مشكلة اللغات في ارتريا - الجزء الثاني
بقلم الأستاذ: ياسين حسب الله - كاتب إرتري - لندن، المملكة المتحدة
وفي الحقيقة موضوع اللغات في اريتريا، هو سيد الأسباب وام المشكل في انشطار الوحدة الأرترية
منذ ولادة القضية الارتيرية الى الوجود، ولم اكون جانبت الصواب إذا قلت إن الإخفاق في حل هذه القضية فاقم القضية السياسية و أخر الاستقلال وأضر ببناء الوطن وأفقده التجانس المرجو تحت شعار (شعب واحد بقلب واحد) ومازالت الوحدة الأرترية في اعتلال، بسبب تلك المشكلة العصية على الحل.
وتأجيلها ظل هو الخيار السهل للنخب الارترية، واذكر ذات مرة أن صديقا اخبرني ان المؤتمر الثاني لجبهة التحرير الذي أخذ انعقاده قرابة الشهر ومناقشة اللغات كان اعقدها ومثال أن التجرنية والعربية أيهما يأخذ الصدارة على الآخر اخذت حيزا كبيرا من وقت المؤتمر وايا كان صدق هذه الرواية من عدمها فالاكيد ان المؤتمر لم يناقش قضية أكثر تعقيدا من اللغات، ولم يخرج الا بنفس الحلول الباهتة من التوافق باستخدام اللغتين العربية و التجرنية مع التأكيد على أن تطور كل قومية لغتها.
أما أيهما يأخذ الصدارة انتهى بان اتفقا ان تكون العربية من اليمين، وإن تقابلها التجرنية، ولحسن الحظ أن اللغتان تكتبان عكس بعضهما مما ييسر عليهم الامر ويدل ذلك بشكل واضح على علاقة شد الحبل بين جهتين يحكمها التوجس والخوف من الآخر ولا تنقصها المواجهة والصراحة وإن كانت تنقصها القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية، بشكل استراتيجي وحاسم.
والمتحدثين بالتجرينية ترى في اللغة العربية مشروعا يجب محاربته بكل الوسائل وفي رأيهم اللغة العربية، لا تتمتع بالثقل القومي، الذي يؤهلها حتى تكون من لغات البلد الرئيسية، وهي في تقسيمهم القومي هي: لغة قومية (الرشايدة) وهي مجموعة قليلة من البدو الرحل.
أما بقية القوميات التي في أغلبها، من المسلمين و التي تريد فرضها لغة ما هي إلا لأغراض سياسية وتعصب عروبي مصدره المعتقد الديني وتكتل سياسي ليس إلا، وعليه ترى المهادنة وشراء الوقت حلا الذي يبدو في إطالته مصلحة استراتيجية حسب المعطيات الحالية في أرض الواقع لمصلحة التجرنية كلغة، وفي الحقيقة الكثير من هذه الفئات يصعب عليهم الأمر حتى على الفهم والسبب طبعا لم يتم تعليمهم ومعظمهم مع حسن الظن لا يعرفون حتى أن أول البرلمانات في ارتريا اقر لغتين للبلاد، والصراحة لا يمكن لوم الجيل الصاعد تحت حكم الجبهة الشعبية، لان الشعبية لم تقر بشكل صريح ثنائية اللغة بل عممت تعدد اللغات في المناهج كما هو منصوص في برنامجها "البرنامج الوطني" كما سبق واشرنا يتحدث عن حق القوميات في تطوير لغاتها بما في ذلك التعلم بها وهذا هو السائد حاليا دون أن يكون إجماع دستوري مع تحفظنا عليه واختلافنا معه والبحث عن الخيارات الممكنة هو الغرض من هذه السطور، كذلك اللغة العربية لاهل ثقافة التجرنية مرفوضة بالإجمال ولمعظم العامة لا فرق لديهم بين العربية و الاسلام وحتى النخب تشاطرهم هذه المشاعر، ولذلك تعمل من أجل عرقلة الامور وإطالة الأمد لكسب الوقت بشغل الناس باللغات الكثيرة واغلب الظن مشكلة اللغة كانت وراء إلغاء مسودة الدستور الذي لم يرى النور. بعد مناقشات كثيرة كشفت عن نفس الحدة والعناد وسط الجاليات الإرترية.
أما القوميات المختلفة التي تريد اتخاذ اللغة العربية في أغلبها من المسلمين الذين اجتمعوا أن يتخذوا اللغة العربية و يرون فيها لغة دين ودنيا وبالامكان ان تجمعهم كقاسم مشترك و هو هدف سياسي إسلامي لجمع الشتات المسلم الذي يمثل سر ضعفهم الاختلاف الثقافي والتباعد الجغرافي، مما سيعزز ويقوي وحدة التكتل الإسلامي تحت اللسان العربي، لكي يقوى به تألفهم ومركزهم السياسي كما أن اللغة العربية لغة عريقة ولها حضورا كبيرا كواحدة من اللغات المهمة على مستوى العالم وتعلمها بلا شك يعود بالنفع للفرد والبلد نحو التواصل الثقافي مع محيط مجاور من الدول المهمة مما يحسن إمكانية معرفتهم وتواصلهم بالخارج، بخلاف التجرنية التي يرون فيها لغة صغيرة بمفردات بسيطة تعاملها محلي، والتخلي عن لغاتهم في سبيلها يحرمهم الموجود ولا يضيف لهم في المنشود.
وهذا بدوره يزيد من توجس وخوف الطرف الاخر الذي يخشى على ثقافته وديانته و مركزه القيادي. ويرى هذا كذلك في اللغة العربية عبارة عن أداة للدول العربية التي لا يكنون لها الا الكراهية وهو تراكم عززته قرون من الشك والحساسية الدينية تجاه كل ما هو عربي ويرون أن المسلمين الارتريين باتخاذهم اللغة العربية إنما يريدون اقحامها في قضايا هوية وتعقيدات لن تخدم ارتريا وشعبها بل ستسبح بها في بحر عربي متلاطم الأمواج دون أن يكون لها الكفاءة اللازمة لهكذا مغامرة، وطبعا هذا لم يكن من فراغ، بل يعود بنا الى المربع الاول في الندية الحزبية بين حزب الوحدة مع اثيوبيا و حزب الرابطة الاسلامية الذين كانت لهم مواقف مشابهة في هذا الاتجاه وهو ما لم يغيب من الذاكرة والعودة إلى الخلاف الاولي.
ويرى الاتجاه العروبي اللغة العربية، تعبر عن تراثه المقروء والمكتوب وهي لغة تعاليم دينه ومعظم الذين اتحيت لهم الدراسة، بها تلقوا تعليمهم كما أنها ترسخت في مخيلتهم كإحدى مطالب الاستقلال وثوابته التي ناضلوا من أجلها وتعبر عن طموحاتهم، والتنازل عنها يلغي هذا الاستقلال وجدواه، وان عدم تمكين العربية في اريتريا من قبل الحكومة الارترية هو إنكار لهذا الحق ولمصلحة التجرنية التي أخذت في التمدد على طول البلاد وعرضها كأمر واقع، وبذلك تزداد الأمور تعقيدا يوما بعد آخر، و أيضا النسبة الكبيرة التي درست منهم في الملاجئ وفي البعثات الخارجية كلها تلقت تعليمها بالعربي والتخلي عن هذا المكتسب يعود بهم إلى طور الامية. وكم كان صادما للذين جاؤ يحملون الشهادات الجامعية من البلدان العربية في الفترة التي أعقبت الاستقلال أن لا يجدوا لهم موطئ قدم ناهيك عن استيعابهم في السلك الوظيفي مما أصاب معظمهم الإحباط وترك البلاد بما فيها أحلامه المؤدة. ومازال كل طرف يرى الحق له ولا يتفهم حق غيره ولم يكن هناك اي اجتهاد للتقريب بين طرفي المعادلة، من اجل بناء الوطن الارتري الواحد، يلبي احلام وطموحات ابنائه.
ويحضرني هنا قول بشار يصف فيه حالا شبيها بحالنا: "متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم" إذا نحن شعب استطاع ان ينتزع حقه عنوة من عدوه ولكنه عجز أن يواجه مشكلته، وشراء الوقت إلى ما لا نهاية لن يساعد في رأب الصدع وهوما بدأ يظهر في الجيل الصاعد الذي ورث هذا التيه بعد انفراط لحمة سنوات الكفاح في مواجهة إثيوبيا في شكل مهاترات كلامية في قنوات التواصل الاجتماعي بشكل لا يليق بأبناء وطن واحد، والحرس القديم الذي صهرته ملاحم سنوات الكفاح بدأت تتلاشى قبضته في تماسك البنيان.
نواصل... في الجزء القادم