مراجعات الحركة الإسلامية الارترية بين القطعيات والظنيات
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح - لندن المملكة المتحدة نقلا من مجموعة: حوار لوعي مشترك - واتس آب
يجمع العقلاء، أن الحياة (حركة ومراجعة الحركة).
ومتى فقدت الحياة هذه الخاصية، صارت موتا وسكونا، فالموتى وحدهم، بلا حركة، ولامراجعة الحركة.
ومن هنا فإن ارتباط مفهوم (الحركية) بمفهوم (المراجعة) هو ارتباط وثيق، إلى حد يستحيل معه، تخيل (مراجعة) من غير (حركية) ولا حركية، من غير مراجعة.
و مصطلح (المراجعة) نفسه، هو على وزن (مفاعلة) يفيد التفاعل، الثنائي، أو الثلاثي، أو أكثر، وهذه هي الحركية.
وهو في أصله اللغوي، من الفعل (رَجَعَ) بمعنى، عاد، وآب، وأناب.
وقد يكون هذا الرجوع من (الارتفاع) إلى (الانخفاض) نزولا، أو العكس، صعودا.
وحتى على المستوى الذاتي، هو تفاعل (الذات) مع (الذات) محاسبة، وملاومة (النفس اللوامة).
وتُعَبِّرُ (التوبة) في الإسلام، عن مراجعة الذات، ومحاسبتها، بهدف الاستقامة على الخط، وقد تكون توبة فردية، أو جماعية (توبوا إلى بارئكم) وكذلك المراجعة.
ومن هذا الفهم (للمراجعة) يكون (الرجوع) وهو ما يحدد لنا الغاية من المراجعة، وإلا تفقد جدواها، ومعناها الحقيقي، وتكون مجرد ترف فكري، أو تضليل سياسي، إن لم تنتج رجوعا.
لذا لابد أن تتجسد ثمرة المراجعة، في الميدان العملي، يراه الناس حقيقة، رأي العين المجردة، ويلمسونه بأيديهم.
وعندها فقط تعود المراجعة إلى الحركة بالفائدة المرجوة، سواء في علاقتها بالناس، من حيث كسب ثقتهم، أو في علاقتها بعضويتها، من حيث إثبات شخصيتهم الريادية، تخلصهم من (الإمَّعِيَّةِ) بالنقد، والتصحيح، وتوسع مداركهم الفكرية بالعطاء والابداع.
وحتى في علاقتها بخصومها ومنافسيها، تنال احترامهم، واطمئنانهم.
وهذه (المراجعة) وما تثمره من (الرجوع) بفوائده تلك، إن لم تكن متوازنة بضوابط (المرجعية) تكون سقوطا.
ومن ثم لا تجري المراجعة، إلا في حدود (المرجعية) بمراعاة ضوابطها.
ومعلوم أنه ما من مرجعية، إلا ولها (قَطْعِيَّاتُهَا) و(ظَنِّيَِاتُهَا) وهو ما نجده في الإسلام، مرجع (الحركة الإسلامية الارترية) بكل فصائلها، وإلى هنا يبدو الأمر سهلا.
ولكن أكبر عامل معطل، أو معيق للمراجعة، أو مشوش عليها، تواجهه (الحركات الإسلامية) بشكل عام، هو في نظري التعاطي مع (المرجعية) نفسها، عند المراجعة.
هنا المحك، وهنا يكون التفسيق، والتبديع، والتكفير، بعد الافتراق والانشقاق.
فمع الاتفاق الكلي، على مرجعية (الكتاب) و (السنة) هناك اختلاف، في منهجية تأويل الكتاب والسنة.
فمنهم، من يرى تقييد ذلك، بعبارة (على ضوء فهم السلف الصالح).
وهو قيد مشكل، يتولد عنه سؤال، هو: من المعبر عن فهم السلف الصالح في هذه القضية أو تلك.
وبهذا ندخل في إشكالية أكثر تعقيدا، في العمل الحركي الاسلامي، وهي إشكالية (ولاية الفقيه) التي يعاني منها (الشيعة) و (السنة) معا، على المستوى العام.
وكم أقعدت هذه العبارة للأسف حركة الجهاد الإسلامي الارتري، عن المراجعة الجادة، والتقدم نحو الأمام.
كلما خطت خطوة متقدمة، يكون بشق الأنفس، أو إذا أرادت قيل لها: هل لنا من سلف صالح، فيما نحن إليه مقدمون.
وعلى هذه القناعة، يرى فريق من الناس، في كل اجتهاد، لايروق له هو شخصيا، مروقا عن فهم (السلف الصالح).
وتغشه في ذلك عبارة (لا اجتهاد مع النص) ناسيا أن لا اجتهاد مع النص، في فهم دلالته القطعية، ظنيا كان في ثبوته، أم قطعيا.
ولكن لابد من الاجتهاد في إنزال هذه الدلالة القطعية، على الواقع، فردا، وجماعة، حربا، وسلما، مجاعة، ورخاءا.
والسلف الصالح، لا علاقة لهم بهذا الواقع القطري.
فهم سلف، كانوا صالحين أم طالحين، ونحن خلف مبتلون بهذا الواقع، صالحين كنا أم طالحين، ومطالبون بالاجتهاد في معالجة مشكلاته، وهذا هو حقيقة التدين.
إذن هنالك مشكلة كبيرة في التعامل مع المرجعية عند المراجعة، وهو أمر يحتاج في حد ذاته إلى المراجعة.
وفي مراجعاتي - أنا شخصيا - أرى ضرورة التخلص من هذه العبارة، وحصر المرجعية، في المراجعة، على (الكتاب) و (السنة) فقط.
على ضوء فقه الواقع القطري، لا على ضوء (فهم السلف الصالح) التاريخي، ولا على فقه الواقع الأممي، في كل الأحوال.
فأحيانا يكون فقه الواقع الأمي شرطا في فقه الواقع القطري، ليكون القرار السياسي أكثر تحقيقا للمصلحة، أو درءا للمفسدة.
وتكون علاقتنا بالسلف استئناسا، لا التزاما.
ووصل الكتاب والسنة بهذا الواقع، (إعمالا) و(إحجاما).
ونبني علاقتنا بالسلف على الترضي والترحم، في صلتنا الروحية بهم، أما علاقتنا السياسية فنبنيها على فقه الواقع، وعلى ضوء فقه هذا الواقع، نتعامل مع الكتاب والسنة، إنزالا وتعطيلا.
وبهذه المنهجية فقط تعمل الحركة الإسلامية الارترية، مراجعتها الحركية، وممارساتها اليومية، في دورة يُتَوَافَقُ عليها، عاما بعد عام، أو شهرا بعد شهر، وليس بعد كل نكبة، أو محنة، لأن المراجعة، هي حالة من السيرورة الحركية، المستمرة، غير المنقطعة، تتأسس على النقد والنقد الذاتي.
وبهذا المعنى تشمل المراجعات (القطعيات) و(الظنيات) من المسلمات الحركية، والفكرية، ومن نصوص الكتاب والسنة، ولا تقتصر على (الظنيات) فحسب.
كل ذلك موصولا بفقه الواقع، موصولا بفقه النص، المحكوم هو الآخر بالواقع، لا (بفهم السلف الصالح).
من حيث الانزال، عجزا واستطاعة، ومن حيث الأوليات، تقديما وتأخيرا، ومن حيث التنازلات والتشبثات، مصلحة ومفسدة.
ولابد أن نحدد هنا موضوع (المراجعة) ونطاقه الفعلي.
وهذا بدوره، ينبني على تعريف الحركة الإسلامية.
وفي فهمي أنها حركة سياسية، بمعنى لا دعوية.
ويترتب على هذا التعريف، أمران هما:-
أولا: حصر نشاط الحركة الإسلامية، في المجال السياسي.
ثانيا: التوافق على أن السياسة مبناها على المصلحة، والموازنات، لا على الفتيا.
وعلى أساس من هذا الفقة، تنحصر مراجعات الحركة الاسلامية، فيما يرتقي بعطائها السياسي فقط، في نطاق تحقيق المصلحة وتعظيمها، ودرء المفسدة، وتقليلها.
ولا تعنيها أبدا المراجعات العقيدية، تصحيحا وتعليما، ولا الفقهية، افتاءا، واستنباطا.
فهذا من اختصاصات (رابطة علماء إرتريا) ومؤسساتها الدعوية، والإفتائية.
وعليه أطرح العناوين الآتية، لتكون موضوع المراجعة ومادتها.
أولا: مراجعة في تحديد المفاهيم، والمصطلحات، من نحو (أهل السنة والجماعة)، (المسيحيون) (العلمانيون).
وبشيء من التفصيل في هذا، أقول: إن بعض المصطلحات، في التراث الإسلامي، هي ذات مداليل سياسية، لا تعبدية، أظهرتها السياسة، وأوجبتها السياسة، من نحو مصطلح (أهل السنة والجماعة).
والمقصود (بالسنة) هنا السنة السياسية، لا السنة الشعائرية.
وكذلك (الجماعة) المقصود بها الجماعة السياسية، لا الجماعة العقدية.
وبهذا تشمل - أعني الجماعة السياسية بخلاف العقيدية - الكافر، والبدعي، والسني، والعلماني، لأنها في الأصل جماعة تعاونية، تآزرية، جميعهم يتجادلون بالتي هي أحسن، في ظل الجماعة السياسية، وسنتها.
ومن ثم يترتب على هذه المراجعة، فتح الحركة الاسلامية، لتكون إطارا عاما، لكل من يؤمن ببرنامجها السياسي، لا بعقيدتها الدينية، مسلما كان، أم مسيحيا، أم وثنيا، أم علمانيا، يقوم التعاهد فيها، على أساس تحقيق المصلحة المشتركة، ومشروع سياسي، يؤمن به المتعاهدون، ويتحالفون عليه، فهو عقيدتهم الجامعة، في إطار القطر الارتري.
وهذا من جانبه يعني صياغة فلسفة جديدة مؤصلة شىرعا، تنتقل بالحركة هذا الانتقال، اسما، ومضمونا، تعاملا مع الحال القطرية أولا، والإقليمية والدولية ثانيا.
ثانيا - مراجعة بتعريف الذات:
وفي سياق هذا الطرح، في الفقرة الأولى أعلاه، يأتي أول ما يأتي مراجعة تعريف الذات، على نحو يمحو نظرة المجتمع إليها، بأنها مجرد امتداد لمدارس فكرية، من خارج القطر، (أخوان) (أنصار سنة) ولا علاقة لها بهموم المجتمع، ومشكلاته الحقيقية.
وعلى نحو يعيد أيضا النظر في كثرة فصائلها، كل فصيل لا يختلف عن الآخر، فيما كتب من وثائق، وفيما ينتمي من مدرسة، ولكن هو على خلاف معه، فلماذا ؟.
هل من مراجعة لهذه الحالة غير الصحية، والتي ينتظر المسلمون بالذات تبريرها تبريرا مقنعا ؟.
ثالثا - مراجعة بنقد الذات:
ولا أظنني أجد مخالفة، إذا ما قلت: إن نقد الذات، هو أول الإرادات، في إجراء المراجعات.
أعني (بنقد الذات) مراجعة ما أسلفت، من عمل، تمثل في (حركة الجهاد الإسلامي) بكل ما ترتب عليه، من مصالح ومفاسد، وما انتهى إليه من نهايات.
ونتيجة هذه المراجعة، تكون الاعتذار إلى الشعب الارتري المسلم بالذات، الذي عاهدناه، لننهض به من كبوته، وبايعنا على ذلك، ووقف معنا، فرحا، مستبشرا، ثم خذلناه حين انتكسنا إلى أطرنا الضيقة، فخذلناه، وأحرجناه، وأصبناه بالإحباط، حتى فقد الأمل واستسلم للعدو.
كلنا نتحمل هذه الجريرة، وكلنا - بدون استثناء - ارتكبنا هذه الجناية.
وبصفتي أنا واحد من هذا الصف الجاني، أدعو، من هذا المنبر التحاوري، إلى ما يلي:-
١) إصدار بيان اعتذار، للشعب الارتري المسلم بالدرجة الأولى، يحمل توقيعاتنا.
فهل من مراجعة جريئة في هذا ؟.
٢) كتابة وثيقة تفاهم في الكف عن التلاوم فيما مضى، بعد الاعتذار إلى الشعب الارتري، عبر ذلك البيان.
وفهم التاريخ على أنه موعظة واعتبار، وعفو ومسامحة، وليس مناحة (كربلائية) لطم، وبكاء، ثأر وانتقام.
فهل من إقدام إلى هذه المراجعة، في إطار الحركة الإسلامية الارترية ؟.
٣) لقد كان الخطاب الهائج الذي صحنا به، والاسم المخيف الذي سمينا به حركتنا (الجهاد) مرعبا ومخيفا، لمن ليس على ديننا - مهما كانت مبرراتنا - ذكرته، بحرب الإمام أحمد جران، ضد أباطرة الأكسوميين، وتدخل البرتغاليين، والعثمانيين، كما ذكرته بحروب الخليفة التعايشي، وقتل يوهانس الأكسومي، في المتمة، واستغله خصمنا في الإساءة إلى إسلامنا، وشعبنا، بكل مكوناته.
هل من مراجعة في هذا بنقد الذات، وصياغة خطاب يتضمن هذا النقد، ودعوة الطرف الأكسومي بالذات من المسيحيين الارتريين، لتدارس تعقيدات الوضع الحالي، وما ينطوي عليه من أخطار تهدد الوحدة الوطنية، والتعايش السلمي.
وفي ختام هذه المداخلة، لابد من الشكر الجزيل، والتقدير الكبير، والإكبار العظيم، للأخت سلوى دنكلاي، حفظها الله ورعاها، التي اقتحمت العقبة، وفكت الرقبة، فألقت الحجر على المياه الراكدة، مستثيرة الذاكرة، ومستفزة العقل، فلها مني الاحترام الجليل.
ثم للأخ الأستاذ علي محمد محمود الذي أبان في مداخلته الصوتية، مصطلح الحركة الاسلامية، كيف جاء إلى العمل السياسي الإسلامي الارتري.
وهذا ما كنت أجله، والآن تعلمته، فله مني كل الشكر، وعظيم الاحترام.
و للدكتور حسن سلمان، على مداخلته الصوتية العامرة، بكثير من الإضافات، والإفادات.
والشكر أيضا لهادي الركب، وحاديه، الأخ أبو ناصر صلاح الدين، ولكل الإخوة، والأخوات، المساهمين، والمساهمات، والصامتين، والصامتات.