التضامن السوداني مع الإرتريين تجربة مركز سويرا: عندما يحدث التضامن فرقاً كبيراً
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي
ليس الهدف من هذه المقال التوثيق للتضامن السوداني مع نضال الإرتريين وقضاياهم
فهذا عمل ليس بمقدوري أو مقدور سواي القيام به. لقد شارك في هذا التضامن آلاف السودانيين وشمل مجالات مختلفة وامتد لسنوات طويلة.
بدأ ذلك التضامن منذ سنوات الثورة الإريترية الاولى عندما تضامن أكبر محامي السودان مع إرتريين سلمهم نظام عبود إلى إثيوبيا مروراً برفع ثورة أكتوبر في 1964 ، ضمن شعاراتها ، شعار تأييد الثورة الإريترية ، انخراط بعض السودانيين المباشر في النضال الإريتري واستشهاد بعضهم مثل آدم أبكر القادم من غرب السودان إلى تكريس آخرين سنوات طويلة من حياتهم للنضال الإريتري مثل ابن النيل الأبيض إدريس عوض الكريم.
أريد هنا أن أقدم شهادة للتضامن السوداني من خلال تجربة مركز سويرا لحقوق الإنسان التي كنت مسؤولاً عنها. يصلح ما بذله السودانيون من تضامن مع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا نموذجاً للتضامن الإنساني باعتباره قيمة رفيعة وأداة عمل تحدث فرقاً كبيراً في مسار مواجهة الظلم والطغيان. من أتناول مساهماتهم هنا هم نموذج لتضامن شمل آخرين غيرهم ، أبدوا كلهم تضامنوا قوياً في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا دون وجل أو تردد ودون أن ينتظروا مقابلاً.
مجدي النعيم:
عرفت مجدي النعيم قبل ما يقارب الـ 30 عاماً في إحدى زياراتي للقاهرة ومع مرور الوقت ربطت بيننا صداقة عميقة. توثقت علاقتي بمجدي عندما تجارونا في السكن في القاهرة في 2001. عندما حدثته عن انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا أبدى مجدي تعاطفاً كبيراً مع ضحايا تلك الانتهاكات فهو مدافع صلب عن حقوق الإنسان يمتلك معرفة واسعة بقوانين وآليات تلك الحقوق وفوق كل ذلك يؤمن إيماناً قوياً بقيمها.
يمتلك مجدي بجانب المعرفة النظرية بقوانين حقوق الإنسان قدرة تنظيمية هائلة أهلته ليكون المدير التنفيذي لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وهو مركز إقليمي ضخم يعمل فيه عشرات الموظفين. وفوق كل ذلك يمتلك مجدي خاصية فريدة وهي القدرة على تطبيق ما يؤمن به نظرياً على أرض الواقع على نحو خلاق كما إنه كاتب مجد ومترجم من طراز رفيع.
فتح مجدي أمامي مجالاً واسعاً للاستفادة من منصة مركز القاهرة منذ أن تحدثت إليه عن انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا. كتبت عن طريقه مقالين في 2001 و2002 عن أوضاع حقوق الإنسان في إريتريا في مجلة (سواسية) التي كان يصدرها المركز ودعاني للمشاركة في العديد من نشاطات المركز من مؤتمرات ودورات تدريبة. عندما قررت العودة إلى السودان في 2004 بعد أن علمت بوجود فرصة لعمل شيء ما في موضوع حقوق الإنسان ، خضت نقاشات مع مجدي حول فكرة تأسيس كيان يدافع عن حقوق الإنسان في إريتريا وقد شجعني كثيراً والأهم شرع معي في التمهيد لتأسيس هذا الكيان.
اقترح مجدي عليٌ أن اطلع على تجربة المصريين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وقام بترتيب لقاءت لي مع مسؤولين في منظمات حقوق الإنسان المصرية. التقيت بترتيب من مجدي بالعديد من نشطاء حقوق الإنسان المصريين ضمنهم حافظ أبو سعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان الذي التقيته في مكتبه وحدثته عن انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا وعرضت عليه مشروع تأسيس إطار للدفاع عن حقوق الإنسان وطلبت ملاحظاته حول البيان التأسيسي لذلك الكيان وقد أبداها مشكوراً.
والتقيت بترتيب من مجدي بمحمد زارع مدير جمعية حقوق الإنسان لمساعدة السجناء في ذلك الوقت. كما رتب لي مجدي حضور يوم مفتوح لأسر السجناء نظمته الجمعية المذكورة وقد كان مخصصاً لبداية العام الدراسي حيث وزعت الجمعية على الأسر احتياجات التلاميذ المدرسية. وقبل سفري زودني مجدي بمكتبة متكاملة لحقوق الإنسان من إصدارات مركز القاهرة لدراسات ورتب لي أيضاً لقاءاً مع بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
بعد أن بدأنا العمل في مركز سويرا في الخرطوم قدم مجدي مساعدات من نوع الآخر. قام وهو في القاهرة بترجمة أغلب أجزاء تقرير مركز سويرا لحقوق الإنسان الأول الذي صدر في 2005. وبعد عودته إلى الخرطوم صار بمثابة مستشاراً للمركز حيث كنت أستشيره في كل عمل وكنت أرسل له مسودات المشاريع ليبدي رأيه حولها ويقوم بترجمتها إلى الإنجليزية كما كان يترجم بيانات ورسائل المركز إلى الإنجليزية. وقام مجدي بترجمة التقرير الثاني لمركز سويرا عن أوضاع حقوق الإنسان في إريتريا الذي صدر في 2006 ، إلى الإنجليزية. ساهم مجدي أيضاً في التدريس في دورات حقوق الإنسان التي نظمها المركز وشارك في وضع برامج تلك الدورات ورتب لمشاركة مدربين أخرين للقيام بمهمة التدريب تطوعاً في الدورات التي نظمها المركز. مجدي كان شريكاً ، ليس دقيقاً القول إنه كان متضامناً.
محمود الشاذلي:
تعود علاقتي مع محود الشاذلي إلى أكثر من 40 عاماً ، عندما كنا ندرس في كلية حقوق في جامعة دمشق. منذ بداية تعارفنا ربطت بيننا صداقة قوية بالإضافة ، إلى عوامل أخرى لعب توجهنا السياسي المشترك دوراً في توثيق علاقاتنا سريعاً. كان محمود نصيراً للنضال الإريتري من أجل الاستقلال منذ السبعينات وقد تعرف في نهاية عقد الثمانيات على بعض مناضلي الثورة وارتبط بصداقات معهم.
في 27 أغسطس 2004 قامت مجموعة من الشباب الإرتريين بإجبار طائرة عسكرية ليبية كانت تقلهم قسراً إلى إريتريا. كان عدد ركاب الطائرة 78 بينهم نساء ، أطفال وشباب. كان هؤلاء الشباب يعرفون المصير الذي ينتظرهم هم وأسرهم إذا وصلوا إلى مطار أسمرا فلم يكن أمامهم أي خيار آخر سوى منع الطائرة من إتمام رحلتها علماً بأن أي منهم لم يكن مسلحاً والطائرة كانت عسكرية لا تقل سواهم وطاقهما.
وجهت السلطات السودانية إلى 15 شاباً بين ركاب الطائرة تهمة اختطافها وهي تهمة تقع في إطار قانون مكافحة الإرهاب أي إنه وجهت إليهم تهمة القيام بعمل إرهابي. عندما قدموا للمحكمة لم يكن مركز سويرا قد بداً عمله رسمياً بعد لكنه كان قد نشر بيانه التأسيسي ، وكانت هذه أول قضية يتصدى لها. حضرنا محمود وأنا أول جلسة للمحاكمة ، محمود كمحامي عن المتهمين بعد أن طلبت منه ذلك. هناك انضم إليه كل المحامين الذين كانوا حضوراً في ذلك اليوم في المحكمة وشكلوا هيئة للدفاع عن المتهمين الإريتريين. لكن الهيئة لم تعمل سوى ذلك اليوم وواصل ساطع الحاج أحد المتطوعين العمل مع محمود في بعض المراحل لكن المهمة الرئيسة والتي استغرقت عاماً كاملاً قام بها محمود. حكمت المحكمة على هؤلاء الشباب بالسجن 4 سنوات والإبعاد إلى إريتريا بعد انتهاء فترة الحكم. بعد استئنافه ، خفض الحكم لعامين لكن كانت الإدانة موجودة وكذلك الإبعاد بعد نهاية فترة السجن. كان محمود يدفع الرسوم من جيبه وكنا نستخدم سيارته في زيارة السجناء في سجن كوبر.
هناك موقف لا أنساه عندما اضطررنا إلى طلب المساعدة من جهاز الأمن خوفاً من أن يتم تسليم هؤلاء الشباب إلى النظام في إريتريا وقد كانت العلاقة بين النظامين سيئة. ذهبنا ، محمود ، ضابط الأمن وأنا إلى السجن لمقابلة هؤلاء الشباب. كنت أسال نفسي ونحن في الطريق كيف استطاع محمود الاشتراك في مهمة كهذه بصحبة ضابط أمن هو الذي عانى من ممارسات هذا الجهاز التعسفية مثل الاعتقال والمراقبة؟ في تلك اللحظة اكتشفت لأول مرة ، أنا الذي كنت أعرفه منذ عشرات السنين ، صفة فريدة يتحلى بها محمود وهي إنه يهتدي بضميره ولا يقيم وزناً كبيراً للكلام والشعارات المنمقة ولا يكترث للمظاهر ، وأنه يرتب أولياته بجعل قضية العدالة الإنسانية فوق كل شيء.
كان محمود متأثراً بمعاناة الإرتريين بعد الاستقلال وعلى وجه الخصوص الاعتقال التعسفي والاختفاء وكان يعرف بين الذين تعرضوا للاختفاء القسري الأخ محمد عثمان داير ، الذي كان محمود يحبه ويقدره كثيراً. طلب محمود من المحكمة العليا أن تحكم بعدم اختصاص الدائرة الجنائية فيها بحيث تلغى إدانة هؤلاء الشباب. لقد لاحظنا أن مفوضية اللاجئين في الخرطوم كانت مترددة في مساعدة هؤلاء اللاجئين لأنهم متهمون بالإرهاب وفي إحدى المرات قالها لنا أحد ممثليها صراحة بأنهم لن يستطيعوا تقدم مساعدة لأشخاص مدانين بالإرهاب. كنا نعرف إنه إذا خرج هؤلاء الشباب بتخفيف مدة الحكم أو بالعفو سيظل الحكم الصادر ضدهم حائلاً أمام اعتراف مفوضية اللاجئين بهم كلاجئين.
استجابت المحكمة العليا للاستئناف الذي تقدم به محمود واعتبرت المحاكمة باطلة بسبب عدم الاختصاص وقررت تسليم المتهمين للجهات المختصة والتي فسرها محمود بأنها مفوضية اللاجئين وقبل تفسيره. لم يكن الحكم يعني فقط خروجهم من السجن قبل أن يكملوا المدة وعدم تسليمهم إلى النظام الديكتاتوري في إريتريا بل كان يعني أيضاً وضع المسؤولية عنهم على عاتق مفوضية اللاجئين التي قامت بإعادة توطينهم بعد فترة ليست طويلة.
قدم محمود خدمات أخرى كثيرة للمركز ، شارك في الورش التي أقامها المركز ودافع عن بعض اللاجئين الذين كانوا مهددين بالإبعاد. لقد لعب محمود الشاذلي ، متطوعاً ، دور المستشار القانوني للمركز ولم يرفض تقديم أية مساعدة طلبت منه.
فيصل الباقر:
عرفت فيصل في فبراير 1998 ، في وقت حزين وعصيب ، كنا قد فقدنا قبلها بيوم عبد الحكيم محمود الشيخ. جاء فيصل إلى منزلنا في حي القوز في الخرطوم ليعزي محمد مدني ، كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها فيصل. سمعت وأنا جالس مع مدني في صالون المنزل شخص وهو يبكي بصوت عالٍ في الشارع وعندما خرجت لاستطلع وجدت الشخص واقفاً أمام باب بيتنا وهو يبكي. فتحت له الباب فدخل وأرتمى على مدني وهو يجهش بالبكاء. استمر على هذه الحال لدقائق وكنت أحاول تهدئته دون جدوى. بعد أن هدأ عرفني عليه مدني.
عرفت من ذلك اليوم جوهر شخصية فيصل ومع الأيام تأكد لي الانطباع الأولي عنه: نبل وحس إنساني رفيع.
ونحن نضع اللمسات الأخيرة على عملية تأسيس مركز سويرا اتصلت بفيصل الذي كان يعمل أميناً عاماً لمركز الخرطوم لحقوق الإنسان وتنمية البيئة الذي داعني لزيارته في مقر المركز الكائن في العمارة الكويتية في شارع النيل. التقيت بفيصل في مكتبه وكان متحمساً لفكرة إنشاء المركز. تناقشنا حول ترتيبات إعلان قيام المركز واقترح عليُ أن يقوم بتدريب العاملين في المركز على كيفية القيام بالعمل الميداني. عرفني فيصل في ذلك اليوم بالدكتور مرتغى الغالي عضو مركز الخرطوم الذي اقترح تعديلاً في اسم المركز بحذف الديمقراطية من الاسم ليكون المركز معنياً فقط بحقوق الإنسان حيث قال إن ذلك سيعطي تقارير المركز مصداقية أكبر أمام منظمات حقوق الإنسان الدولية. وقد أخذنا باقتراح دكتور الغالي.
قام فيصل بتنظيم يوم تدريب كامل لأربعة من أعضاء مركز سويرا حول كيفية أداء العمل الميداني ، إجراء المقابلات مع الضحايا وتوثيق الشهادات. ساهم فيصل أيضاً في ورش المركز وقدم مساعدات مختلفة وظل يقدم للمركز باستمرار دعمه المعنوي والاستشاري. لا زلت أذكر الكلمة التي ألقاه فيصل في احتفال المركز بتدشين أول تقرير سنوي له في 2005. أشاد فيصل في كلمته تلك بعمل المركز وقال إن إصداره لتقرير شامل عن أوضاع حقوق الإنسان في إريتريا عمل عجزت عن القيام به منظمات في بلدان أخرى تمتلك إمكانيات بشرية ومادية أكبر من إمكانياته.
عباس سعيد سعد:
بخلاف الأصدقاء الثلاثة الذين مر ذكرهم أعلاه ، عرفت عباس سعيد لأول مرة في إطار العمل في الدفاع عن حقوق الإنسان وتحديداً الدفاع عن اللاجئين الإرتريين. اتصل بي أخ إريتري من كسلا ليخبرني عن لاجئين إرتريين يتهددهم خطر الإبعاد وقال لي أن هناك محامياً سودانياً يتصدى لمهمة الدفاع عنهم. لا أذكر إذا كان هذا الأخ أعطاني عباس لأتحدث معه من هاتفة مباشرة أم إنه أرسل لي رقمه واتصلت به. بدأت علاقة مركز سويرا مع عباس منذ ذلك الوقت وبسبب هذه الحادثة. كنا نتحدث كلما كانت هناك اعتقالات للاجئين. أحياناً كنا نرسل عضواً من المركز ليحضر المحاكمات وفي أغلب المرات لم يكن بإمكاننا فعل ذلك حيث كنا نكتفي بالمتابعة معه عبر الهاتف. كان عباس يقدم لنا تقريراً عن سير المحاكمات وعن مصير اللاجئين الذين يخضعون لها.
كان نظام الإنقاذ يتبع سياسة غريبة تجاه اللاجئين الإرتريين. عندما تكون علاقاته جيدة مع نظام أسمرا كان يسلم بعض اللاجئين من الهاربين من الخدمة العسكرية إلى ذلك النظام فيما يبدو هدية أو بادرة حسن نية تجاهه وعندما تتوتر علاقاته مع نظام أسياس كان يقوم بإبعاد بعض طالبي اللجوء بحجة المخاوف الأمنية. لم يكن عباس يكتف بالدفاع عن طالبي اللجوء الإرتريين أمام المحاكم في كسلا بل كان يتصل بمكتب المفوض السامي اللاجئين وبمعتمدية اللاجئين في كسلا حاثاً إياهما على الاضطلاع بمسؤولياتهما تجاه طالبي اللجوء الإرتريين. وكان يؤكد دائماً لمعتمدية اللاجئين على ضرورة إيفاء الحكومة السودانية بالتزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه اللاجئين. لقد أنقذت جهود عباس أمام المحاكم وضغوطه على المعتمدية ومكتب المفوض السامي العديد من طالبي اللجوء الإرتريين من الإبعاد إلى جحيم الديكتاتورية. وكان عباس يمد المركز بإحصائيات عن اللاجئين وكان يتكفل بالاتصال بمعتمدية اللاجئين أو مفوضية السامية ليحصل لنا على معلومات طلبناها منه.
التقيت بعباس سعيد مرة واحدة. كان ذلك عندما جاء إلى الخرطوم في زيارة قصيرة استمرت يومين أو ثلاثة. اتصل بي والتقينا وبالرغم من قصر فترة زيارته ، أمضينا نهاراً كاملاً معاً وذهبت معه إلى منزل شقيقته حتى نستطيع مواصلة حديثنا وقد حاولت إثنائه عن السفر وإمضاء يوم إضافي في الخرطوم حتى نلتقي مرة أخرى لكنه اعتذر بارتباطات مسبقة في كسلا.
بعد هجرتي إلى بريطانيا صرنا نتراسل وإن في أوقات متباعدة ، صرنا صديقين ، تعارفا من خلال الهاتف لكن جمعت بينهما قضية عظيمة: الدفاع عن حقوق الإنسان في مواجهة البطش والطغيان.
افتقدت عباس في بدايات انطلاق الثورة السودانية عندما لاحظت إنه لا يكتب في صفحته على الفيس بوك ، فكتبت إليه لأطمئن عليه وعندما لم يرد أدركت إنه معتقل وهو ما تأكد لي عندما أُفرج عنه ورد على رسالتي.
تجربة دفاع عباس عن اللاجئين الإريتريين ، تجربة فريدة من نوعها وهي تبدو لي في أحد جوانبها ، كونها تتم في أول مدينة سودانية يصلها طالب اللجوء الإريتري ، رسالة محبة وترحيب ، ممارسة تعكس أعرق التقاليد السودانية في وجه ممارسة السلطة الوحشية الطاردة ، تقاليد ترحيب السودانيين بالضيف وإكرامه. هذا بجانب تجلي الإيمان بقوانين حقوق الإنسان ، المعرفة العميقة بتلك القوانين وتوظيف تلك المعرفة للدفاع عن طالبي اللجوء الإرتريين دون مقابل ، بعيداً عن الضوضاء وقريباً من متناول الديكتاتورية التي تطارد الهاربين من جحيمها وتستميت لاستردادهم.
سامية رباح:
لم يقتصر التضامن مع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا على الرجال فقد بذلت هذا التضامن أيضاً نساء كثيرات. تمثل سامية نموذجاً نقياً لتضامن النساء السودانيات مع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا كما إنها مدافعة صلبة عن حقوق المرأة.
سامية رباح هي زوجة محمود الشاذلي وأختي أنا. وهي قبل كل ذلك ابنة الفنان التشكيلي الكبير المغفور له البروفيسور مجذوب رباح الذي كان في محطة من محطات مسيرته العامرة بالعطاء عميداً لكلية الفنون الجميلة. التضامن لدى سامية مكتسب وموروث. حكى لي أحمد سويرا طيب الله ثراه ، أن بروف مجذوب كان أحد الذين نظموا مؤتمر مناصرة الثورة الإريترية في المعهد الفني عقب ثورة أكتوبر 1964.
لسامية علاقات واسعة بالإرتريين وهي على دراية كبيرة بالتحديات التي تواجههم وتضامنها معهم سبق تأسيس مركز سويرا بفترة طويلة. كمحامية ومدافعة عن حقوق الإنسان وكصديقة أبدت سامية اهتماماً كبيراً بنشاطات مركز سويرا منذ انطلاقة عمله. شاركت في كل ورشه وندواته متحدثة رئيسة ، منظمة ومتداخلة.
طلبت منها أن تعد لنا ورقة عن أوضاع المرأة الإريترية ، فقامت بإعدادها بعنوان: واقع المرأة الإريترية. تناولت الورقة معاناة المرأة في جوانب مختلفة من الحياة. اقتبس هنا بعض ما جاء في هذه الورقة المهمة: (المتتبع لحركة المرأة في إريتريا يجد أنها بسبب واقعها الذي تعيش فيه محفوفة بكثير من العقبات والمتاريس التي تعيق حركتها ونموها وازدهارها منها حالة الحرب التي ظلت تعيشها إريتريا ، دون انقطاع كأنما ولد هذا الشعب ليحارب ثم ليحارب وينتصر ليحارب مرة أخرى.)
عقدنا ندوة خاصة لمناقشة هذه الورقة في يوم المرأة العالمي شاركت فيها العديد من النساء الإريتريات بجانب نشطاء مهتمون. كانت الورقة مفيدة للحاضرين. في ذلك الوقت كنا نفكر في تشكيل وحدة خاصة بحقوق المرأة ، وقد كنت واثقاً إنه لو قدر لمركز سويرا الاستمرار وتمكن من إنشاء هذه الوحدة من أن سامية ما كانت سترفض الإشراف عليها.
لم ترفض سامية أية مهمة أوكلها إليها المركز كما لم تبخل قط في تقديم أية استشارة طلبها منها. كرست الكثير من وقتها وقدراتها لمساعدة مركز سويرا للقيام بعمله من منطلق إيمانها العميق بقيم حقوق الإنسان والتزامها الصارم بضرورة الالتزام بها.
حسن سعيد المجمر:
التقيت بحسن المجمر لأول مرة أثناء مشاركتي في دورة نظمتها في الخرطوم منظمة العون المدني العالمي بالتعاون مع معهد جنيف لحقوق الإنسان في يوليو 2005. كانت الدورة حول آليات عمل الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان. لاحقاً أتاح حسن المجمر لنا فرصة تدريب 2 من أعضاء المركز في دورات مشابهة أقامتها منظمة العون المدني العالمي.
بعد أن انتقل للعمل في جزيرة ، التي يترأس فيها حالياً قسم الشراكات والبحوث في مركزها للحريات العامة وحقوق الإنسان ، استمر التواصل بيننا ؛ حيث رتب لي المجمر لقاءاً في قناة الجزيرة عندما عين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مقرراً خاصاً لحقوق الإنسان في إريتريا في يوليو 2012 ، تحدثت فيه عن أوضاع حقوق الإنسان في إريتريا.
وأذكر إنه اتصل بي يوم 21 يناير 2013 عندما تحركت وحدات من الجيش الإريتري واحتلت وزارة الإعلام طالباً مني أن اكتب للجزيرة عن الحدث من منظور حقوق الإنسان وهو ما قمت به وما تابع هو نشره في الجزيرة نت. كما اهتم المجمر بنشر أخبار حقوق الإنسان في إريتريا والبيانات التي كان يصدرها مركز سويرا وسعى من أجل نشرها على الجزيرة نت.
المجمر خبير في مجال حقوق الإنسان حاصل على درجة الدكتوراه وقبل كل ذلك هو شخص ودود مؤمن بقيم وحقوق الإنسان ، نظم في العديد من دول العالم ورش ودورات تدريبية حول حقوق الإنسان والتي يشكل الوعي بها الشرط الضروري لامتلاك قدرة الدفاع عنها. بعد لجوئي إلى بريطانيا ، حاول بسبل مختلفة مساعدة مركز سويرا لأداء عمله وقد دعاني في إحدى المرات لحضور مؤتمر عن حقوق الإنسان عقد في لندن وكان هو المشرف عليه.
هذه مجرد نماذج لتضامن السودانيين مع الإرتريين يجمع بينها كونها لنشطاء في مجال حقوق إنسان لكن هناك آخرون قدموا مساهمات لا يقل بعضها عن المساهمات المذكورة. بين هؤلاء صحفيون ، فنان تشكيليون ، إداريون ، أساتذة جامعات، فنيو كمبيوتر ومصححون لغيون. أذكر منهم ؛ صالح محمد علي ، خالد التيجاني ، فيصل محمد صالح (الوزير حالياً) ، الواثق الزبير وكان حينها مديراً للمركز القومي للسلام والتنمية ، محمد محجوب هارون ، سوسن خالد ، عبد المنعم أبو إدريس ، عادل حضرة ، حامد حلوف ، عصام عبد الحفيظ ، حيدر خالد والبشير سهل جمعة وغيرهم.
التضامن هو الأصل في علاقة السودانيين مع ما جرى ويجري في إريتريا وأي شكل آخر من العلاقة لا يعبر عن التقاليد والقيم السودانية ولا عن التاريخ وحقائق الواقع.