مسفن حقوص كحة حول أسياس أفورقي
بقلم الأستاذ: محمود عثمان إيلوس - كاتب وبـاحث ومحلل سياسي
مرة، وانا مصاب بزكام مقحقح جدا؛ دعت ضرورة الخوف الاختفاء بين الحشائش ومحصول الذرة
المخضرة في احدى بوادي عنسبا؛ إذ تفاجأت القرية بطواف جيش إثيوبي غاضب في طريقه الى معارك (القنفلوم) الكبرى، فرت كل أسرة الى وجهة معينة بدون ترتيب، وهنالك قضيت ليلة عصيبة، بين يدي الأجل والسعال الملعون، فإما أن أكح لا إرادة واريح أوتاري وألفت انتباه العدو الى وجودنا وإما ان اكتم على أعصابي وأغير مخارج النفس اعجازا فأوفي بالوعد، غلب السعال وتفرجت الكحة وكان الإعجاز في مكان آخر؛ في حفظ الله تعالى.
تلك قصة كحتي متعلقة بالذاكرة؛ ولكن ما قصة كحة مسفن حقوص حول مشروع أسياس أفورقي، ماذا حبسها حتى هذه اللحظة ثم مالذي فجرها اليوم، هل تفجرت عفوا من شدة حك السائل الذي أجرى تلك المقابلة أم جاءت طبيعة لأراحة الأوتار المشدودة لبضعة وعشرين عاما.
ومهما يكن من أمر، كثيرا ما تعرضت خلال مقالاتي على أن أسياس أفورقي في الأصل صاحب مشروع وليس رجل صدفة وبداهة؛ لكن لم يخطر في بالي أن مشروعه ينطوي على أبعاد ضم إرتريا الى إثيوبيا الكبرى، ظننت أن عقله يتكون من طبقتين في الصراع الإرتري الداخلي؛ طبقة القومية التغرينية ومشروع تغرينية إرتريا وطبقة الدكتاتورية بحيث لاشريك له في التشريع والتنظير والحكم في إرتريا، وفي سبيل التطبيق لايتوانى عن ازالة الرجال المعوقين او المحتملين؛ اغتيالا او تهميشا، سواء كانوا من ظلاله السياسية والقومية أم كانوا خصوما أصلاء، وفي كل الأحوال فهو رجل عميق يعرف كيف ينتقل بمشروعه من طور الى طور آخر وفق تكتيكات محلية واقليمية ودولية، تعامل مع رجل السياسة الإرترية؛ الفقيد عثمان صالح سبي؛ ثم تملك من القرار السياسي الداخلي لجبهة التحرير باختراق عميق لحزبها وجيشها، ثم قرر اجلائها عن الساحة بشكل نهائي.. ليس عفوا وانما تخطيطا، وهذا ما كنت أراقبه واتخوف منه حينما جلس أسياس أفورقي مع ألد خصامه عقب تشكل حكومته المؤقتة الأبدية؛ مع الدكتور الشيخ حسن الترابي.. رحمه الله.. عقل ومدبر ثورة الإنقاذ الوطني في السودان؛ في طور من أطوار السير وصناعة البقاء.
لم أكتب تلك الاشارات بين يدي انكسارات اليوم.. بين يدي النتائج المرئية اليوم وانما في تسعينات القرن الماضي اثناء بحث (مشكلات الوحدة الوطنية في حقبة الثورة الإرترية). هكذا هو أسياس أفورقي.. ابتلاء إرتريا وشعبها.. يبدو عبوسا قمطريرا او مبتسما مسرورا.. حسب الطور الذي يعيشه.
ظل الأرتريون في دوامة التساؤل حول موقف المجموعات المنشقة الهاربة عن نظام أسياس أفورقي.. لماذا لم يتحدثوا عن الحقائق.. لماذا كتموا على انفاس الحقائق التي أديرت بها إرتريا؛ حربا او سلاما.. لماذا لم يتحدثوا عن أسرار الحرب الإرترية الإثيوبية لتتشكل النظرة الصحيحة حول الواقع السياسي الإرتري ؟
يقول مسفن حقوص بأن لديه إمكانية الحديث عن مواقف أسياس أفورقي ثم تعرض لماما دون اجترار المقدمات والمؤخرات بأنه في اواخر عام التحرير(1991م) استدعى أسياس أفورقي أعضاء اللجنة المركزية للجبهة الشعبية وعرض عليهم أمرا شبه مقرر في مجالس أخرى وهو امكانية تشكيل حكومة مشتركة مع حكومة الإئتلاف الحاكم في إثيوبيا(إهودق)، وأنه.. اي، مسفن حقوص حدد موقفه بالرفض لكونه أمرا.. الوحدة مع إثيوبيا.. يتعارض مع طبيعة واهداف النضال الإرتري.
في هذه المواقف، وفي السياسة، وفي كنف المشروعات المشبوهة الخافية علينا؛ التي جرت منذ مطلع ثمانينات القرن المنصرم بين قيادتي الجبهة الشعبية الإرترية والتجراوية؛ بسلامها وحربها، في مثل هكذا واقع لايقال لرجل في مقام مسفن حقوص انت كاذب او صادق؛ اذ الرجل شريك أساسي في اطوار النمو وتخلق الجبهة الشعبية ومضغة المشروعات القاصرة في احشائها، والجبهة الشعبية.. طبقات. يجب ان يؤخذ حديث مسفن حقوص مواقف تحليلات جادة؛ إن اراد خيرا او أراد بنا شرا.
مسفن حقوص يعرف ماذا يريد أن يقول بدقة متناهية.. وقد شاركته حديثا في ندوة في الخرطوم ابان تنشئة الحزب الديمقراطي الذي كان يقوده.. يختار مواقع الإثارة لتوجيه المياه الى وجهة مؤثرة كيفما يريد؛ كما لو أنه أسياس أفورقي او تشرب من فكره. لم يقل مسفن حقوص قال لي أسياس أفورقي وانما قال استدعى أسياس أفورقي القيادة المركزية للجبهة الشعبية.
وما يمكن أن يقرأ في التحليل أن الأمر لم يكن كذلك، فإما أن مشروع الوحدة مع إثيوبيا كان احدخيارات الجبهة الشعبية وإما ان الأمر طرح في اطار قطاع سري من عناصر القيادة المركزية المعنيين داخل الجبهة الشعبية.. كانوا يتشكلون صناع القرارات السرية المتعلقة بمصير ارتريا استمرارا تحت اثيوبيا او استقلالا. أي أن هناك قرارات جماعية سرية كان يخضع لها أسياس أفورقي في اطار تشكل سري انتج الشكل المختل للدولة الإرترية المستقلة.. ان لم يكن كذلك متى كان رأي آخر يوقف توجهات ورغبات أسياس أفورقي في اطار المجالس العامة للجبهة الشعبية اوالحكومة الارترية. او بتعبير آخر أن ما ذكره او ما اشار اليه مسفن حقوص قطرة زيت في مياه.. لايمكن ان تذوب مثلما أنها لا يمكن أن تشكل طبقة للعبور الى الحقائق.. حديث خطير لكنه ناقص ومبتور.
لسنا في مأمن من احتمالات نبض المواقف.. لا شك ان نهايايات أطوار معينة تجري في منطقتنا تستدعي نقرا شديدا في الصخرة الصماء الحائلة دون استنهاض الوعي السياسي الإرتري..
ماذا إذن:-
1. اذا كان أسياس أفورقي عمل من أجل مشروع ضم اتريا الى اثيوبيا فلماذا النضال.. ولماذا الاستفتاء.. ولماذا الحرب ولماذا السلام الحالي ؟
للأسف لسنا أكْفاء.. أصحاء للتحليل الصحيح؛ لأننا مصابون بعلل المشروعات السرية التي تحكمت في مصائر بلادنا.. وددت أن استمع الى همس الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الى أسياس أفورقي في سلم الطائرة في الخرطور.. قبيل محادثات أتلانتا قبيل تحرير إرتريا، ماذا قال له مابين السطور، ثم لماذا نقلت ملفات استقلال ارتريا الى محادثات لندن ثم الى شراكة مؤتمر أديس أبابا عقب التحرير.. هنا أبعثر الحديث لإعادة القراءة.
2. حسب مايبدو لي أن السلام الحالي بين إرتريا وإثيوبيا لاعلاقة له بمشروعات التسعينات، إنه في غالبه نتاج لدفع سياسي اقليمي دولي، فرز المواقف.. دورة السياسة الدولية الحالية تلزم تحديد المواقف.. سياسة البيع والشراء.. مايجري بين إرتريا وإثيوبيا هو مايجري بين السودان ومصر مع اختلاف الموسيقى والرقص، ومع اختلاف ضخامة الخلاف وضخامة المشكل، فبالرغم من أن مشكلة حلايب أكثر عمقا من مشكلة بادمي، فالأولى قضية خلاف حقيقي في حاجة الى معالجة حقيقية فإن بادمي افتعال سياسي لحرب استراتيجية شرع لها حلفاء الثقافة التغرينية في المنطقة، الخطاب السوداني المصري المنسجم جراء زيارة الرئيس المصري للسودان لا يأتي لمقابلة السلام الإرتري الإثيوبي وانما يأتي ضمن متطلبات السياسة الاقليمية الدولية في المنطقة لاسيما وأن حكومات هذه الدول قائمة على دعم وقروض أجنبية تفرض شروط استقرار اقليمي لاستقرار الاستثمار الأجنبي.
3. لعل هناك تحليلا افتراضيا قد يحاط بمنطق يصعب التحقق فيه بأن دور أسياس أفورقي كان ينطوي على إنهاء قدرات الكيان الإرتري وافراغ الوطن من مضامينه ومن ثم ضم إرتريا الى إثيوبيا وفق شكل من اشكال الوحدة لضمان عدم قيام ثورة او مقاومة إرترية. ليتني امتلك عاطفة يمكن ان تخضع لهذا التحليل لأن افعال اسياس أفورقي فيما يتعلق بقتل مقومات الكيان الإرتري تنسجم مع منطق هذا الإفتراض.. وهو - هذا الافتراض - في ابعاده قد يؤيد اسباب كحة مسفن حقوص.. وإذا كان الأمر كذلك فإن من الأهمية الإشارة الى أن مسفن حقوص سيكون من سلخ جلد هذا الوطن اذا ماكان أفورقي هو الذابح.
4. حديث مسفن حقوص يعد تأكيدا بأن احد الأسباب الرئيسية للحرب الإرترية الإثيوبية الأخيرة هو الخلاف حول تفسير مشروع العلاقة التغرينية التغرينية والعلاقة الإرترية الإثيوبية (ما أشير اليه تباعا بالملفات السرية المشبوهة). لذلك الخلافات الكبرى داخل الجبهة الشعبية برزت بين ظهراني الحرب ذاتها.. وقد تكون اسباب انكسار الجيش الإرتري افشاء اسرار الدفاعات بسبب الخلافات المبكرة داخل الجبهة الشعبية.
لن تتعرض إرتريا لأسوأ مما تعرضت له في حقبة حكم نظام أسياس أفورقي.. سواء كانت مبادرات السلام الحالية ذات ابعاد وحدوية او بناء علاقات تعاون وتكامل اقتصادي او كانت نتاجا لدفع اقليمي دولي.
تواجه ارتريا اليوم غياب مشروع وطني يواجه الانحدار الذي فرضه نظام أسياس.
الإرتريون.. اليوم.. في حاجة ماسة الى مبادرة صناعة بديل سياسي جاد لإبقاء الوطن وحمايته.. وحماية هذا الوطن ليس من الإنضمام الى إثيوبيا وانما من الانهيار الكلي او الفشل.
لم يتبق لأسياس أفورقي شيئا يفعله لقتل إرتريا.. اذا فعل شيئا أخيرا قد يدرب ابنه لتصعيده رئيسا.. فالخوف ليس من تسليم أسياس ارتريا الى إثيوبيا وانما عدم كفاءة إرتريا بحضور أسياس او غيابه.. ستتحول إرتريا الى ايدي عاملة والى اسواق للسلع الاستهلاكية في غياب الكفاءة السياسية والمادية.. المكسب الوحيد هو أن طبول الحرب وقفت.. والموت بسبب السلام خير من حروب عبثية.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.