اَلْاِلْتِقَاْءُ اَلْإِثْيُوْبْيُّ اَلْإِرِيْتْرِيْ: قِرَاْءَةٌ مُغَاْيِرَة
بقلم الدكتور: فيصل عوض حسن المصدر: صحيفة التغيير
حينما أَعْلَنَ وزيرُ الخارجيَّةِ الإثيوبي بحضور نظيره الإريتري في أديس أبابا، يوم 27 يونيو الماضي، عن لقاءٍ قريبٍ
يجمعُ رئيس وُزرائهم برئيس إريتريا، لم نتوقَّع أن تسير الأحداث بهذا النحو الدراماتيكي المُتسارع، الذي انتهى بتوقيع اتِّفاقيَّة ثُنائيَّة تُوقِف الصراع المُمتد بين الدَّولتين، خلال الزيارة الرسميَّة الأُولى والمُفاجئة لرئيس وُزراء إثيوبي إلى أسمرا، عقب قطيعة لنحو عقدين من الزمان، حيث التزمت إثيوبيا بالخطَّة الأفريقيَّة الأُمميَّة لاتِّفاقيَّة الجزائر عام 2000، وعلى رأسها الانسحاب من مُثلَّث بادمي الإريتري، كما التزمت بترسيم حدودها مع إريتريا، وإعادة فتح السفارات والموانئ والمجال الجوي والاتصالات بين البلدين.
عقب ذلك بأيامٍ قليلة، زَارَ الرئيس الإريتري أديس أبابا، وتَعَهَّدَ بتسوية الخلافات مع إثيوبيا وعَدَمَ السَمَاح بإعاقة السلام، مُؤكِّداً بأنَّهم أصبحوا شعباً واحد، في ما أَكَّدَ رئيس الوُزراء الإثيوبي رغبتهم بتعزيز قيم التسامح، وفتح صفحة جديدة من الوحدة والتنمية، تُتيح المُشاركة في ميناء (عصب) الإريتري ! وبالطبع، دَارَ جَدَلٌ دَوليٌ وإقليميٌ واسع، حول هذا التقارُب المُفاجئ، وجُزءٌ كبيرٌ من التحليلات عَزَاه لشخصيَّة (كاريزما) رئيس الوُزراء الإثيوبي، وبعضهم أرجعه لحاجة الدَّولتين (الدَّاخليَّة) لترشيد الإنفاق العسكري وتسخيره للتنمية، خاصَّةً إثيوبيا السَّاعية لاستكمال سدّ النهضة بجانب حاجتها للمنافذ البحريَّة. وهناك من أَرْجَعَ الاتِّفاق، لِمَا يُسمَّى سياسة المحاور التي تنتظم المنطقة، بما في ذلك حرب اليمن والأزمة الخليجيَّة وتداعياتهما المُتزايدة والمُمتدَّة، لا سيما الاستقطاب الشديد المُستند للاعتبارات الأيدولوجيَّة والأمنيَّة.
بالنسبة للذين عَزُوا الاتِّفاق (الوِلِيدْ) لطبيعة شخصيَّة/كاريزما رئيس الوُزراء الإثيوبي، نقول أنَّ الإدارة العامَّة (الدولة) أو الدَّوليَّة الرَّصينة لا تعتمد على الأشخاص، مهما بلغت قدراتهم/مهاراتهم، لأنَّها أمورٌ (مُؤسَّسيَّة) تحتاجُ لحساباتٍ دقيقةٍ وحَسَّاسة، لا تتوفَّر إلا في العمل الجماعي وروح الفريق، وحتَّى لو نجح البعض (وهي حالاتٌ نادرة)، فسيكون نجاحه محدوداً ومنقوص. بخلاف (تَعَقُّد/تَجَذُّر) الصِّراع بين الدَّولتين وتَزَايُدَه، وآخره اتِّهام إريتريا للسُّودان وإثيوبيا وقطر بدعم مُعارضتها، والاتِّهامات الإثيوبيَّة لإريتريا بمُحاولة اغتيال رئيس وُزرائهم، فهو صراعٌ يصعُب تَجَاوُزه بمُجرَّد زيارة واحدة، ويحتاجُ لجولاتٍ حُوَارِيَّةٍ/تَفَاوُضِيَّة مُتتابعة ومُعقَّدة، ودونكم اتِّفاقيَّة الجزائر المُوقَّعة فعلياً بين البلدين منذ عام 2000، ومع ذلك استمرَّ الصراع وفُقِدَت أرواحٌ عديدةٌ من الطرفين! وتزدادُ الحالةُ تعقيداً، بسيطرة قوميَّة التيقراي وسُطوتها الكبيرة بإثيوبيا، وهي قوميَّةٌ لا تتجاوز 6% من السُكَّان، لكنَّها قُوَّةٌ لا يُسْتَهَانُ بها وتُشَكِّلْ (دَّولة عميقة)، ومصالحهم مُتجذِّرة وسيُناهضون برامج رئيس الوُزراء (المُنتمي لقوميَّةٍ أُخرى) إذا تقاطعت معها، ومن أبرز التقاطُعات الحاليَّة مُعارضة التيقراي الشديدة لعودة بادمي للسيادة الإريتريَّة، في مُقابل تَشَدُّد إريتريا على استردادها وفقاً لمُقرَّرات اتفاقيَّة الجزائر، مما يُعَقِّد موقف رئيس الوُزراء الإثيوبي الشاب! ولنسترجع استجواب البرلمان الإثيوبي الذي كانت تُسيطر عليه التيقراي، لرئيس الوُزراء السابق (ديسالين) المُنتمي لذات القوميَّة، لمُجرَّد (مُناقشته) ترسيم الحدود مع السُّودان، حيث أنكر الأمر برُمَّته وتَعَهَّدَ بأنَّه لم ولن يُناقشه، إلا بعد (مُوافقة) الشعب والبرلمان على كافَّة تفاصيله! ولم يَكْتَفِ التيقراي بذلك، وإنَّما أوعزوا لعددٍ من الأحزاب ومُنظَّمات المُجتمع المدني، لتقديم مُذكَّرة دوليَّة للأُمَم المُتَّحدة، (حَذَّروا) فيها من (التنازُل) عن أي أرضٍ للسُّودان (حسب زعمهم) باعتبارها أراضٍ (إثيوبيَّة)، ونَشَرتُ هذه المُذكِّرة في مقالةٍ تفصيليَّةٍ وقتها، وطالبتُ الكيانات والقانونيين السُّودانيين بأن يحذوا حذوهم، وللأسف لم يستجيبوا حتَّى تاريخه! وهي مُعطياتٌ تُؤكِّد قُوَّة التيقراي وسُطْوَتهم من جهة، و(تَدْحَضْ) فَرضِيَّة استفراد رئيس وُزراء إثيوبيا بالقرار من جهةٍ ثانية، رغم (شخصيَّته/كاريزمته) التي تسلب ألباب وأفئدة البعض !
وبالنسبة للرأي القائل بحاجة إثيوبيا المَاسَّة لميناء (عصب) الإريتري، هي التي دفعتها للإسراع بهذه الاتِّفاقيَّة، فبجانب ما ذكرناه أعلاه، نقول بأنَّ هذا الأمر غير مُجدٍ (اقتصادياً) لإثيوبيا، لأنَّها تستخدم فعلياً موانئ جيبوتي وبورتسودان، ونَفَّذت عدداً من المشروعات المُساندة، لتسهيل عبور/نقل مُتطلَّباتها (مِنْ وإلى) تلك الموانئ، كخط السِكَّة حديد (السريع) الذي احتفوا بإنشائه مُؤخَّراً مع جيبوتي، فضلاً عَمَّا أعلنه المُتأسلمون (عقب عودة البشير من الصين عام 2015) بشأن إنشاء خط سِكَّة حديد يعمل إلكترونياً/الألياف الضوئية، و26 محطة وثلاث ورش للصيانة، بجانب الطريق البَرِّي الذي أعلنوا قبل أيَّام، وهذه مُعطياتٌ اقتصاديُّةٌ (إنْ صَحَّت)، تفرض على إثيوبيا تَفَاهُمَاتٍ/إجراءاتٍ (مُكلِّفة)، لتهيئة وإسناد الطريق (مِنْ وإلى) ميناء عصب. وإثيوبيا تحتاجُ لهذه التكاليف في جوانبٍ أُخرى، لأنَّ اقتصادها يُواجه تحدِّياتٍ كبيرةٍ تفوق مُعدَّلات نموها المُرتفعة، بإقرار الإثيوبيين أنفسهم وعلى رأسهم رئيس وُزرائهم الشاب. فإثيوبيا تُعاني من التضخُّم، ونقص العُملات الأجنبيَّة وارتفاع أسعار صرفها، نتيجة لعدم نمو تجارتها الدَّوليَّة بالمُستويات المطلوبة، فضلاً عن زيادة أعباء ديونها الخارجيَّة، والتفاوُت بين الإدِّخار والاستثمار المحلي، وهي في مُجملها تحدِّياتٌ تُؤكِّد عدم (قُدرتها) على تحمُّل تكاليف استخدامها لميناء عصب، خاصةً وأنَّ لديها ميناءَي جيبوتي وبورتسودان، بجانب الميناء الذي تعتزم إقامته في السُّودان، وكتبنا عنه مقالاً تفصيلياً في حينه! وأمَّا سَدُّ النهضة، فقد أعلنت إثيوبيا مراراً وتكراراً أنَّها (وَفَّرت) تكاليف بنائه، الذي اكتمل بنسبة 65%، بخلاف دعم أبوظبي الأخير للاقتصاد الإثيوبي بـ(3 مليارات دولار) !
لم يعد أمامنا من سببٍ لهذا الاتِّفاق السَّريع والمُفاجئ، سوى التَدخُّلات الخارجيَّة أو كما يحلو للبعض وصفها بـ(سياسة المحاور) التي تنتظم المنطقة، والتي يتصدَّر (ظاهرها) الإمارات والسعوديَّة ومن بعدهم مصر من جهة، مُقابل قطر وتركيا من جهةٍ أُخرى، فضلاً عن التَمَدُّد الصيني ومُؤخَّراً الرُّوسي، حيث تأخذ هذه التَدَخُّلات أشكالاً عديدة لا يسع المجال لتفصيلها، وشَمَلَت (بجانب القرن الأفريقي)، شاطئ البحر الأحمر بكامله. ورغم تَصَدُّر البعض لقيادة هذه المحاور (الاستقطابيَّة)، وتَحَمُّلهم لأموالٍ طائلةٍ خصماً على شعوبهم، إلا أنَّهم جميعاً وبلا استثناء (أدواتٌ تنفيذيَّة)، لمُخططٍ دوليٍ كبير، للسيطرة على القرن الأفريقي والبحر الأحمر. فالقاصي والدَّاني، يعلم تماماً، أنَّ كائناً من كان لا يجرؤ على إقامة (متجر) ناهيك ميناء، بالبحر الأحمر والسيطرة على مداخله ومنافذه وجُزره، دون مُوافقة إسرائيل خصوصاً، وأمريكا وأوروبا عموماً، فهو المَنْفَذُ البحريُّ الجنوبي لإسرائيل، وهي لم ولن تنسى تجربتها المريرة معه خلال حرب 1973، حينما تَعَاوَنَت اليمن مع مصر وأغلقوا باب المندب أمام المِلَاحَة الإسرائيليَّة، فضلاً عن استخدامه في حرب الخليج 1991، والهجوم على العراق 2003، وهو الرابط الرئيسي بين آسيا وأفريقيا وأوروبا ومن بعدهم أمريكا، مما حَفَّز جميع القُوَّى الكُبرى على إيجاد أماكن لهم في البحر الأحمر.
هذه المُعطيات، تُكذِّب (إدِّعاءات) البعض بالسيطرة على موانئ البحر الأحمر، مهما بَرَّروا أو عرضوا من حججهم الواهية، وعلى رأسها مُحاربة الإسلام السياسي الذي تأكَّدَ لكل بصيرة أنَّه صناعةٌ غربيَّةٌ بحتة، لالتهام مُقدَّرات العالم الثالث عموماً، وأفريقيا والشرق الأوسط خصوصاً. وبعبارةٍ أُخرى، يُمكن القول بأنَّ جميع الأطراف (الظَّاهرة) في أحداث القرن الأفريقي والبحر الأحمر، بما في ذلك حرب اليمن، عبارة عن (كومبارس)، يُؤدُّون أدواراً مُحدَّدة ومُخطَّطة سلفاً، ولا يملكون الرفض أو حتَّى المُناقشة، وينطبق هذا القول على الاتِّفاق السَّريع والمُفاجئ بين إثيوبيا وإريتريا، والذي لن يصمُد طويلاً، لأنَّه لم يُعالج (أصل/جذور) المُشكلة، وإنَّما أتى لأغراضٍ أُخرى، بعيدةٌ كل البُعد عَن الأسباب الحقيقيَّة لصراعهما.
المعلومُ علمياً وعملياً أنَّ الكون بكامله يسيرُ بحساباتٍ دقيقة، وتَعَلَّمنا على مَرِّ التَّاريخ الإنساني بأنَّ الحياة مُعادلات مُتعدِّدة الأطراف، ولو أردنا حَلْ مُعادلةٍ ما بنحوٍ صحيح، يَتَوَجَّب الأخذ بجميع المُعطيات المُتاحة، مهما كان حجمها/طبيعتها، مع التزام الموضوعيَّة/الواقعيَّة، أي الاستناد لوقائع مُعاشة فعلاً بعيداً عن العواطف، وهذا ما اجتهدتُ فيه لأصل للاستنتاجات أعلاه. وتأسيساً على ذلك، فإنَّ السُّودان أكبر (ضحايا) ما يجري في القرن الأفريقي، بما في ذلك الاتِّفاقيَّة الوَلِيْدَة أعلاه، وهذا لا يعني إطلاقاً رغبتنا في استمرار الحرب بين الدَّولتين الجارتين، ولكني أتحدَّثُ تبعاً لمُمارسات جميع الأطراف المُشاركة في هذا الأمر، ومآلاتها الكارثيَّة على السُّودان، سواء إثيوبيا أو الإمارات أو السعوديَّة أو مصر أو حَتَّى إريتريا، لأنَّها مُمارسات تقود لتذويب/تلاشي بلادنا بالكامل، لو لم نَتَدَارَكْ الأمر ونسعى لمُواجهته بجِدِّيَّةٍ وقُوَّة، وهذا ما سأتناوله في مقالي القادم بحول الله.