافة مستوردة أتت معهم من تجراي الى ارتريا.
والحقيقة التي يتجاهلها الناس كثيرا هي ان التغيير الديمغرافي ان استهدف أولا السكان الأصليين للمرتفعات الإرترية على النحو الذي تمت الإشارة إليه في المقالات السابقة، حتى وإن كان الغطاء قومية التجرينية، ولهذا سيظل مشروعا خاصا بالتجراي الارتريين وما عداهم مجرد ضحايا غرر بهم، ولم يعد مرغوب فيهم بعد ان انتهت مهمتهم.
وعندما نقول هذا لا نتجنى على أحد بل هي سياسة تنفذها الحكومة الارترية منذ ان تولت السلطة في البلاد. ويكفي ان نشير هنا الى ان عملية توزيع الأراضي السكنية أو الزراعية في المرتفعات لم تنفذ إلا بعد أكثر من عشرة سنوات من تحرير البلاد، وبعد ان تم توزيع ما يمكن توزيعه من أراضي المنخفضات. والحجة دوما كانت تأخر إعداد الخرائط، بينما الغرض الحقيقي هو إجبار الناس للنزوح شمالا وغربا وشرقا، فكل من كان يطلب قطعة ارض للسكن أو الزراعة في قريته او مدينته كان يطلب منه التوجه الى القاش بركة او سهول سمهر وشواطئ البحر الأحمر.
ولكن ما ان شعرت الحكومة بأن عمليات الاغراء والحوافز التي كانت تقدمها لتشجيع أبناء المرتفعات للنزوح الى المنخفضات لم تعد مجدية و استنفذت اغراضها، وان أبناء المرتفعات أنفسهم أدركوا بان المنخفضات لم تكن تلك الجنة الموعودة، وفقدوا الحماس للاستقرار فيها، خاصة بعد اكتشافهم للنوايا الحقيقية للهقدف، شرعت الحكومة في إجبارهم على الرحيل إليها بالقوة.
وهذا ما يؤكد بان النزوح شمالا وغربا وشرقا لم يكن حاجة طبيعية للنمو السكاني بقدر ما هو مشروع استيطاني تنفذه الحكومة بالقوة. حيث بدأت منذ عام 2002 تجبر الناس على توقيع أوراق تؤكد تنازلهم عن كامل حقوقهم في مناطقهم الاصلية لتغلق الباب أمام عودتهم مستقبلا الى مناطقهم الاصلية التي هجروا منها. ووفقا لهذه السياسية تم نقل الاف العوائل من المناطق الحدودية مع تجراي الى قلوج وقرقف وتسني وام حجر وتبلدية وقرست (مسقط رأس الشهيد عواتي، التي أفرغت من سكانها الأصليين عند الشروع في إقامة السد - الترعة). واصبحت عملية نقل السكان من المرتفعات الى المنخفضات علنية تقدمها وسائل إعلام النظام على انها إنجازا وطنيا، بعد ان كانت تتم من تحت الطاولة. ونذكر بان وسائل اعلام النظام نقلت خبر ترحيل 500 اسرة من الإقليم الأوسط الى كركبت في أجواء احتفالية نقلها التلفزيون الارتري بتاريخ 16 أكتوبر 2016م. وقال الخبر بأن أكثر من خمسمائة أسرة تم نقلها "طواعية" بعد ان وفرت لهم الحكومة كل متطلبات البنية التحتية بما في ذلك السكن والزراعة. وللأسف لم يكن بين هؤلاء عوائل من السكان الأصليين للمنطقة، فقد كان حالهم كحال اشقائهم في قرست عند إقامة السد، حيث استبعدوا من المشاريع الزراعية التي استجلبت لها الحكومة عوائل من المرتفعات الارترية. (ارتريا الحديثة: 6 أكتوبر 2016، العدد 22 السنة 26).
وأعلن في نفس الشهر، مدير مديرية تسني تسفا ألم بهتا، بأن المديرية أكملت دراسة تتعلق بإعادة توزيع الأراضي الزراعية في عام 2017م. واكد بان الدراسة أوضحت بأن هنالك 32 ألف هكتار من الأراضي الزراعية غير الممهدة و36 ألف هكتار من الأراضي الرعوية التي ستعمل الحكومة على استصلاحها وتوزيعها لأغراض الزراعة والسكن. (ارتريا الحديثة: 22 أكتوبر 2016، العدد 31 السنة 26).
وقد نفذت أعمال إعادة توزيع للأراضي في عام 2005 و2006م في إقليم عنسبا بهدف تمليك أراضي للقادمين الجدد. وللأسف كلها مشاهد تتكرر وتعطي الأولوية للمسيحيين التوهدوا الناطقين بالتجرينية، وتستبعد السكان الأصليين لتلك المناطق لكونهم خارج مخططات التنمية الموجهة لخدمة التجراي الارتريين.
وقد ترافق هذا مع تغيير في الهوية الدينية والثقافية للأرض بوضع علامات دينية ومعالم تشير الى هويات ذات صلة بالمذهب الأرثوذكسي في أرجاء مختلفة من البلاد حتى في المناطق التي لم يصلها هذا الزحف الصحراوي. نعم زحف صحراوي لأن قدوم هذه المجموعات الى المنخفضات ترافق مع ما يشبه بحملة إبادة للغابات الطبيعية والأشجار النادرة وخاصة على ضفاف نهر بركة والقاش وسواحل البحر الأحمر، وهي قصة مأساة أخرى تستحق التوثيق ولكن في سياق آخر.
كما ترافق هذا الزحف مع انتشار عادات ومظاهر ارتداء الصليب وغيرها من مظاهر التعصب الديني الأرثوذكسي التي لم تكن مألوفة في ارتريا من قبل، واستوردت من اثيوبيا وكرسها التجراي الارتريين بتشجيع من الأجهزة الحكومية ظنا منهم بأنهم يؤكدون الهوية الدينية للبلاد بجعلها واقعا معاشا بعرضها في وسائل الإعلام المرئية والمناسبات العامة.
ويتم هذا بينما يتم إنكار هذا الحق على المواطنين الأصليين الذين وجدوا في هذه الأرض منذ الأزل فأصبحت هذه الحقوق رهن الامتثال للنفوذ السياسي والثقافي للقادمين الجدد والزاحفين من خارج الحدود؟
التجراي الارتريين رهينة أجندات خارجية:
ارتبط وجود "الماكلاي عليت" الذين نميزهم باسم "بالتجراي الارتريين" في ارتريا بأجندات سياسية اثيوبية معادية لحقوق السكان الأصليين، وما حققوه من مكاسب فتح شهيتهم للمزيد، وتطور الأمر في عدم الرغبة في رؤية من يذكرهم بماضيهم أو أصولهم المنحدرة من تجراي، فأصبحوا باسم الاجازيان، يستلهمون الأفكار العنصرية ونهج التعامل مع السكان الأصليين من تجارب الانجلو- سكسون في الأمريكيتين واستراليا واليهود في فلسطين.
ان كل فرد من هذه المجموعات المهاجرة من تجراي والتي استقرت في ارتريا خلال فترات مختلفة، موجودة في ارتريا بأجسادها بينما ترنوا ابصارها وقلوبها وعقولها نحو اثيوبيا وإقليم التجراي تحديدا. ولهذا نراهم حينا "اندنيت" و "تجراي تجرنية" و"هقدف" وأحيانا أخرى "اجازيان"، وهي مشروع واحد وإن تعددت مسمياته والوانه كالحرباء.
ففي أربعينيات القرن الماضي وقفوا بقوة وعملوا بإخلاص من أجل ضم إريتريا إلى اثيوبيا دون أي شرط، وابان الكفاح المسلح عملوا كل ما بوسعهم لإفشال الثورة الارترية، وعندما فشلوا صاروا مع الركب في اتجاه التيار الثوري الجارف دون ان يكفوا عن محاولات احتوائه وحرفه عن مساره الوطني وهذا ما فعله اسياس واتباعه في نهاية المطاف.
وعمل التجراي الارتريين دون كلل للدفع بالأوضاع في ارتريا نحو التشرذم والمواجهة بين المسلمين والمسيحيين، من خلال القيام بأعمال عنف موجه ضد المسلمين واغتيالات سياسية كان من بين ضحاياها عبد القادر كبيري. ولم يكفوا عن ممارسة أعمال النهب والسلب بدعم من حكام إقليم تجراي بغرض اثارة الفتن والاضطرابات وخلق أجواء تمكنهم من النيل من وحدة الشعب الارتري ليجدوا موطئ قدم لأنفسهم بينه.
تعمل هذه المجموعة دوما على استغلال الدين واللغة في إيجاد موطئ قدم لنفسها في ارتريا، ولهذا يصرون على تقسيم السكان على أساس اللغات وشق وحدة الشعب الإرتري على أساس الدين واللغة وهي معادلة عكسية تؤكد حقيقة ان وحدة الارتريين ضعف لهم وتفككهم قوة لهم، ويفسح المجال أمام شرعية القوة، وواقع لا دولة ولا قانون تتحكم فيه عصابات متوحشة باسم الدولة والأمن القومي.
ويفضل هؤلاء اللجوء الى منطق القوة والحلول السريعة والقصيرة النظر بدل من نهج الحوار لحل الخلافات، أي كان حجم الخلاف يكون خيارهم الغدر والخيانة والتآمر عندهم افضل السبل. وهذا نابع في الأساس من اعتقادهم بأن ما حققوه لم يكن ليتحقق لهم إلا بالقوة، وهي السبيل الوحيد لإثبات شرعية وجودهم، بينما يبقى العدل حلم الضعفاء المقهورين.
الحل في قوة القانون لا في قوة العضلات:
والكثير من دول العالم التي بها مكونات لها امتدادات خارج الحدود ومرتبطة بأجندات الخارج أكثر من الداخل كحال التجراي الارتريين، تلجأ إلى المعالجات القانونية لحماية سيادتها وأمنها القومي. ويصل الأمر الى حد معالجتها في الدساتير، كما هو الحال مع الأقليات في العراق وسورية وتركيا واليونان وغيرها من البلدان بغرض حماية وحدة البلاد وامنها القومي بالاحتكام الى القانون وليس الإجراءات الأمنية التي لا تحمي الوطن ولا المواطن.
وتجربة تقرير المصير في أربعينيات القرن الماضي التي أفضت بنا الى الاحتلال الاثيوبي ومن ثم حرب الثلاثين عاما لتحرير البلاد، وما تلاها من تجربة ماثلة اليوم امام أعيننا تستدعي هكذا نوع من المعالجات القانونية والدستورية لتنظيم العلاقة وحماية السيادة الوطنية.
وقد أثيرت هذه القضية عند النقاشات التي كانت تجري لإعداد مسودة دستور عام 1997م، وخاصة خلال النقاشات المفتوحة في عامي 1995 و1996م. حيث تمت المطالبة بتحديد هوية رئيس الدولة بوضع معايير وشروط لهذا المنصب باعتباره أهم منصب سيادي في الدولة، إلا ان اللجنة الدستورية المختصة ورئيسها الدكتور برخيت هبتي سيلاسي، لم يهتموا بهذه المطالب، بل الأسوأ من ذلك كان ينظر اليها على انها من فلسفات خريجي الشرق الأوسط، وهو مصطلح كان يستخدم في الكثير من الأحيان لفرض العزلة على خريجي الدول العربية وللحجر على أفكارهم ومنع مشاركتهم في الحياة العامة.
ومع انها مشكلة وطنية استبعدت من النقاشات، وحقيقة كونها كذلك تأكدت للجميع اليوم مع انفراد التجراي الإرتريين بحكم البلاد، وإعلان تطلعاتهم للتوجه نحو اكسوم وقندار واديس أبابا.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.