الاجازيان من أين والى أين ؟ الحلقة الخامسة

بقلم الأستاذ: جهراي أدال - كاتب إرتري

بعض المفارقات العجيبة:

تاريخ هذه المنطقة مليء بالمفارقات العجيبة، التي تتكرر فيها الأحداث المؤلمة

الأجعزيان

ويلدغ فيها الناس عشرات المرات ولا يبالون. ربما لأنهم لا يوثقون التاريخ أو لا يقرؤونه بتمعن أو قراءة نقدية تصحح من مساراتهم وتجنبهم تكرار أخطائهم. وهذه من الجوانب التي كثيرا ما يستغلها التجراي، مضافا إليها حسن النوايا والحرص على درء الفتن والقلاقل، والرغبة في العيش بسلام التي ميزت الشعب الارتري. الا ان هذه الغايات النبيلة كثيرا ما تتحول الى نقيضها، كالذي أسفرت عنه التضحيات ابان الكفاح المسلح ومساعي الانعتاق التي استبدلت نير الامهرة بنير التجراي تجرينية.

المفارقات كثيرة، ولكن يمكن الإشارة في هذا الصدد الى الدور الذي لعبه العفر في إنقاذ وحماية يوهنس ابان مواجهاته العسكرية مع المصريين في نهاية القرن 19، وفي الوقت الذي كان يخوض فيه حرب شرسة بلا هوادة على المسلمين والكاثوليك على حد سواء وبعزيمة واصرار لاقتلاعهم من أرضهم على النحو الذي يفعله نظام هقدف الاجازياني اليوم.

فقد أفشل العفر الحملة المصرية على يوهنس التي كانت في طريقها الى تجراي عبر أراضيهم لفتح جبهة جديدة الى جانب جبهة المرتفعات الارترية التي خسر فيها المصريين معركتي جونديت وقرع في نوفمبر سنة 1875م، ومارس 1876م على التوالي. ربما تحقق ليوهنس هذا الانتصار بفضل الهجوم الذي شنته قوات تابعة لمحمد حنفري زعيم قبيلة عسامرا العفرية على القوات المصرية وقتلت قائد الحملة مونزنجر في سنة 1875م مع أعداد كبيرة من قواته، وبعد ان مكنه ذلك من خوض حرب في جبهة واحدة ومكان ضيق وعلى حدود بلاده. (Zewde Gebre-Sellasie, Yohannes IV, Haggai, Islam and Christianity in the Horn)

وكانت القوات المصرية في طريقها إلى أوسا عبر دنكاليا، للهجوم على يوهنس في تجراي من ناحية الشرق، ولكنها استدرجت الى طريق صحراوي طويل وشاق نال من أفراد الحملة، وسهل على قوات حنفري من الانقضاض عليها، وبذلك فشلت الحملة التي كان مخطط لها لضرب يوهنس في عقر داره في تجراي من جهتين، وبالتنسيق مع حاكم شوا حينها منيليك الذي أصبح امبراطورا على إثيوبيا إثر مقتل يوهنس. ولكن حتى هذا لم يشفع للعفر والمسلمين عامة فتمادى يوهنس في غيه وطغيانه الى ان هلك في المتمة.

وكان مونزنجر السويسري الأصل قد طاب له المقام وسط البلين في سنحيت وتزوج منهم قبل ان يصبح قنصل فرنسا في مصوع، وهو منصب استقال منه في أبريل عام 1872، احتجاجا على احجام فرنسا عن حماية الكاثوليك الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد على يد يوهنس.

وتحول مونزنجر من خدمة فرنسا للعمل مع الإدارة المصرية، فعينه الخديوي حاكما على إقليم البقوص حتى بلاد التاكا واتخذ من كرن مقرا لحكمه (الإدارة المصرية).

والمفارقة الأخرى في هذا السياق هي ان الرأس الولا وعندما عينه يوهنس حاكما على حماسين، اتخذ من اسمرة مقرا له بدل من هذاقا وصعذجا، مقر حكم خصمة ولدي ميكائيل، فطلب من التجار الجبرتة في صعذجا ودباروا وعدي وقري وغيرها من المناطق الحضرية الانتقال الى اسمرة وإقامة الأسواق فيها. وبالفعل انتقلت اعداد منهم الى اسمرة وبدوا في تنظيم أسواق أسبوعية فيها خلال ايام الخميس والجمعة واصبحت الاماكن التي أقيمت فيها هذه الأسواق تضم فيما بعد احياء سكنية لا تزال تعرف بأسماء هذه الأسواق الأسبوعية (عداقا حموس وعداقا عربي). (RHaggi Erlich, Ras Alula)

وما عدا ذلك كانت تحيط بمنطقة اسمرة عدد من القرى مثل عدي سجدوا وعدي نفاس وسمبل وعدي قعداد وامبا دورهو، بينما كانت المناطق التي أقيمت فيها الأحياء الشمالية بما فيها حزحز مقار صيفية لعدد من القبائل التي كانت تأتي إليها من سمهر ابتداء من شهري مارس وابريل وحتى أكتوبر قبل ان تقام فيها هذه الاحياء السكنية ويبني فيها الإيطاليون لاحقا معسكرا لجيشهم في حزحز.

وتاريخ الأحياء في العاصمة أسمرة تحكي قصة تدفق التجراي الى ارتريا وانتقال الكثير من سكان قرى المرتفعات الى العاصمة اسمرة وغيرها من المدن. ومع هذا يعتبر التجراي الارتريين اليوم أنفسهم السكان الأصليين للعاصمة اسمرة وبينما أصبح مؤسسيها غرباء فيها.

وعندما اتخذها الإيطاليون مقرا لحكمهم وشجعوا التجارة والحياة العصرية فيها تم تأسيس الأحياء الشمالية من العاصمة اسمرة (جذا برهانو واكريا وابى شاول وعداجا حموس وعداجا عربي) بجوار أقدم قرية كانت بها وهي أربعة اسمرة وسكانها من بيت اسمعي من الأساورتة، الذين كانوا يمتلكون أراضي واسعة تمتد حتى حدود أراضي عدي قعداد واستولى عليها الإيطاليون لاحقا لإقامة الأحياء السكنية للمستوطنين الإيطاليين.

فأسس الإيطاليون لاحقا الأحياء الجنوبية والجنوبية الغربية من المدينة (فروبيا وجذا باندا طليان، وجوداييف وستانت اتو وتيرافولو وبراديز وبقاليانو، ...الخ) بعد تخطيطها وفق المواصفات العصرية لجعلها عاصمة للمستعمرة، وانتقلت إليها أعداد أخرى من سكان مصوع وكرن ومندفرا وغيرها من المدن.

فالمفارقة تكمن في ان الجبرتة كانوا يسيطرون على معظم الأنشطة التجارية والأعمال الحرفية والمهنية على مدى قرون طويلة، لكونها كانت مهنا ينظر اليها المسيحيون التوهدو في إثيوبيا والى حد ما في ارتريا، على أنها مهن إسلامية لم يمارسها أجدادهم ولا تليق بهم كفلاحين، وكانوا يعيبونها على المسلمين. وبسبب هذه النظرة ظلوا بعيدا عن المدن والمراكز الحضرية في كلا البلدين. فانحسر نشاطهم الاقتصادي على الزراعة والرعي على نطاق محدود، وما تبقى من وقتهم كانوا يقضونه في الجندية والحروب التي لا تتوقف إلا في موسم الأمطار.

الا ان جهود الإرساليات التبشيرية الغربية والاستعمار الإيطالي أحدث تحولات جوهرية ليس في أنماط حياة هذه المجتمعات فحسب، بل حتى في نظرتهم الى الكثير من الأمور الحياتية ذات الصلة بالاقتصاد والمهن والحرف اليدوية وأساليب تنويع مصادر الدخل، فأخذوا يتوافدون من القرى الى المدن للعمل في مختلف المهن، إلى ان أصبحوا اليوم يسيطرون على كل المهن والحرف اليدوية التي كانوا يعتبرون ممارستها عيب عليهم. وتبعا لهذا التحول أصبحوا اليوم يشكلون من العدم أغلبية سكانية في معظم المدن الارترية، في بلد لم تعد فيه قيمة تذكر للقرية.

كما ان التطورات السياسية التي حدثت عام 1991م في كل من ارتريا واثيوبيا، أسفرت عن تغيرات هائلة لم تسبق في تاريخ المنطقة من قبل. فكان وصول الاهودق السلطة في عام 1991، بقيادة التجراي يعتبر الحدث الأبرز في التاريخ الإثيوبي لكونها المرة الأولى في التاريخ التي يصل فيها التجراي أديس أبابا ليحكموا منها إثيوبيا. فلم يسبق ان وصل نفوذ اكسوم هذه المناطق، ولا سلطة يوهنس في القرن التاسع عشر، ولكنه إنجاز تحقق لهم دون يخططوا له بسبب تطورات الأوضاع، فتمكنوا من حكم البلاد تحت قيادة زيناوي. الا ان هذا الانجاز مضاف الى ما حققه يوهنس الرابع، فتح شهية البعض منهم للمزيد وتنامى لديهم شعور بأنه لا مستحيل في لعبة الحروب والصراعات المستمرة على السلطة.

كما انها المرة الأولى في التاريخ التي تخضع فيها إرتريا لحكم التجراي- تجرينية وتستخدم فيها التجرينية لغة حكم وإدارة تعم ارجاء ارتريا، ولكن نترك الحكم على هذه التجربة للأجيال والمؤرخين، ومع ذلك قد لا يختلف اثنان من الارتريين في اعتبارها أسوأ تجربة مر بها الشعب الارتري ربما منذ ان خضع جزء يسير منه للحكم غير المباشر لمملكة اكسوم التي مارست هي الأخرى نوع الاستعباد والاستبداد على الشعوب التي طالتها حملاتها العسكرية.

فالعنصر السامي في اكسوم بدأ حياته في المنطقة طفيليا وبنى شهرته على دماء وتضحيات غيره، في مشهد مشابه للمجد الذي بناه اسياس للتجراي الارتريين في ارتريا بدماء وعرق الارتريين. إنها مفارقة تجعل من القدرة على المراوغة والفطرة الانتهازية هبة إلهية تكسبهم جولة بعد أخرى، ليجدوا أنفسهم حيث لا يدرون سادة على ارتريا.

ويدرك الاجازيان هذه الحقيقة فيكرر تسفاصهيون صراحة بأن إرتريا هي الدولة الوحيدة التي يمتلكها التجراي تجرينية في العالم، ويعتبر العداء لها عداء لقومية التجرينية التي لا ملجأ لهم غيرها، وعليه كا يقول: يجب مقاومة أي جهة لا تقر لهم بهذا الحق.

هذا هو مطلب نتنياهو من الفلسطينيين "عليكم ان تقروا بيهودية دولة إسرائيل ليسمح لكم بالعيش فيها، والهقدف يطلب منا عبر الاجازيان ان نقر بان ارتريا هي دولة تجرينية ان نرضى بالعيش فيها كأقليات".

وفي ضوء ما تحقق للتجراي الارتريين على الأرض، يعتقد الاجازيان بان كل ما يحتاجون له الآن هو مجرد جهد تعبوي وإعلامي مكثف لخلق رأي عام ارتري واقليمي ودولي لاحداث التغيير المطلوب دون الحاجة الى خوض حروب، "لأنه لا يوجد من يمكن محاربته في ارتريا في إشارة إلى انهم تخلصوا من القبائل والاندا والاوراجا، ومن بقي منهم أصبح غير قادر على الفعل" حسب اعتقادهم.

تجرينية أم تجراي ارتريين؟

يمكن ان يطرح السؤال ما الضير في ان يستقر التجراي الذين هاجروا الى المرتفعات الارترية ما دام قد تم ذلك برضى أهلها، وأصبحوا اليوم أمرا واقعا لا مفر منه، خاصة بعد ان مكنهم الهقدف من السيطرة على مفاصل الدولة الارترية وتحول كل الارتريين الى متفرجين بعد ان استنزفت طاقاتهم في حروب وأزمات مفتعلة.

لابد من التأكيد أولا بأن المصلحة الوطنية الارترية وحقائق الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والحفاظ على خصوصية بنية المجتمع الارتري وتركيبته الاجتماعية والاثنية تقتضي بأن يتم التعامل مع "التجراي الارتريين" الذين استقروا في المرتفعات منذ عهد يوهنس الرابع والى الفترة الحالية، على أنهم مكون اجتماعي ارتري منفصل وقائم بذاته لأنه من أصل مشترك (تجراي).

وإن ولدي اب والدي ماريام ورفاقه من غلاة المتطرفين القوميين المتأثرين بأفكار القوميين العرب والفكر القومي الأوروبي والفكر الصهيوني، قد ابتدعوا ما يسمونه بقومية التجرينية ورسخته الشعبية أولا والهقدف ثانيا كواقع في عملية غسيل للأدمغة لا تزال مستمرة، ولكن في واقع الأمر هو مجرد قالب لغوي ليس له بعد تاريخي او اجتماعي، ويؤسس لعلاقات جديدة على أساس اللغة ويلغي ما عداها من الحقائق والركائز التي بني عليها المجتمع الإرتري.

انه مصطلح حمال أوجه يعطي حق المواطنة على الأرض الارترية لكل من يتحدث التجرينية، ويلغي في البحر بغيرها من الحقائق السياسية والاجتماعية والتاريخية ليؤسس لعلاقات قومية مع التجراي الإثيوبيين.

والغريب هو ان يرضى أبناء الأقاليم الثلاثة الناطقين بالتجرينية بان ينسبوا الى إقليم تجراي من خلال اللغة، لكون كلمة تجرينية نفسها مشتقة من تجراي، وبالتالي يتم نسبهم الى تجراي وليس اللغة كما يعتقد. وكلمة تجراي نفسها هي من "تجري" التي كان يطلقها الامهرة على سكان الإقليم بكل ما كانت تحمله الكلمة من ازدراء واحتقار لهم.

ابتدع هذا التشكيل القومي على أساس اللغة لإنهاء كافة أشكال العلاقات التي كانت سائدة بين مكونات المجتمع الإرتري والتي تتجاوز في عمقها اللغة والدين.

فهم يدركون جيدا بانه لا يوجد مكون ارتري لا تتوزع فروعه في أكثر من لغة ودين، وبالتالي أصبحت العلاقات التي تربط بين هذه المكونات بدرجة من التعقيد والتشابك وتجعل التمييز بينها على أساس اللغة والدين شبه مستحيلا. وكيف لا اذ انه مجتمع تضم الاسرة الواحدة فيه ديانتين ولغات مرتبطة بهذه الديانات الى جانب اللغات الاصلية المنتشرة في البيئة المحيطة.

وبجعل اللغة عنصرا أساسيا تقوم عليه المواطنة والعلاقات الاجتماعية والسياسية يتم أيضا القضاء على المواطنة القائمة على عناصر الجغرافية والتاريخ والأصل المشترك لأبناء اكلي جوزاي وحماسين وسراي فيما بينهم، وكذا بينهم وبين المكونات الارترية الأخرى.

فالمواطنة سيرورة انتماء حضاري وثقافي وتاريخ إنساني يربط الإنسان ببيئته الاجتماعية والسياسية والجغرافية التي تمنحه خصائص تميزه عن غيره من الشعوب المجاورة.

وتختلف عن الحقوق المدنية المكتسبة كحق الإقامة والعيش وحق التعليم والعمل والتصويت التي تمنحها القوانين والأعراف التي تستحدثها الدول والشعوب بين فترة وأخرى لمعالجة مشكلات تواجهها واستجابة لمتطلبات التطور العصري، وفي هذه الحالة تكون المواطنة علاقة فردية. وتتجلى حقيقة هذه العلاقة في الارتريين المهاجرين في الدول الغربية، الذين يعرفون أنفسهم كإرتريين بالرغم من انهم مواطنين في هذه البلدان.

فاللغة والدين هما من المتغيرات المشتركة التي تربط أي مجموعة سكانية بمجموعات أخرى تؤمن بنفس الدين وتتحدث نفس اللغة في أي بلد من بلدان العالم، وعليه يكون ما يجمع بين سكان أي دولة ليس بالضرورة الدين ولا اللغة، بل الوطن (ارتريا) وكل ما ارتبط بهذه البقعة الجغرافية من ماضي تاريخي و إرث حضاري وإنساني وثقافي توارثه الانسان الارتري عبر أجيال وعلى مدى قرون بل وآلاف السنين. والمجتمع الارتري كغيره من شعوب العالم شهد تحولات بين الأديان السماوية كان آخرها في القرن التاسع عشر.

فالمواطنة انتماء وهوية تاريخية ان لم يكن كذلك فلماذا لا يرضى التجراي الارتريين بالانتماء الى ارتريا ويصرون على إلحاقها بتاريخ بلادهم وجغرافيتها السياسية وبمكوناتها الاجتماعية على أساس اللغة والدين دون سائر الحقائق الأخرى.

وبالرغم مما تحقق لهم على الأرض من الاستئثار الكلي بالسلطة والهيمنة على مقدرات البلاد، لا يرون في إرتريا وطنا لهم ما لم تكن جزء من تجراي. وهذه هي المعضلة الحقيقية مع التجراي الارتريين، لان الوطن عندهم هو تجراي. وتبعا لذلك التاريخ عندهم، يبدأ قديمه باكسوم وحديثه بيوهنس وراس الولا واسياس افورقي، وما عداه هو تاريخ قبائل واندا واوراجا، وتاريخ أفراد.

ويخوض الاجازيان حربا على هذا التاريخ وما يرتبط به من أسماء قبائل وأقاليم لها صلة بماضي الشعب الارتري وتتجاوز في عمقها ومتانتها اللغة، فيحرصون على استبدالها بكل ما له علاقة بهم ويخدم حاضرهم ويتسق مع ماضيهم.

فهم يحاربون وحدتنا وتنوع ألسنتنا وبيئتنا ويكرهون اعتزازنا بصلات ارحامنا العابرة للغات والأديان وامتداد علاقات عشائرنا بطول الوطن وعرضه فتحول دون ايجادهم موطئ قدم لأنفسهم بيننا.

وللمتشكك فيما نقول نورد مثال عشرات الأسر والبيوتات والعشائر التي هاجرت الى ارتريا من اليمن والصومال والجزيرة العربية والسودان وغيرها من البلدان في مختلف العصور و ابان الحكم التركي لإرتريا واستقرت في مختلف المواقع من البلاد.

فبالرغم من مرور قرابة الخمسمائة عام على بعض هذه العوائل إلا إنها لا تزال تحتفظ بأصولها وأسماء عوائلها وعشائرها التي كانت تعرف بها منذ لحظة وصولها دون ان يؤثر ذلك في اندماجها او ينتقص في شيء من حقوقها الوطنية. وهذا ما أكده دورهم الوطني إبان الكفاح المسلح ومقاومة الاستعمار الاثيوبي، حيث ناضلوا ضده من مختلف المواقع وقدموا التضحيات كغيرهم من أفراد المجتمع الإرتري.

ولكن هذا لم يحدث مع المهاجرين من تجراي الذين قذفت بهم الحروب والمجاعات او أتوا كعمالة وافدة الى ارتريا ويتدثرون بالدين واللغة.

ويتم هذا بفضل طبيعة العلاقات الاجتماعية وخصوصية المجتمعات الارترية، والتجراي الارتريين يدركون هذه الحقيقة فيسعون الى تدمير هذه الخصوصيات، وآخر ما توصلت اليه أفكارهم التخريبية كان منع تسجيل أسماء العوائل في الأوراق الرسمية الارترية عند استبدال البطاقات القديمة بالجديدة.

حيث منعت العديد من العوائل والبيوتات الارترية من هذا الحق وأصبح الاسم يكتب رباعيا دون اسم العائلة او العشيرة، مع انه حق كان ينبغي ان يحميه القانون ولكن نظام التجراي الارتريين ومصالحهم اقتضت إلغاء هذه الخصوصيات العائلية.

ففي تسجيلات عام 2020 التي بدا فيها تسفا صهيون منكسرا، ومحبط مع تراجع حماسه وانفعالاته التي كان يظهرها في تسجيلات السنوات السابقة، أخذ يعطي مساحة للحديث عن الاندا والقبيلة والاوراجا (الإقليم)، ويصب جام غضبه على هذه التشكيلات التاريخية والخاصة بالمجتمعات المحلية الارترية.

ولا يكف الاجازيان عن الحديث عن تجارب الأمم الأوروبية في تأسيس الدول القومية انطلاقا من قناعتهم بأن من يسمونها بقومية التجرينية هي القومية الوحيدة في ارتريا التي لها هوية ثقافية وتاريخية تبنى عليها الدولة الارترية، وما عداه هو مجرد قبائل واندا واوراجا حسب تصنيفهم. ويضيفون بأن إرتريا هي الوطن الوحيد الذي تمتلكه قومية التجرينية التي في جوهرها ما هي الا غطاء للتجراي الارتريين، لانها تلغي الأسماء التي ميزت تاريخيا مجتمعات المرتفعات الارترية التي تقوم علاقاتها على الاندا والاوراجا (الإقليم).

وكشف الاجازيان عن الهدف الذي يسعى الى تحقيقه من وراء هذا البث المصور، وهو خلق رأي عام ارتريا واثيوبي حول الاجازيان، والاندا والقبيلة والاوراجا (الإقليم) التي يعتبرونها شيء من الماضي وغير فاعلة ولا تصلح للعمل الوطني.

ويستخدم الاجازيات هذه المصطلحات للإشارة إلى غير التجراي الارتريين، فيشيرون إلى المسلمين بعبارة " القبيلة، و المسيحيين الناطقين بالتجرينية بالاندا والاوراجا، مع انهم يستخدمون الاوراجا في الكثير من الأحيان للإشارة إلى أبناء اكلي جوزاي من المسيحيين.

بينما يشيرون الى المسيحيين من غير الأرثوذكس، بقولهم كاثوليك او اتباع الديانات الغربية، وهي لغة وتصنيفات استخدمها اسياس نفسه في لقاءاته الصحفية قبل وبعد تحرير البلاد.

والرسالة التي لم يفهمها بعد أبناء حماسين واكلي جوزاي وسراي والتي يوجهها إليهم النظام عبر الاجازيان هي: إن رضيتم بمشروعنا فأهلا وسهلا بكم وإن لم ترضوا ينطبق عليكم ما ينطبق على القبائل المسلمة باعتباركم "إندا و أوراجا" أي أنتم تنتمون إلى القرية والاقليم، وهذا ما يردده تسفا صهيون في تسجيلاته باستمرار بقوله " اندان، قبيلان، اوراجان".

ما العمل:

ويستدعي منا واقع كهذا التصالح مع أنفسنا وماضينا وحقيقة كوننا أبناء قبائل واند واوراجا بعيدا عن الأوهام التي عشناها إبان الثورة، وبعيدا عن التصوف السياسي الذي حلق بنا بعيدا عن واقعنا ولم نجني منه الا ضياع الهويات والانغماس في رحلة البحث عن الذات في دول الجوار، ووسط هويات الآخرين.

وقضية ذات صلة بهذا الأمر هي واقع وطموحات وشطحات المسلمين الإرتريين في السودان. فالناس هنا لا تميز بين اكتساب المواطنة كفرد في بلد ما، وفق الشروط والمتطلبات التي يحددها القانون السائد في البلد المعني، وبين الادعاء بحقوق تاريخية في تلك الدولة.

فهو موقف مشابه بل ربما مستنسخ من الموقف الذي يمارسه التجراي الارتريين في ارتريا. حيث أصبح الارتري الذي ارتضى لنفسه السودان موطنا يمارس هذا الحق باسم القبيلة والقومية، بدل من البحث عن مصالحه ونيل حق المواطنة في بلد إقامته بشكل فردي.

الأمر الذي شجع نظام هقدف الاجازي في المضي قدما في مخططاتهم وأصبحوا يطالبون من الناس علنا الالتحاق بأبناء قبيلتهم في السودان، ومع ذلك للأسف هنالك من يعتبر هذا إنجازا، بينما في واقع الأمر هو خدمة مجانية تقدم لأعدائهم الحقيقين.

فلا ينبغي ان يبحث المرء عن المواطنة في أي بلد الا بشكل فردي، لا باسم القبيلة او القومية لان هذا حجة عليه وعلى اهله في ارتريا، خاصة إذا أضيفت إلى ذلك بعض الأطروحات السياسية والمسميات العابرة للحدود التي تملأ الأفق الإعلامي هذه الايام.

في الحلقة القادمة سنرى كيف تمكن حزب هقدف الاجازي من تدمير وحدة وتماسك المجتمع الارتري وكيف أحل التجراي الارتريين محل الثقافات الارترية الأصيلة واستبدل قيم التعايش السلمي بثقافات وسلوكيات اثيوبية معادية للإسلام والمسلمين وهي ثقافة غدت منذ قرون جزء اصيل من عقيدة التوهدو في اثيوبيا، وتنتشر هذه الأيام في ارتريا بتشجيع من حكومة (الهقدف الاجازيان) والتجراي الارتريين.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click