الأجعزيان.. الجذور التاريخية والطرح السياسي
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح المصدر: وكالة زاجل الأرترية للأنباء - زينا
• حركة الأجعزيان مشروع فتنة طائفية يجب إدانته.
• المناداة بمشروع تجراي الكبرى مشمولة بإرتريا خيانة عظمى من الأجعزيانيين للنضال الإرتري.
• الأجعزيانية فكرة تسلطية لا تتجسد في حركة الأجعزيان فحسب بل لها امتدادات.
• إرتريا بوضعها الحالي تعيش حالة من الأجعزيانية المدمرة.
• الأجعزيانية بصفتها فكرة تسلطية، ونزعة قومية شيفونية أكسومية اخترقت الثورة مبكرا.
• أجعز قبيلة حميرية لا علاقة لها باليهود امتزجت بكل الحاميين في المنطقة.
• التجرايت أقرب اللغات إلى الجعزية من التجرنية والأمهرى.
الأجعزيان حركة سياسية، أكسومية الانتماء، أرثدوكسية العقيدة، قومية النزعة، شيفونية المشاعر، ناطقة بالتجرنية، تنادي بدولة أكسومية، تضم كل إرتريا، وكل إثيوبيا، تحت حكم تجراي تجرنيا.
وتعتقد أن الوحدة القومية، بين الأكسوميين التجراويين، في إثيوبيا، والأكسوميين التجرنيويين، في إرتريا، تحتم عليهم الالتحام معا، في كيان قطري يجمعهما معا، انطلاقا من أن تاريخهم القديم هو تاريخ أكسوم، أساس تاريخهم الحديث، وأن تاريخهم الحديث هو تاريخ يوحانس وأللولا، موصولا بتاريخ عيزانا، وليس تاريخ عواتي وسلطان.
والحديث عن هذه الحركة، يتطلب أولا الحديث عن مفردة (أجعزيان) نفسها، ما جذورها ؟ من خلال الإجابة على التساؤلات التالية:-
• ما علاقة قبيلة أجعز الحميرية بمنطقة الحبشة ؟
• هل الانتساب إلى قبيلة أجعز الحميرية مقصور على الأكسوميين أم شامل ؟
• ما صحة ما يدعيه مؤسس حركة (الأجعزيان) من ارتباط عرقي وديني باليهود ؟
• هل ثمة فرق بين (الأجعزيان) اسما لحركة تحمله، و(الأجعزيانية) وصفا لمن توفرت فيه أوصافها ؟
الأجعزيانية والجذور التاريخية:
وللإجابة على هذه التساؤلات من المهم أن نعرف أولا مصدر اشتقاق مصطلح (أجعزيان ) بالعودة إلى قديم التاريخ، حيث نجد قبيلتين حميريتين، هاجرتا من جنوب الجزيرة العربية، إلى منطقة القرن الأفريقي، وامتزجتا بالسكان الحاميين فيها، الذين قدموا هم بدورهم من جنوب الجزيرة العربية، وأقامتا معا حضارة أكسوم، في دولة عرفت في التاريخ بدولة الحبشة، اشتقاقا من اسم قبيلة حبشت الحميرية، في شمال إثيوبيا الحالية، والهضبة الإرترية بالتحديد، ثم توسعت وتمددت وسيطرت على ما حولها، حتى دخلت اليمن؛ لتحكمه إلى حين انسحابها منه، بسبب تحالف سيف بن ذي يزن الحميري مع الفرس.
وسادت اللغة الحميرية الشهيرة بلغة (جئز) لتكون هي لغة دولة الحبشة هذه، ومنها اشتقت اللغات الثلاثة: التجرايت، التجرنية، الأمهرية، وتعد التجرايت أقرب الثلاثة إلى اللغة الجئزية، ثم التجرنية، ثم الأمهرية.
ولأن الحميريين لا ينطقون العين، ويقلبونها همزة، يصح نطقها (جئز) كما يصح (جعز) ومنها جاء اسم (جأزان) المدينة الشهيرة، في جنوب المملكة العربية السعودية، وتخفيفا نطقت جيزان، أو جازان.
ويعني اسم (حبشت) التجمع، إذ تقول: تحبش القوم إذا تجمعوا، وهي مفردة مألوفة عند العرب، حتى يومنا هذا، فهناك الحِبْشِي، والحبيشي، والحبشان، والأحابيش، في حين يعني اسم (أحعز) الرحيل، وفي التجرايت يقولون: جَعَزَ، للفرد، وجَعَزَواْ، للجمع، كما يقولون: جيسا، وجيسوا، إذا مشى، ومشوا، وفي القرآن الكريم (وجاسوا خلال الديار) بمعنى ساروا، وتجولوا، وأيضا في التجرنية يسمون الرحيل (جِعْزُو).
وليس صحيحا أن هاتين القبيلتين تمثلهما الآن جهة بعينها؛ لكونهما اختلطتا وامتزجتا بالبجة، والأجو، وسائر القبائل الحامية، في مناطق العفر.
وإذا كان من جهة يحق لها احتكار الانتماء الأجعزي، بنسبة كبيرة، فهي القبائل البجاوية الناطقة بالتجرايت، وليس الجماعة الأكسومية التجرنيوية، والتجراوية، بحكم أن التجرايت أكثر اللغات قربا إلى الجئزية، أو الأجعزية، من التجرنية التي تأتي في الدرجة الثانية؛ لكثرة المفردات الحامية فيها، مقارنة بالتجرايت، لا بالأمهرية، وإن كان المستشرقون يذهبون إلى أن الناطقين بالتجرنية هم امتداد قبيلتي حبشت وأجعز، وهو أمر فيه نظر.
تقسيم الأجاعز حسب الانتماء إلى قبيلة أجعز ولهذا يمكننا تقسيم الأجاعز إلى قسمين، أو صنفين:
أجاعز أكسوميون وهم الناطقون بالتجرنية المقدسون كنيسة أكسوم، الموالون لها عقيدة
أجاعز غير أكسوميين، وهم الناطقون بالتجرايت، من القبائل البجاوية، و بالعفرية، والسيهاوية، من القبائل الإيفاتية.
وظلت العلاقة بين الأجاعز الأكسوميين، والأجاعز غير الأكسوميين، علاقة حرب لا سلم، منذ تأسست أكسوم، عام 60 أو 600 قبل الميلاد، إلى أن سقطت على يد البجة، عام 640م، تقريبا، حين ضعفت، إذ هجمت عليها القبائل البجاوية، بقيادة قبيلة البلو؛ لتتربع على عرشها، مدة ستة قرون إلى أن سقط حكم البجة بيد الأجو.
وحتى هذه اللحظة ما زال للقبائل البجاوية وجود، في أرض أكسوم، بما في ذلك الهضبة الإرترية، حيث حماسين، وسراي، وأكلي جزاي، و(جزاي) هذه، من (جعزاي) وهنالك منطقة في إثيوبيا تعرف بـ(بجة مدر).
الأجعزيانية واليهودية:
ولكن حركة الأجعزيان تلقي هذا التاريخ، من ذاكرتها كليا، وتزعم أن الأجعزيان ينحدرون من أصول وجذور يهودية، كما يدعي مؤسسها، وقائدها السيد تسفاظيون، حين يحدد هُوُيَّةَ الأكسوميين، بشكل عام، بما معناه: نحن من أصول يهودية، ننطق بالتجرنية، عقيدتنا أرثذوكسية (توهدو) أعداؤنا المسلمون، والكاثوليك.
ومصدر استقاء هذا الكلام هو القس (تخلي هيمانوت) أو (تكلي هيمانوت ) الذي حرر كتاب (كبري نجستي) في القرن الرابع عشر الميلادي، حسب كلام شيخ المستشرقين الألمان تيودور نولدكة (1836–1930م) في حين يقول غيره من المتخصصين في تاريخ الحبشة، كتبه في القرن الثالث عشر، أو السادس عشر.
وترجم الكتاب إلى العربية، تحت عنوان (جلال الملوك) المتخصص المصري في اللغة الجئزية، الدكتور مجدي عبد الرزاق سليمان، بمراجعة وتقديم محمد خليفة حسن، ونشره المجلس الأعلى للثقافة، المصري، عام 2002م.
وفي كتابه هذا يختلق القس تخلي هيمانوت فرية كبرى، يقول فيها: إن ملكة سبأ (نجستي سبأ) التي حكمت اليمن والحبشة معا، قدمت إلى سليمان، بعد أن أنذرها بخطاب منه، ولما حلت بداره، وأسدل الليل ستاره، وأوت إلى فراشها، اغتصبها سليمان، فحملت منه ابنا يدعى (منيليك) كبر تحت رعاية أمه التي عادت حاملة به، وعندما اشتد عوده، وقوي صلبه، أرسلت به إلى أبيه مع تاجر حبشي، ولما رآه سليمان بن داود (عليهما السلام) قال فرحا به ومستبشرا: هذا أبي داود عاد من جديد.
وكان منيليك شديد الشبه بداود، وإليه أسند سليمان حكم الحبشة، بأمر من الله، وله تنازلت أمه من عرشها، فصار له الملك وحده، يتوارثه أبناؤه من بعده، محرم على غيرهم، مدى الدهر.
ووفق هذه الأسطورة، يقول الأمهرى: فينا ومنا السلالة اليهودية الحاكمة، تعرف بالأسرة السليمانية، تبدأ من منيليك إلى هيلي سلاسي ونسله.
ومن هنا لقبت الكنيسة الأكسومية الامبراطور هيلي سلاسي بلقب ” المختار من الله، أسد يهوذا، ملك ملوك إثيوبيا، الامبراطور هيلي سلاسي ” وكان الامبراطور هيلي سلاسي يدعي أنه من نسل سليمان عليه السلام، وسلالته في الحبشة، ومن هذا المعتقد تصهين محالفا إسرائيل.
وللتجراي أسطورة مشابه لهذه الأسطورة نفسها، توردها الدكتورة بلقيس إبراهيم الحضراني، في كتابها (الملكة بلقيس التاريخ والأسطورة والرمز).
تزعم هذه الأسطورة كسابقتها أن الملكة (إزيب) ملكة تجراي، حملت من سليمان (عليه السلام) بتوأمين، حين اغتصبها بالطريقة نفسها، عندما أتت إليه تبحث عن دواء لقدميها اللذين تحولا إلى حافر حمار (قدم حمار) بسقوط قطرات دم أفعى كبيرة الحجم، قتلها القديسون وهي زاحفة لإلتهامها، يوم أسرها والدها الحاكم، بجذع شجرة كبيرة، جريا على ما اعتاد عليه الأحباش، من تقديم أجمل وأكبر بناتهم، لهذه الأفعى، وفاءا بنذر التزموه، عبادة لها، وقد وقعت القرعة عليها.
وعندما وضعتهما أرسلت بهما إلى أبيهما سليمان عليه السلام، فرأى في أحدهما النباهة والنجابة والذكاء الخارق، فأدناه منه، وقربه، وأجلسه إلى جانبه، على كرسي الحكم، ويدعى (منيليك) وأهمل الثاني وأبعده؛ بما رأى فيه الغباوة والسذاجة، وعجزا في الإدراك.
امتعض بنو إسرائيل من صنيع سليمان بابنه هذا، وطلبوا منه إبعاده ، فقال لهم سليمان: سأفعل، وأعيده إلى أمه بالحبشة، ما دمتم طلبتم ذلك، ولكن عليكم أن ترسلوا معه عددا من أبنائكم؛ ليرافقوه، ففعلوا، وسرق هؤلاء الأبناء تابوت بني إسرائيل، وأتوا به معهم إلى أكسوم، وبنوا فيها كنيسة القديسة مريم، وهرب الشيطان منها، ولن يدخلها، ما دام هذا التابوت فيها، ومن هذا الابن المدعو (منيليك) بن سليمان بن داود (عليهما السلام) من أم تجراوية، تدعى الملكة (إزيب) يتناسل حكام الحبشة، إثيوبيا اليوم، ولا يخرج الملك عنهم أبدا بأمر الله.
على هذه الأساطير بنى مؤسس حركة أجعزيان أكذوبته هذه، في ادعائه النسل اليهودي، وما كان سليمان عليه السلام زير نساء، ولا مغتصبهن، يزني بهن، ويفجر، عنوة، فهو نبي ابن نبي، ولده أبوه داود ــ عليهما السلام ـ من نكاح حلال، وأنجب نسله هو من نكاح حلال، والزنا جريمة في دينه، وما عدا ذلك كله من افتراءات اليهود، وتحريفاتهم.
وقد أجمع المؤرخون الغربيون، وغير الغربيين، على أن هذه القصص ما هي إلا أساطير وأكاذيب تروى، لا أساس لها من الصحة، لفقها القس تكلي هيماـنوت من عندياته، مقتبسا بعضها من الأساطير اليهودية، وناسجا بعضها الآخر من خياله؛ لأهداف سياسية.
من هؤلاء أستاذ الدراسات الشرقية، في جامعة لندن (SOAS) البروفسور إدوارد ألندروف يقول في مقابلة أجرتها معه عام 1992م، مجلة (لوس أنجلوس تايم) قبل وفاته عام 2011م: زرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كنيسة أكسوم، وبنفوذي الحكومي، دخلت عمق الكنيسة، حتى وصلت حيث التابوت المزعوم يوضع، وتبين لي أنه أكذوبة، لا علاقة له بتابوت بني إسرائيل أبدا، ووجدته في أكثر من كنيسة إثيوبية.
هذا النوع من النسيج الأسطوري، إنما هو وليد التنافس السياسي، بين العقليتين الأكسوميتين، في الحبشة، العقلية التجراوية، والعقلية الأمهراوية، إذ يود كل منهما أن يوهم الآخرين بتميزهما العرقي الوهمي، الذي حصلا عليه في زعمهما من الانتساب إلى سليمان عليه السلام، ولو على حساب تصوير هذا النبي العظيم بصورة رجل شهواني، يغافل النساء ويوقعهن في شراكه، ويواقعهن خلسة؛ ليفض بكارتهن اغتصابا، وبحيل وخداع وتصيد!.
ومع أن هذه القصة والتي سبقتها من الأساطير الخرافية، إلا أنها شكلت عقلية الأحباش في النظر إلى ملوكهم، وفي الخضوع لهؤلاء الملوك والتسليم لهم؛ ذلك أن الأساطير تفعل في الشعوب ما لا تفعله فيهم حقائق التاريخ، من هنا علق عليها الدنماركي جون بوخهلتسر في كتابه (أرض الوجوه السمراء) ترجمة رمزي ياسين، بقوله: ”لسنا بحاجة إلى القول بأن هذه الأسطورة بحذافيرها مشكوك في صحتها، ولكن بتردد القول دائما بأن الحاكم من أحفاد سليمان... ولأن اعتقاد الناس الراسخ، له قيمة أشد خطرا من صحة التاريخ، إنه ذو أهمية في مساندتهم للإمبراطور، وإنه ليضفي عليه في أذهان الناس منزلة لا يمكن أن تنال، وقيمة هذا تفوق كل تقدير“.
وحقيقة التاريخ فيما يتعلق بقبيلة (أجعز) هي ما سطرها المؤرخ الحميري اليمني الهمداني، في كتابه (الإكليل من أخبار اليمن وأنساب حمير) إذ قال: أجعز من يحصب.
وعقب محققه الأكوع قائلا: ومنها الشاعر حماد الأجعزي.
وبهذا لا علاقة لها باليهود أبدا، واختلط بها البجة، والأجو، وسائر القبائل الحامية، في مناطق العفر.
هذا هو التاريخ القديم، في بيان الجذور التاريخية لقبيلة أجعز، وحبشت، وتوضيح مصدر الأساطير التي استقى منها مؤسس أجعزيان أكذوبته، في ادعاء النسل اليهودي، وبهذا القدر نكتفي منه؛ لننتقل إلى التاريخ الحديث.
الأجعزيانية والتاريخ الحديث:
وفي التاريخ الحديث، جاء البرتغاليون، والعثمانيون، فكانت كل أرض البجة تحت حكم العثمانيين، ثم عقب خروجهم منها أخلوها للمصريين، شرق السودان، وساحل إرتريا، من باضع إلى السنحيت، والقاش، وبركة.
ثم جاء الإيطاليون، واستطاعوا بالتفاهم مع (سهلا ماريام) الشهير بـ(منيليك) رجل شوى القوي، بعد مقتل منافسه رجل تجراي القوي (نجوس كاسا) الشهير بـ(يوحانس) على يد المهديين، في معركة المتمة 9 مارس 1889م، أن يقتطعوا إقليم حماسين، وأكلي جوزاي، وسراي؛ ليكون جزءا من مستعمرتهم، مقابل أن يلتزموا عدم مساندة رأس منجشا بن الملك يوحانس، ورأس (ألولا) بأي نوع من أنواع المساندة، وفي الوقت نفسه توافق إيطاليا على اعتبار هرر التي غزاها الأحباش عام 1887م، جزءا من مملكة الحبشة، وتعترف بمنيليك ملكا على الحبشة كلها، تحت اسم (نجوسي نجستي) ملك الملوك.
وهكذا صار إقليم حماسين، وأكلي جوزاي، وسراي؛ مع جزء من أرض البجة، وحزء من أرض إيفات، المعروف بدنكاليا، مستعمرة إيطالية، أطلق عليها اسم (إرتريا) وتعني البحر الأحمر، وبهذا ظهرت إرتريا إلى الوجود.
وعندما خسر الإيطاليون الحرب عام 1941م، دخل الحلفاء إرتريا، لتصبح تحت الانتداب البريطاني، حتى عام 1952م، وفي هذا اللحظة من التاريخ ظهر حزب آندنت مناديا بضمها إلى إثيوبيا، كما ظهر حزب الرابطة الإسلامية مناديا باستقلالها، على حدود جغرافية المستعمر الإيطالي، وحزب ثالث نادى بدولة تجراي تجرنيا، وآخر طالب بالتقسيم، منحازا إلى طرح البريطانيين، حيث اقترحوا إلحاق غرب إرتريا وساحلها الشمالي والشرقي إلى السودان، أو إقامة دولة (البجة الكبرى) التي أعلن عنها، من إرتريا، عام 1949م،سكرتير البريطانيين في السودان (دوجلاس نيوبولد) والتي وقفت مصر ضدها، على حد قول أبو القاسم حاج حمد.
وضمن عملية معقدة من التحالفات الداخلية والخارجية، نجح الامبراطور هيلي سلاسي في ضم إرتريا إلى إثيوبيا نهائيا، بعد فترة قصيرة، من الارتباط الفيدرالي، أعقبها إعلان الكفاح المسلح عام 1961م، باسم جبهة تحرير إرتريا.
امتد الكفاح المسلح حتى ظهر مفعوله القوي، في تدمير إمبراطورية هيلي سلاسي، اقتصاديا حتى إسقاط عرشه، عام 1974م، بانقلاب عسكري، قاده ضباط في الجيش الإثيوبي، بقيادة الجنرال أمان عندوم، الذي قتل هو الآخر في العام نفسه، ليأتي الجنرال تفري بانتي بعده، ثم بعد قتل تفري؛ ليخلص الأمر للكونيل منجستو هيلي ماريام الذي أنهار حكمه عام 1991م، بسقوط الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة، ودخول الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، عاصمة إرتريا أسمرا، حيث جرى استفتاء الشعب الإرتري، في تقرير مصيره، أدى إلى استقلال إرتريا رسميا، عام 1993م.
ومنذ ذلك الحين فرض إسياس أفورقي إرادته الدكتاتورية الشيفونية، على المجتمع الإرتري، ورفض أي نوع من الحوار الوطني، ما دام هذا الحوار ينتهي بالبلاد إلى دولة مدنية.
وأدى هذا بدوره إلى انقسام الشعب الإرتري، وضمن هذا الانقسام، وفي هذا الجو من الغموض في مستقبل إرتريا، ولدت حركة أكسومية شيفونية، عرفت بـ(الأجعزيان) تنادي بإلغاء إرتريا كليا؛ لتكون جزء لا يتجزأ من دولة أكسومية في المنطقة، يحكمها الناطقون بالتجرنية، تضع الآخرين بين خيارين أحلاهما مر، الخضوع لحكم التجرنية، أو اللجوء والخروج إلى دول الجوار، وعالم الشتات والتشرد.
الأجعزيانية والأجعزيان:
وعند حديثنا عن هذه الحركة، يجب أن نفرق بين مصطلح (الأجعزيانية) ومصطلح (الأجعزيان) ذلك أن مصطلح (الأجعزيان) هو اسم لتنظيم قومي أكسومي، ينادي بإلغاء إرتريا؛ لصالح كيان دولة تجراي تجرنيا، بينما مصطلح (الأجعزيانية) هو وصف لفكرة تؤمن بضرورة سيطرة الأكسوميين التجراويين، في إثيوبيا، أو التجرنيويين، في إرتريا، على مقاليد السلطة والثروة.
وبمقتضى هذا التفريق، ليس بالضرورة أن يكون كل حملة (الأجعزيانية) أعضاء في تنظيم (الأجعزيان) أيضا ليس بالضرورة أن تعبر (الأجعزيانية) عن ذاتها، على النحو الذي عبر به تنظيم (الأجعزيان) عنها، وإنما تتلون بما يناسب البيئة السياسية الحاكمة، تتشكل وفق المعطيات السياسية المحيطة بها، متدرجة في تحقيق أهدافها، وقد تكون أكسوم الكبرى، بسيادة تجراي تجرنيا، نقطة السيادة العليا التي تنشدها وترمي إليها.
كذلك ليس بالضرورة أن يكون جميع الأجاعز الأكسوميين التجراويين، أو التجرنيويين، من حملة (الأجعزيانية) أو أعضاء في تنظيم الأجعزيان، ومناصرين له، ولكن في الوقت ذاته من الضروري أن يكون كل (الأجعزيان) حملة (الأجعزيانية) باعتبارها فكرة غايتها الأولى والنهائية السيطرة والهيمنة.
ومن هنا يخطئ من يعتقد أن الأجعزيانية هي حالة شاذة من التطرف الشيفوني، عند الأكسوميين، التجراويين أو التجرنيويين، تتجسد فقط في هذا الكيان الذي ظهر باسمها حاليا، بل هي (فكرة) تسلطية، عميقة الأصول والجذور، في الثقافة الأكسومية، وتاريخها السياسي، تعاني من رَهابِ المحيط المغاير، ومن عدم الثقة فيه، ومن فقدان قابلية التعايش معه، في حالة من التوافق الوطني، والمصلحي، وهو ما يجعلها تلجأ إلى شتى دروب المراوغات، والمخادعات، والخيانات.
وما هذا الكيان الحامل اسمها علنا، والمتحدث حاليا بنهجها السياسي، إلا مظهر من مظاهر تمثلاتها وتجسداتها، في أعلى درجات تطرفها الشيفوني.
ولا غرابة إذا ما سمعنا إدانات الأكسومية التجرنيوية، أو التجراوية، تتوالى عليه وتتعاقب، مع أن روح الفكرة وغايتها التسلطية، يعتنقها عدد لا يستهان بهم من حملة الثقافة الأكسومية، ويعملون لها تحت عناوين مختلفة.
هذه هي الأجعزيانية في حقيقتها، وهكذا يجب أن نفهمها، ونعرفَها على أنها فكرة تسلطية، يعبر عنها حملتها بأكثر من وسيلة تسلطية، ومهما اختلفت هذه الوسائل، فالجامع بينها هو التسلط والهيمنة.
وبغير هذا التعريف ربما لدغنا من جحرها أكثر من مرة، ولبيان ذلك يلزم تتبع مسارها في تاريخ القضية الإرترية، على النحو التالي:-
الأجعزيانية والقضية الإرترية:
وبقليل من التأمل والتتبع لمسار (الأجعزيانية) في تاريخ القضية الارترية، نجد لها حضورا قويا، وقدرة في التسلل وقلب المعادلات، رأسا على عقب؛ لصالح الهيمنة الأكسومية، كليا أو جزئيا، ويتضح لنا هذا من خلال ما يلي:
في فترة تقرير المصير اخترقت (الأجعزيانية) تجمع حب الوطن (فقري هجر) وخانت مبدأ استقلال إرتريا، بمجرد أن شعرت أن ذلك يتنافى مع هيمنتها على السلطة والثروة، انطلاقا من عدم ثقتها في المغاير المساكن، في دولة إرتريا، وانقسمت في طرحها السياسي بمستقبل إرتريا إلى اتجاهين هما:
اتجاه ينادي بضم إرتريا إلى كل إثيوبيا، ممثلا في حزب آندنت، بقيادة تلاباريو، وقد حقق هدفه.
اتجاه ينادي بدولة تجراي تجرنيا، تضم كل إرتريا، وكان ولدآب ولد ماريام، من أبرز قادته، إلا أنه أخفق، وفضل العمل ضمن مشروع الثورة الإرترية، تحت شعار تحرير إرتريا.
في فترة الكفاح المسلح تميزت (الأجعزيانية) تحت قيادة إسياس أفورقي، بتنظيم خاص بها، يدعى (سلف ناطنت) محتجة بأن جبهة تحرير إرتريا، اضطهدت المسيحيين الناطقين بالتجرنية، وأفصحت عن ذلك من خلال وثيقة وجهتها إلى الناطقين بالتجرنية خصيصا، حملت عنوان (نحنان علامانن) بلغة التجرنية، (نحن وأهدافنا) باللغة العربية، وعملت ضمن تحالف مع الشيوعيين، في الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، ضد جبهة تحرير إرتريا حتى أخرجتها من الساحة عام 1981م.
فيما بعد الاستقلال الرسمي عام 1993م، تمكنت (الأجعزيانية) بقيادة إسياس أفورقي، من السيطرة الكاملة على السلطة والثروة، في دولة إرتريا، ومن التخلص من الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، ومن الحزب الشيوعي الذي قادها، بالاغتيال والاعتقال، والتهميش.
وبهذا ندرك أن إرتريا بوضعها الراهن، تعيش اليوم حكم (الأجعزيانية) الأكسومية التجرنيوية، وتحت نير تسلطها هذا، عجزت إرتريا اليوم من أن تصبح دولة المواطنة المتساوية، بكل ما يترتب عليها من حقوق وواجبات، عالية الشأن، شامخة الرأس، بين دول المنطقة، مزدهرة في نموها الاقتصادي، متصالحة مع شعبها، تحكمها مؤسسات دستورية، من برلمان منتخب، وقضاء مستقل، وصحافة حرة، في فضاء ديمقراطي.
وكون نمط الحكم في أسمرا، فردي دكتاتوري، تسيره إرادة شخص واحد، هو إسياس أفورقي، لا ينفي عنه صفة (الأجعزيانية) لأن الدكتاتورية، والفردانية من أخص خصائص الأجعزيانية، إذ لا أجعزيانية من غير دكتاتورية، فهي في الأصل نقيض الديمقراطية، وحيث تكون الديمقراطية تتلاشى (الأجعزيانية) من هنا قال إسياس أفورقي: من أراد الديمقراطية فليصعد إلى السماء.
زحف الأجعزيان وزحف الأجعزيانية:
وعندما ينادي تنظيم (أجعزيان) على لسان مؤسسه تسفاظيون، بالزحف الهادر، من فوق جبال أكسوم في تجراي، إلى حيث أرض البجة في المنخفضات، والإيفاتيين في دنكاليا، إنما يجسد بندائه هذا (الأجعزيانية) في أسوء صورها المتطرفة الصارخة المستفزة، بينما نرى الزحف نفسه تحقق من قبل، وما زال يتحقق حتى اللحظة، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:-
أولا: الزحف من خلال التحالف مع المستعمر: وقد حدث هذا عقب احتلال إثيوبيا إرتريا، بدعم من الأمريكان والصهاينة، وخلال هذا الزحف أبيدت الأنفس البجاوية، والإيفاتية، وأزهقت ثروتهم الحيوانية، وحدث لهم التشرد، واللجوء إلى السودان، إلا أن مقاومة جبهة تحرير إرتريا وقفت عائقا في طريق نجاحه الكلي.
ثانيا: الزحف من خلال المشروع الوطني التحرري: وكان أول نداء لهذا الزحف، ذلك النداء الذي وجهه إسياس أفورقي، إلى الأكسوميين التجرنيويين، عبر وثيقة كتبها لهذا الشأن، وتنظيم أنشأه، عرفت الوثيقة بعنوان (نحنان علامانن) بالتجرنية، (نحن وأهدافنا) بالعربية، بينما حمل التنظيم اسم (سلف ناطنت) تنظيم الحرية.
وعبر هذا الزحف تمكن إسياس أفورقي من (أكسمة) الثورة، ثقافة، وقيادة، حين سيطر كليا على قوات التحرير الشعبية، بعد تحويلها إلى الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، متحالفا مع الشيوعيين، في حزب الشعب الثوري، كما تمكن من القضاء على فاعلية جبهة تحرير إرتريا العسكرية، وشل قدرتها النضالية، بإدخالها السودان، عام 1981م، مستعينا بقوات من الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، ومستفيدا من رغبة الحزب الشيوعي المسيطر على الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا.
ثالثا: زحف ما بعد الاستقلال وإعلان الدولة الإرترية: وجاء هذا الزحف مكملا، ومبنيا على الزحف الثاني، حيث لا قوة عسكرية تبطله، كما أبطلت الزحف الأول الاستعماري، فجبهة تحرير إرتريا ضرب وجودها العسكري، على نحو ما ذكرت، وحيل بين عودة اللاجئين إلى قراهم، بحجج واهية؛ ليسكنها قوم آخرون، سماهم المناضل المنشق عن النظام أحمد القيسي فقراء التجرنية، واصفا إستيطانهم هذا، واستيلاءهم، بالفتنة الكبرى، في لقاء له مع وكالة زاجل للأنباء.
التعليقات
السلام عليكم يا دكتور
خليك متخصص في الفقه ما تهدرب
ما علاقة الساهو والعفر الكوشيين بالإحباش التيجري والتيجرينيه والأمهرا أفيق يا دكتور لسنا سذج