جبهة التحرير قلناها من بدري
بقلم الدكتور: إدريس موشي
حين نقرأ عن الثورات الكبرى ومشاريعها العملاقة في التاريخ فهناك ثمة طريقين للمعالجة:
الأول ويبدأ بتقصي الحقائق التاريخية والأوضاع السياسية والاجتماعية التي أفضت إلى الثورة، والثاني يبدأ برص الأفكار التي ولدت الثورة.
وهكذا الثورة الإرترية، كان من الطبيعي أنها لم تأتي من فراغ، وإنما من منابع حضارية واجتماعية وأيديولوجية وسياسية، ظلت تغلي وتغلي، وتتفاعل وتتفاعل في تنوع لكن متناغم الإيقاع، ونغمات جماعية، وسيمفونية موحدة متماسكة تعكس طموحات وآمال وآلام الشعب كل الشعب، في زحف مقدس لم يعرف تاريخ إرتريا مثيلا له نحو تحقيق الحلم العظيم، نحو الهدف الاستراتيجي الكبير (وحدة إرتريا وحقها الكامل في تقرير المصير) لتتبلور في النهاية عن إعلان بزوغ فجر جبهة التحرير الإرترية التي ولدت في أدال، وترعرعت واشتدّ عودها وهي تتنقل من بيت إرتري إلى آخر، قدمت خلالها ما يقارب الثمانين ألف شهيد أو يزيد، وعشرات الآلاف من الجرحى، ومئات الآلاف من المهجرين، وأسماء وأسماء من الرجال والنساء العظماء الذين رفعوا أرواحهم على أكفهم من أجل أن نبقى، عركتهم سهول إرتريا وجبالها وعركوها، أكلوا حشائشها وأكلتهم هوامها، رووها بدمائهم عندما أصدتهم بعطشها، جاعوا لنأكل ونشبع، وعطشوا لنشرب ونرتوي، مخلدين ومن خلال تماهيهم بمذابح عونا ومسديرا وشعب وعد إبراهيم و... سرّ التضحيات الإرترية العظيمة.
إلا أن ذلك الألق لم يستمر طويلا، فقد وجّه إليها المرجفون في الأرض سهامهم السامة، مستندين إلى بعض الأخطاء والسلوكيات الحمقاء لبعض كوادرها وقياداتها، فأشاعوا بين الناس مرض الجبهة بإنفلونزا القبلية، وضغط العشائرية، وحمّى المناطقية، وسرطان الجهوية، وشلل القيادات، ثم كانت الخيبة الماحقة، والغباء المركب عندما صدّق بعض أبنائها تلك الأراجيف بطريقة تنم عن جهل مركب ضد أنفسهم، وضخموا وروجوا لفرية السامري التي انتشرت بين الناس كالفطر، بل المبكي المحزن أن تأبط بعضهم سيوفهم وحرابهم لوأدها، فانتشر الهرج والمرج بين مصدقي السامري ومكذبيه.
إلى أن أزفت الآزفة، وأذن مؤذن السامري، ورفع خواره معلنا ساعة وأدها، حتى تكالب عليها الأعداء، ودبّوا إليها من كل فج عميق، دهاقنة (نحنان علامنا)، وحلفاؤهم حاخامات أكسوم، وأئمة جهاز مخابرات الخرطوم، و... وآخرون لا نعلمهم الله يعلمهم.
ورُوِي والعهدة على الراوي أنها (الجبهة) حُملت على الأكتاف من أعالي كبسا بعد أن أثخنتها الجراح، وبدأت تُحتضر في منطقة عنسبا إلى أن توفاها الله في منطقة (أٓلٓبُو) القاحلة، ودفنت بكركون، إلا أن أبناءها وكما اختلفوا في فرية مرضها اختلفوا في حقيقة موتها، فمنهم من أنكر موتها أصلاً، ومنهم من قال إنها دخلت سرداب الغيبة في منطقة (عد سيدنا مصطفى) وستعود لتملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت جورا وتهميشا وإقصاء، ومنهم من أقسم الأيمان بأنها لا تزال حية تُرزق، وقد شوهدت مرة في كسلا السودانية، ومرة في حشنيت وقد تغيرت ملامحها، وأنهكت المعانات قواها، وهزل جسدها، متسربلة برداء الوطن الحزين، وموشحة بإزار الكآبة المطرز بدماء أبنائها الشهداء وأهاليهم اللاجئين، وآهات السجناء وأنين الرقيق الهاربين.
لنكتشف - أو بعض من عاد منّا إلى حديقة العقل- ولكن بعد أن تلبدت سماؤنا بغيوم التشرذم، وجرفتنا أعاصير الإقصاء، أن كل تلك الأمراض كانت أمراض مفتعلة، ولم تكن إلا فرية اخترعها السامري رانت على القلوب غفلة وربما جهلا، لكنها للأسف فعلت فعلتها، ولم يكن بوسع أبنائها من هول الحدث التفكير لإعادة توازنهم وفاعليتهم خاصة بعد أن تفرقت بهم السبل، وأخذت بهم جراثيم الفرقة طرائق قددا.
والسؤال المركزي والملح اليوم الذي يمثل سؤال اللحظة التاريخية المصيرية الذي لا فرار منه ولا تهرب، ولا تجدي معه المراوغة أو التحايل - وخاصة بعد إنكشاف فرية السامري وأبواقه - هو: هل ما زلنا مُصِرّين على مواصلة معركة غبائنا التاريخي ؟؟؟
أليس من الأجدر اليوم أن نقف وقفة صادقة وموضوعية مع أنفسنا لنقيم تجربة الجبهة التي بلا شك ولا ريب أنها خالدة وعظيمة عظم هذا الشعب الذي أنجبها، وخلود شهدائها وجرحاها، لنستفيد من محطات تألقها - وما أكثرها - فنعززها، ونقاط ضعفها فنقويها، وعوامل أمراضها المفتعلة فنتخلص منها، وأخطاؤها ومسبباتها والتي استلزمتها أعمالها العظيمة فنعالجها بالقضاء عليها بعد أن نتبينها.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار
النصر للشعب الارتري البطل