ذكرها طرفة في معلقته «إرتريا» رقيم ودهاق إرتيريا 3-3

بقلم الأستاذمحمد هليل الرويلي  المصدر: الجزيرة كوم - المملكة العربية السعودية

نزعة شعرائهم جعلتهم حد الالتصاق، ضمّت الأرض والإنسان معًا يا أعرابي؛

من الأزياء الشعبية المستخدمة للنسوة في إرتريا

إذ لا فرق في وَمق الإريتريين ! أينما يهيمون حبهم راجحٌ في الأوزان، وأينما مالوا فثق إنما هم ميّالون للعدل، يرجحون كالقسط بين الناس، رغم كل الظروف القاهرة والملمة. ما تخون ذلك من حبهم من شيء.. لن نحتاج لمزيد من التّدلِيل بعد القائل: أنا السواد ؟!

إذ باح لي بسر رائعته: «أنا السواد في عينيك اكتمل» بعد أن قرأها لي أكثر من مرة بإلحاح مني.. قال لي: هي «في وداع أسرتي وأنا ذاهب إلى الشام لأول مرة، وعدت أختي التي أكنّ لها مكانة سامية (بأسورة) من الذهب. عندما وصلت إلى الشام لم يكن الأمر سهلاً.. أصبح تحقيق الأمنية بعيد المنال، بحكم الظروف التي كنا نعيشها كطلاب لاجئين، بالكاد يكفينا المصروف؛ لذلك جاء مطلع القصيدة معتذرًا لأختي:

ليديك، أفتش عن (إسوارة)

وفي عميق البحر

عن مورد وسفارة

وقافلة، بلون الدّم وسيارة

أفتش عنك؛ كي تبسطي الجوانح ومعصميك

كي تداري وتجاري..

من هاموا في الأرض

يأسًا، جوعًا، وردًا، وظلا

تاهوا سقامًا، فطامًا وسلاّ

قالوا: هيا نطوي الموت ونرحل

لبلاد الخبز هيا !

إنه الشعر يا أعرابي، دائمًا لدى الإريتريين بمنزلة لغة تُحاكي حُلمَ شعب تنادى بالانعتاق وما تكدى. وطالما هَمَّ الشعراء بالوطن والحياة والإنسان. عاشوا الشعر كما لو كان تجربة مُسجّرة، عامرة بالتوحُّد بين الفكرة والاقتراب من الذات الإنسانية في توثُّبها وفي نكوصها.

أما الكداية والطقوس والعادات الغريبة.. لن نشير لها ؟ وسنترك الطحين ودفن العظام، والمرأة التي تمر ولا تضر.. ولماذا هي هنا ثم لا تتحدث مع والد زوجها وشقيقه الأكبر ! ماذا عليها أن تفعل.. نهاية الجزء. حينها ستكتشفون أنكم مررتم بعوالم غريبة ! ومصادر مطلعة في «شؤون الغيبيات» تؤكد أنها لحفظ أسرار الأطفال ! وإلا ستصبح سيرتهم على كل لسان !

هُمّددين الأمين.. شاعر الشجن والحنين:

وعن تجربة أحد ألمع شعراء إريتريا خصص الكاتب «محجوب حامد آدم» المساحة لتجربة شاعر الشجن والحنين هُمّددين الأمين، وقال: كان انبهاري الأول بالشاعر «هُمّددين الأمين» في عام 1994م، أول عهدي بمعهد إعداد المعلمين بأسمرا؛ إذ تعرفت عليه من خلال قصيدته «أنا السواد في عينيك اكتمل..»، حينها قرأت نصًّا ثمينًا مكتوبًا بشاعرية مطلقة، يشبه مائدة ضخمة عامرة. أشبعني هذا النص بمفرداته وجماله ولونيته وكرنفاليته الموغلة في تفاصيله.. ثم تحول الانبهار لفرحة عارمة حين علمت أن «همددين» يعمل مدرسًا في إحدى مدارس مدينة «عدتكليزان». من وقتها وأنا أقتفي دروبه الإبداعية، وأمني النفس بلقاء هذا الإنسان الجميل. وقد قدر لي أن جمعني حقل التعليم بهذا الشاعر الموهوب في نهاية التسعينيات إذ عملنا معًا لسنوات بمدرستي «الفجر والنهضة» في كرن، ومرة ثانية لفترة بسيطة لم تتجاوز الشهرين بمدرسة «أملاييت» في مديرية كركبت، قبل انتقالي للعمل في الإعلام. كان لهذه المصادفة الأولى في «كرن» دور مهم لمعرفة «هُمّددين الشاعر والإنسان..» عن قرب، وعن معرفة السواد الأعظم من أعماله الإبداعية والكتابية. وكان لنا جلسات و»قفشات» جميلة، كانت النافذة المطلة علي قلب هُمّددين المفعم بالحنين.

والقارئ لشعره يتلمس هذا الإحساس الصادق والمرهف منذ الوهلة الأولى لكثافة حشد المفردات والمعاني الغارقة في العشق بفلسفة رمزية، أجاد إتقانها لحد كبير، كما حاول توظيف تخصصه الأكاديمي «علم التربية» في عالمه الشعري؛ لتخرج قصيدته تحمل أكثر من مضمون، وقابلة لأكثر من تأويل.

وقد استخدم صورًا مكبرة ومصغرة في أشكال شتى للتعبير، طامحًا ابتكار قاموس وأسلوب مختلف عن الآخرين، وكان له ما أراد.. «فهمددين» صوت شعري ذو نبرة مميزة، وجرس موسيقي خاص. ويُعتبر ما كتبه من قصائد أدبًا إنساني النزعة حتى النخاع. إنه إنساني لا لإنسانية الصوفية، ولا لإنسانية الشكلية، إنما إلى الإنسانية الزاعقة الجدلية اللصيقة بالأرض وبإنسان الأرض.

وتسقط قامتنا السوداء على الجذور

كالأبنوس القديم

تسقط، لكن تنتصب لقيامة

عشقت مكانها وزمانها التالي

لزهرة ندية حمراء

تخرج من قبورنا المعدة

ومن وحول السراب

«أنا السواد في عينيك اكتمل»

وقال متابعًا حديثه «محجوب آدم»: في «كرن» جمعتنا المقاهي والأندية الأدبية والأماسي الشعرية، وخصوصًا في الخريف الذي يصادف إجازاتنا الصيفية بحكم عملنا في التعليم. والخريف في «كرن» شكل آخر من الدهشة.. أمطار بطعم الفاكهة، وأرصفة بنكهة القرنفل، وجمال أخّاذ يسافر بك في سماوات معجونة باللازورد. وفي بيتي المتواضع بحي «عد حباب» كان يزورني «هُمّددين الأمين»، كنا نستأنس بالقصائد ونتعطر بها ونحن نحتسي الشاي بالنعناع، وندخن النارجيلة على أنغام فيروز ومارسيل خليفة؛ فيتحول فناء الدار البسيط إلى واحة جميلة.

كان يقول لي «يا محجوب أنت تذكّرني الشام، بهذه الطقوس الجميلة»، وهو يكتب لي قصائده بخط يده، ولهذه القصاصات معزة خاصة عندي؛ لذلك أحتفظ بها في ملف خاص، يحمل اسمه في خزانة كتبي مع الكثير من الملفات التي أعتني في حفظها لمبدعين إريتريين، شكّلوا مساحة خاصة من الحب في قلبي.

ذات صفاء باح لي بسر رائعته: «أنا السواد في عينيك اكتمل» بعد أن قرأها لي أكثر من مرة بإلحاح مني.. قال لي: «في وداع أسرتي وأنا ذاهب إلى الشام لأول مرة، وعدت أختي التي أكنّ لها مكانة سامية (بأسورة) من الذهب، وعندما وصلت إلى الشام لم يكن الأمر سهلاً. أصبح تحقيق هذه الأمنية بعيد المنال، بحكم الظروف التي كنا نعيشها كطلاب لاجئين؛ بالكاد يكفينا المصروف؛ لذلك جاء مطلع القصيدة معتذرًا لأختي:

ليديك، أفتش عن (إسوارة)

وأضاف: وفي الشام تفتقت قريحته الشعرية، وكتب معظم أعماله الشعرية؛ إذ تأثر كثيرًا بشعراء الشام وجمال الشام ورياحين الشام، لكن دون أن يتمكن ذلك التأثير من انتزاع هموم قضيته، بل ظل محافظًا على لونيته الخاصة مستفيدًا من بيئته المحلية والموروث الثقافي والتراثي المتنوع الذي ينتمي إليه، والذاكرة الضاجة بتراكم الحماقات التي ارتكبها المستعمر البغيض بحق الشعب الأعزل مدرعًا بآلته الحربية الرهيبة. إذن هو المتزود من نهر العذابات مستصحبًا معه في غربته المجهولة وطنًا مسلوبًا وأمنيات مبعثرة ومجاعة حصدت أرواح عدد كبير من أهل قريته «قرورة»، وقد تكالبت عليه كل هذه الكتل من الأحزان، لكنه فجّرها شعرًا، وأكسبها نصوصًا جميلة:

«وصايا إفريقية، عونا مدينة الشموع المضاءة، نحن والأرض والصبح لا نفترق، كيف أستريح وسمراء الخدين تقاوم صامتة، إمباسيرا لا تهاجر هجرتين»، وغيرها من النصوص الرائعة.

وقد جمعته صحبة ومشاركات مع عدد من الشعراء السوريين، وقد أسهم ذلك كثيرًا في إثراء تجربته الشعرية، ونشر عبرهم عددًا من قصائده في الصحف والدوريات الدمشقية:

أنا السواد في عينيك اكتمل

طفلاً.. وكحلاً.. وراح

وأنا طبّ لك.. عمرا في لياليك النواح

في بحرك الأحمر..

ألف جرح أسلمت لنعاسها الجميل

وألف جرح قد ودعت في سويعات الأصيل

وألف جرح تنزف دم صداح..

أنا.. مطر

أنا.. قمح

أنا.. فلاح

وزاد: «هُمّددين» شاعر مخضرم، أولى الجانب الأكبر من مشروعه الشعري للقضية الإريترية، وكتب الكثير من القصائد التي تحمل همّ ووجع الوطن. وقد لاقت أعماله الشعرية انتشارًا واسعًا في أوساط الإريتريين حتى السوريين، وخصوصًا قصيدتي جوازك الـ (U.N)، و(حنظلة)، اللتين انتشرتا بصورة واسعة في الأوساط العربية، ولاسيّما الفلسطينية منها، نسبة للقواسم المشتركة التي كانت تجمع الشعبين في تلك الفترة «الاستعمار». وإذا كان من الممكن أن نفحص بعض الجوانب الأثرية والأدبية والتاريخية مع الاحتفاظ بالصفات الشعرية لهذه القصائد، فإن رائعته جوازك الـ (U.N) تعتبر وثيقة تاريخية، تعبر عن حقبة الاستعمار وضياع الهوية، وتدعو في الوقت ذاته إلى القيم النبيلة الرامية إلى استرجاع الحق والكرامة:

جوازك الـ (U.N)

ليس جوازك للوطن

جوازك للمحن

وريقة صفراء بلا معني

مشبوهة بلا نسب

آية للرحيل.. من تعب إلى تعب

ومن جرح نازف شوقًا

إلى جرح ينزف للأبد

هوية بلا هوية

لمخيم مجهول وقضية

وشعب رصاصي الجسد

إريتري لا يسقط جوعًا

لا يذوب كمد

يفجر الأحمر الغاني عشقًا

ويولد من الشهادة

وحينما أقيم في «نقفة» مدينة الصمود «المؤتمر التنظيمي الثالث» للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والتأسيسي للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة عام 1994م، زيّن جدران القاعة مقطع من قصيدته «نقفة» التي صاغها بمفردات بسيطة ودلالات جمالية عالية وفاءً لهذه المدينة التاريخ والانتماء:

لسنا من تعالى

نعلو سلمًا وقتالا

نطوي فينا جرحًا

نبني دارًا

إريتريون كنا، نكون أحرارا

وأنت نقفة.. دمًا، فتحًا، وانتصارا

فصبحينا وردا

واعزفي «كرارا»

وارقصي قلبًا يومًا ما توارى

تصدي فغني

غني انتصارا

(نافذةٌ لا تُغْرِي الشَّمس)

وفي قراءة شعرية غنية أخرى، بعنوان: قراءة في ديوان (نافذةٌ لا تُغْرِي الشَّمس) للشاعر الإريتري محمد مدني، قال الناقد «عفيف إسماعيل»: تقول السيرة الثوريّة للشاعر محمد محمود الشيخ الشهير بـ»محمد مَدَني» إنه أعطى أنضَرَ سنواتِ عُمره لنضالٍ مُستمرٍّ من أجل تحرير وطنه، إذ كان يُقاتل بشراسةٍ، بكلّ أدواته الممكنة: القلم، البندقية، ساعياً بين الناس يدعوهم إلى التضامن مع قضية شعبه العادلة، حتى حصلت إريتريا على استقلالها الفعليّ في العام 1991م، وعلى استقلالها المعترَف به رسمياً في عام 1993م، عقب استفتاءٍ تحت إشراف الأمم المتحدة.

في غنائيةٍ إيقاعيةٍ مُمتدَّةٍ، تتأرجَحُ بين الحلم وتَواتُر الخيبات، وتُحرِّض على التماسك، تتدفَّق نصوص الشاعر الإريتري المتميِّز محمد مدني في مجموعته الشعرية «نافذةٌ لا تُغْرِي الشَّمس»؛ لتَحكي حُلمَ شعبٍ بالانعتاق، وهَمَّ شاعرٍ بالوطن والحياة والإنسان، ونبضَ تجربةٍ عامرةٍ بالتوحُّد بين الفكرة والاقتراب من الذات الإنسانية في توثُّبها وفي نكوصها.

بحصافةٍ شاعريةٍ، تخيَّر الشاعر عنوان الديوان، وعناوين النصوص، التي وَشَت، بدقة إيحائيةٍ، بالمناخ النفسي العام للنصوص المنطلقة من الذات الشاعرة، بإيحاءٍ مباشر بما تنطوي عليه من تأرجُحٍ مقصودٍ بين الحسرة التبشيرية الثورية الحالمة بالتالي، مثل «الرسالة قبل الأخيرة، رؤيا، محاولة لإعادة رسم الخارطة، زلزال، سيرة ذاتية، لماذا نكتب بالحبر، أحياناً يحدث هذا، شهرزاد والمقصود، إسقاطات، أغنية لأطفال «آر»، النشيد الصامت، سِفْر العشق والكلمات».

هذه المحاورة الصامتة بين العناوين ما هي إلا محاولة تحضيرية لأسلوب الشاعر الفني في الكتابة، وهو التداعي الحر المباشر، يرافقه مسباره التأمليّ النافذ، ليتجوَّل في الزمان بين ثلاثية الماضي والحاضر والآتي، وينفذ إلى جوهر الأشياء، بالرغم من التكلُّس، وبطء عجلة التحوُّلات؛ ليبني صوراً شعريةً ساطعةَ التركيب والمعنى:

«ونَظَلُّ نَدُورُ

طوَالَ الزَّمَنِ الأعْمَي

في أَفلاكِ الظَّاهِرِ والمضمون

كُنَّا لا نَدْرِي..

مَنْ مِنَّا

يَرْكُضُ خَلفَ سَرَاب».

لعلّ مِن أبرَز ملامح مجموعة «نافذةٌ لا تُغْرِي الشَّمس» اعتناءُ الشاعر بخارطة النصّ وشكله الفنيّ، وتوزيع مساحات البياض والسَّوَاد بين المفردات والجُمَل الشعرية، وطباعة جُمَل أخرى بالسَّوَاد الغامق، أو نَثْر الحروف في تدرُّجٍ إيقاعيٍّ إلى أسفل يفيد الإشارة، ويُكَثِّف من حالة التدحرُجِ والقهقرى التي يَرْصُدها من خلال شعره، أعطَت تلك اللمسةُ التشكيليةُ الكتابَ مزاجاً بصرياً يساعد القارئ على التجوُّل بإيقاع موزون بين النصوص، وبسهولةٍ تندرج تحت شروط مُضمَرة في لعبة الاستجابة ضمن عقدها المبرَم طوعاً بين القارئ والشاعر لتسريب المعنى.

يَستصحب الشاعر محمد مدني أراجيزَ الأطفال وألعابهم كرموز مستنطقة ضد القبح في زمن الحرب، ومن أجل الأفضل دائماً:

«بيم... بوم... باك...

أنا حامد.

أنا دبروم.

أنا جنجر.

ألم مسفن.

- وسعدية.

- إبرهام.

- محموداي».

وأضاف: تكتمل العذوبة حين ينتقل مُعدِّد أسماء الأشخاص والمدن والقرى، في حنين ماضوي، إلى المكان في معناهُ الأوسَع من على خرائط الجغرافيا والوطن نفسه:

«للَّذِي نَادَى بِأيلُولَ

على الناسِ... سَلامْ

للَّذِي وَحَّدَ (حَلْحَلَ)... بالعِشْقِ

وبِالموتِ... سَلامْ

ولـ(قلوج)... سَلام

ولـ(عندات)... سلام».

تبدو أغلب نصوص المجموعة الشعرية في باطنها كأنّها كُتبَت في هدنةٍ بين معركتين، أو تم الاختزان التحضيري لها في مناخ شبيه بالمعركة، فجاء إيقاعها كأنه زخات طلقاتٍ سريعةٍ وامضةٍ وخاطفة، وتحتشد بالشعار التلخيصيّ المباشر الأخّاذ العامر بالحكمة والتأمُّل:

«لا.. لابتعادِ الحِزْبِ عن حَرْبٍ تَقُودُ إلى السَّلام

لا.. لاقتِرَابِ الحَرْفِ مِن حَلٍّ يُحِيلُ إلى رَمَاد».

«ونبقَى طَليقين رغم القيود».

وقال الناقد «عفيف إسماعيل»: الشاعر الإريتري محمد مدني أهدى المكتبة الإفريقية والعربية كتاباً سوف يكونُ يوماً مرجعاً مُهماً لعلاقات التجسير الثقافي بين الشعوب، وأهدى الساحة الثقافية السودانية أعذبَ الأغنيات؛ فقد اجتزَأت مجموعة عقد الجلاد، وساحرها الموسيقار عثمان النو، في زمنٍ باكرٍ، تلك الأنشودة العذبة من نصِّه المركزي في تجربته الشعرية «مناورات تكتيكية نحو مبادرة استراتيجية» الذي تناسَلَت منه فيما بعد نصوص أخرى، شملتها هذه المجموعة الشعرية، ونصوص ما بعدها، يعرفُ عشَّاق عقد الجلاد تلك الأغنية باسم «أحتاجُ دَوزنةً»، أو «يا بحر»، وعالجتها موسيقياً، بما يكفي لقطع المسافة المشجّنة بالوعود بين الحلم والتمني واهتراءات الواقع المرير، بنقرة الأوتار الأولى في معزوفتها الخالدة الطامحة إلى ترميم عصَب الإنسان ودَوزنته وفق منهاج الثورة على البال والمتهالك الهالك، ووَضَعت بصمةً أخرى لاجتهاداتها النابهة لتَجاوُز مرحلة أغنيات وأناشيد الرومانسية الثورية في نصوصها وموسيقاها.

وزاد: أما المبدع مصطفى سيد أحمد، بقدرته الفذّة في اختيار النصوص، فقد اجتزأ نصّاً آخر للشاعر محمد مدني وسَمَّاه «في صحة الوطن»، فكان عافيةً لعروقنا الظمأى للحياة والحرّية، ولعشاق فنّه على امتداد المليون ميل متعب، يتفيَّؤون بها كلّما تكاثفت الآفاتُ عليهم، وما أكثر مواسمها الدائرية في الحياة السودانية. وبذلك يُشْرع الشاعر محمد مدني نافذةً كنافذة «دالي» على الفضاءِ الطلق والريح، تُغْرِي بالحب والثورة والانتماء للإنسان والوطن، ودعوة لفهم ارتباكات الكائن في الوجود واقتراب الذات المغتربة القلِقة من ذاتها.

تراثيات إريتريا.. طقوس غريبة:

في نهاية الملف المخصص لإريتريا، بداية سنسلط الضوء على بعض عادات موروثة رغم غرابتها، إلا أنها تحمل أبعادًا جمالية قيّمة، ضمن تشكُّل الأرض والإنسان على مدى أزمنة. تحت عنوان «تراثيات إريتريا» قال الباحث الفلكلوري والكاتب «عمر محمد إدريس»: هنالك بعض العادات المتوارثة والمتبعة بقناعات راسخة رغم ما يلفها من أجواء طقُوسيّة بعيدة عن أي منطق علمي. وبالرغم من أنه قد يراها البعض عادات غريبة إلا أنها لا تخلو من أبعاد جمالية وقيمية.

فلدى المجتمعات الريفية من قومية «التقرى» يندرج نطق إحدى السيدات لاسم زوجها أو والد زوجها أو والدته «حماتها» من المعيبات بل المحرمات. وإن دفع الشطط بامرأة ما لفعل ذلك أو تجرأت بدوافع تخصها، تصنف بأنها اخترقت خطوطًا حمراء ظلت مصانة منذ أزمان سحيقة، هذا فضلاً عن وصفها بنقص الحياة؛ لذا تفتقت القرائح لابتداع أسماء بديلة، أو كنية تسهل الأمر على السيدات، وصارت تلك الأسماء البديلة متعارف عليها في المجتمع وجزء من تعامله اليومي عبر الأجيال.

وأضاف: هكذا حول اسم عمر مثلاً إلى «مران» ويكون أحيانا «ريشاي»، وعثمان ينادى «مانقيت» وعلي «قبشة» وحامد «عنجة»، ويشترك اسما آدم وموسى في اللقب «مقب»، أما إبراهيم فيقال له «كليل»، لكن حرف «الخاء» يستعصى نطقه على البعض، وهكذا يوجد اسم بديل، اسم حقيقي، ولكن الملاحظ أن اسم محمد غير قابل للتبديل لسمو مكانته في النفوس تبجيلاً للمصطفى - صلى الله عليه وسلم.

صوت المرأة الإريترية:

ومن المفارقات والطرائف التي تحدث بين سكان المدن أو المتمدنين الجدد من ناحية، والنساء الريفيات اللاتي يتمسكن بموروثهن من ناحية مقابلة كثيرة، قد تؤدي إلى شجار في بعض الأحيان.. فيما العاملين في حقل الرعاية الطبية والصحية هم أكثر من يعانون من مثل هذه العادات بحكم تعاملهم المباشر مع الأمهات الريفيات؛ إذ تحدث الورطة عادة حين السؤال الذي قد يحول طفلاً مريضًا مثلاً، فتنزوي الأم خجلاً. ويلح المعالج بالسؤال ويحول للطفل في انتظار إجابة منه.

ومن تلك العادات، وفي جانب الآداب أيضًا، أن تُخفَى المرأة من والد زوجها أو أكبر أشقائه، في حالة وفاة والده. بل لا يجوز لها أن يصل صوتها إلى مسامعهم، فضلاً عن التخاطب معهم؛ إذ ينبغي أن يستمر هذا الصمت المطبق حتى تنجب الزوجة، ويمتلئ منزلها بالأطفال. كما يتوجّب على العروس ألا تحادث زوجها إلا بعد سنوات من زواجها «هذه العادة أخذت في الانقراض الآن وسط حسرات عدد من الأزواج يعانون من ثرثرة الزوجات».

وبناء على «المذكور أعلاه» يصبح من نافلة القول أن تناول المرأة الطعام على مائدة واحدة مع زوجها أو أي رجل آخر أمرٌ غير وارد، ولا مجال للتفكير فيه. إذًا هنالك عالم نسويّ خاص، له آدابه ومعاملاته، وأحاديثه التي غالبًا ما تكون عن الرجال الذين هم من وجهة النظر النسويّة محض أطفال كبار.

دفن عظام العقيقة:

وقال عمر: كما سنتطرق في هذا الموضوع لجانب آخر بغرض في تراثنا الثري، ونستعرض في هذا الجزء بعضًا من العادات أو الطقوس، وهو ما يمارس عادة بـ»دفن عظام العقيقة»، فإذا قُدر لك المشاركة في وليمة أو احتفالية بتسمية وليد جديد بمناطق الريف فإن عليك أخذ الحيطة والحذر، وتركيز الانتباه إلى أقصى حد ! حتى لا تفقد أيّا من العظام التي كانت من نصيبك في المائدة؛ لأن أصحاب الوليمة سيحرصون على جمع كل العظام؛ لتُدفن عند نهاية اليوم في حفرة عميقة قبل أن يوضع عليها حجر، تم إحضاره في الغالب منذ يوم قدوم المولود، أي قبل «سبعة أيام» من يوم «السِّمّاية». ويتباهى الآباء أيما تباهٍ بضخامة وجماليات «حجر عقيقة» أبنائهم الذي جلبه خال الوليد أو عمه من أحد الأودية القريبة.

مصادر «شؤون الغيبيات» لحفظ أسرار الأطفال:

وزاد: أنا شخصيًّا لا أملك تفسيرًا لتك العادة، لكن مصادر مطلعة في شؤون الغيبيات تقول إنه من أجل ضمان حفظ أسرار الطفل في المستقبل، وحتى لا تصبح سيرته على كل لسان حين يصبح رجلاً. ويذهب رأي آخر إلى أن الهدف بعيد المدى، هو دفن جميع نظرات العيون الحاسدة التي قد تلحق بالطفل مع تلك العظام عميقًا.

المرأة وحامل الطحين حين يمرُّ:

وواصل الباحث «عمر إدريس» الحديث حول المظاهر وعادات المجتمع والثقافات المحلية في المجتمع الإريتري، قائلاً: أيضًا من العادات المعمول بها عن تأكيد وقناعة أنه لا ينبغي أن تمرَّ المرأة وسط الأنعام عند خروج هذه الحيوانات إلى المراعي؛ لأن ذلك يعد نذير شؤم بشكل مؤكد، وخطرًا مؤكدًا على سلامة هذه الحيوانات في رحلة البحث عن الكلأ نهارًا. كما أنه لا ينبغي أن يمرَّ بتلك الأنعام أي شخص يحمل شيئًا من الطحين في الصباحات ! والتفسير يأتي: لأن الحبوب التي طُحنت قد تتسبب في أن تعود البهائم في المساء وقد كسر أو طحن بعض من عظامها. هذا إن نجت من الموت الزؤوم. لذا في حالة الاضطرار لنقل الدقيق إلى القرية أو بين البيوت صباحًا - وهذا يحدث كثيرًا في السابق لأن العادة تلزم العروس بطحن الحبوب وإرسالها لحماتها لصنع العصيدة - ففي هذه الحالة يتم رش الدقيق بقليل من المياه عبر فتحات أصابع الأيدي حتى لا يتحول الدقيق المخصص للعصيدة إلى مديدة كدلالة على التماسك الذي يمنع اللعنات.

Top
X

Right Click

No Right Click