مصير نظام افورقي بعد حل اشكالية بادمي
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح - لندن
لقد فشلت القوى الأكسومية، ممثلة في الجبهة الشعبية؛ لتحرير تجراي، وفِي الجناح الشيفوني، في الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا،
من الاكسوميين الارتريين، في بناء الدولة المدنية الحديثة، بمؤسساتها الدستورية.
وفِي حين تميزت سياسات النخبة الأكسومية الحاكمة، في أديس ابابا، بنوع من المراوغة والمداهنة احيانا، في ادارة تطور الدولة، نحو النموذج المدني الحديث، تتراوح بين إرخاء القبضة، وأحكامها، اتسمت قبضة افورقي، في حكمه للبلاد، منذ حرب بادمي، عام ١٩٩٨م، بالحدة المتزايدة، في قسوتها، بلغت حد الاخفاء القسري، والاعتقال التعسفي، وربما الاعدامات السرية، من وراء الستار الحديدي.
ويعد هذا اكبر اخفاق سجلته النخبة الأكسومية، التي حكمت أديس ابابا حتى مجيء (ابي احمد) ونظيرتها المتصارعة معها، في أسمرة، وذلك نتيجة انحباسها وانغلاقها، في موروثها الثقافي، والتاريخي، لمفهوم السلطة، الذي لا يعرف تداولها سلما، حيث لا تقبل في التراث الاكسومي القسمة على اثنين فاكثر، ولا يستحقها الا المتغلب، على بقية الرؤوس؛ ليكون هو الوريث الفعلي للقب (نجوس نجستي).
وهذا احد الأمور التي حملت النخبتين، في البلدين على تفعيل ارهاب الدولة، بدل تفعيل نصوص الدستور، وعلى خوض هذا الصراع الحاد بينهما، والذي ترتب عليه، في النهاية، سقوط الطرف الحاكم، في أديس ابابا.
وقد أشار (ابي احمد) الى حدوث هذه الممارسة الإرهابية، في أديس ابابا.
وفِي ارتريا ما زال الارهاب نفسه قايما، وكان من اثاره هذا الغموض الذي يلف حتى اللحظة، مصير مجموعة الخمس عشرة، من قيادة الجبهة الشعبية التاريخية، الذين تصدوا لمطالبة افورقي، بالاصلاحات الضرورية، لبناء الدولة المدنية الحديثة.
ثم من بعدهم، كان هذا المصير نفسه، ينتظر اوليك الذين قاوموا دكتاتوريته، حين قاموا بمحاولة ٢١ فورتو الانقلابية، حيث اقتيد عدد غير قليل، من قيادات الجبهة الشعبية، الى مجاهيل السجون، باتهام التورط، في المحاولة، بشكل وآخر.
هذه القبضة الأمنية الخانقة وضعتها اليوم مبادرة رييس وزراء اثيوبيا (ابي احمد) في المحك، امام مأزق حرج.
فما الاحتمالات المتوقعة، والمتصورة اذن، من افورقي، للتعامل مع مستحقات هذه المبادرة، التي بالضرورة، تفرض عليه تلقائيا التحول الى الدول المدنية الحديثة، مكان الدولة العسكرية، الدكتاتورية التي يقودها حاليا ؟.
اذ لا يعقل ان تحدث هذه الطفرة التحديثية، في اثيوبيا، وتبقى دولة ارتريا قاعدة، على ما هي عليه الان، من احكام القبضة الأمنية القاتلة.
يكاد يجمع المتابعون لسياسة افورقي في حكم ارتريا، منذ استقلالها الرسمي عام ١٩٩٣م، على ان افورقي فعلا يواجه اعظم موقف حرج، يمر به في حياته السياسية، ويتساءلون: كيف يمكن ان يخرج منه، او يتغلب على مستحقاته ؟.
ثمة من يقول: لا يتوقع من افورقي ان يسلم رقبته لحبل المشنقة؛ ذلك ان اكبر وأعظم ثمن نفيس، يمكن ان يقدمه افورقي، في بناء الدولة المدنية الحديثة، هو تفعيل (الدستور) المجمد الذي نال ثقة الشعب، عقب اعلان الاستقلال، ثم انقلب عليه افورقي، وفرض ارادته، وادارته، غير الشرعية.
وهذا لا بد ان يعرضه للمساءلة الدستورية، ولا سيما بشأن مصير تلك القيادات التي اخفى وجودها، بعد ان اتهمها بالعمالة، والتامر، على وحدة الوطن، واستقلاله، وهو ما يعني الاتهام (بالخيانة العظمى).
وهي جريمة، ليس لها الا الإعدام في اقسى عقوباتها.
وفِي نظر هولاء، ان افورقي، لا بد انه قبل الدخول، في هذه المبادرة، بعد ان أخذ من الوسيط - ايا كان - الضمان لبقائه حاكما متفردا، بحيث يشترط عدم التدخل في شؤونه الداخلية، باي ذريعة كانت، ومن اي طرف كان.
وهذا يعني، ان لا جديد ينتظر، من افورقي، في ولادة الدولة المدنية، التي ستظهر - لا محالة - مشلولة ومشوّهة، ان كتب الله لها الظهور، ولم يجنح افورقي الى خيار إجهاضها؛ لكونه في حاجة ملحة للخروج من عزلته الطويلة.
غير ان اخرين يَرَوْن، انه مهما كانت محاولاته، وتحايله على ولادة الدولة المدنية، بكل مؤسساتها الدستورية، متنوعة، ومستميتة، فانه يلعب في الوقت الضايع، ودون لياقة رياضية، ولباقة سياسية، في مواجهة موجات من التغيير، متدفقة ومتلاحقة، في الجارة الملاصقة اثيوبيا، بشكل سريع.
انها لابد ان تجرفه، ولا يمكنه الا التسليم لها.
لذا يرى هولاء، ومن يوافقهم الرأي، ان الاحتمال الأرجح، لا يبعد عن انه حصل على ضمانة خروجه، من السلطة، من غير متابعة، بمحاكمات جنائية، او سياسية، او اقتصادية، ويغادر البلاد الى مكان يحدده، له ولأفراد أسرته، ان رغب في ذلك.
وهو ما أراه اقرب الى الواقعية، في انتشال ارتريا، من ازمتها الحالية التي وضعها افورقي وزمرته فيها، والا من العسير جدا، ان لم يكن من المستحيل، ولادة دولة (التوافق الوطني) التي نحلم بها، وبمؤسساتها الدستورية، الا بمزيد من التضحيات.