رهانات إقليمية تكسر عزلة إريتريا
المصدر: صحيفة العرب
القرن الأفريقي، وخصوصا إريتريا، الواقعة على البحر الأحمر، أضحت محلّ اهتمام الكثير من القوى الإقليمية،
وخصوصا السعودية ومصر، رغبة في استمالتها أو تحييدها، وهو ما يعطي قيادتها حزمة من المزايا تتناسب مع طموحاتها وتطلعاتها؛ فيما يؤكّد الخبراء ضرورة المضي قدما في هذه السياسة لقطع الطريق عن إيران التي تستفيد كثيرا من الصراعات والأزمات المندلعة في دول هذه الجبهة الأفريقية.
أشد ما يغضب الإريتريين أن غالبية الدول العربية لا تنتبه إليهم ولا تلتفت إلى همومهم، إلاّ عندما تكون هناك حاجة سياسية. فتتسارع التحركات نحو أسمرة. وتعج بالضيوف العرب، إلى الدرجة التي توحي لقيادتهم بأن بلدهم أصبح مهما، بل مؤثرا في المحيط الإقليمي فعلا لا قولا فقط؛ هذا هو فحوى كلام دبلوماسي إريتري التقته “العرب” في القاهرة مؤخرا، بعد أن بدأت أزمة سد النهضة الإثيوبي تدخل طريقا مسدودا.
مردّ تصريح الدبلوماسي الإيريتري، الاهتمام الإقليمي والدولي الذي ظهر مؤخّرا ببلاده، القابعة في مكان إستراتيجي بالقرن الأفريقي، والتي أضحت محطة رئيسية في السياسة الخارجية لكل من مصر ودول الخليج العربي، وأيضا إيران؛ وذلك لارتباطها بملفيّن رئيسين، الأول يخصّ مصر، وأزمتها مع إثيوبيا حول سدّ النهضة.
ويتضمّن الملف الثاني محورين: الصراع في اليمن ومحاولات إيران استثمار عزلة أسمرة الدولية لتعزيز وجودها العسكري البحري في البحر الأحمر وخليج عدن. وكانت تقارير عديدة ذكرت أن إريتريا شكّلت، في بداية الصراع في اليمن، شريان حياة جماعة الحوثي فعبر موانئها تسلّمت الدعم من إيران واتخذت من أراضيها قاعدة خلفية ومركز تدريب لمقاتليها.
وتستغلّ القوى الإقليمية رغبة إريتريا، التي عاقبتها المجموعة الدولية لدعمها مجموعات مسلحة في القرن الأفريقي وانهالت عليها الانتقادات بسبب نظامها المتشدد، لاستمالتها إليها، ما يشي بأن أسمرة ستتحول إلى رقم مهم خلال الأيام المقبلة يلعب دورا مؤثرا في بعض التوازنات.
ومع أن هذه السياسة تغضب قيادتها، التي تعي أهمية موقعها، إلا أنها تقبل التجاوب مع الراغبين في توطيد العلاقات معها، في ظل ظروفها الاقتصادية الحرجة وأوضاعها السياسية القلقة وأحوالها الاجتماعية المتقلبة، وخصومتها التاريخية مع الجارة إثيوبيا وحساسيتها المفرطة مع جيبوتي.
وعلى ضوء التطورات الأخيرة، يبدو أن إريتريا، التي سبق وغرّد نظامها خارج سرب بقية الدول الأفريقية، في ما يتعلّق بدعم عاصفة الحزم في اليمن، قررت مراجعة علاقتها مع إيران ومصر ودول الخليج العربي، ويرى خبراء أن بداية التغيير جاءت عبر دعم أسمرة للتحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب بقيادة السعودية واستعدادها للمساهمة فيه.واعتبر مراقبون أن الزيارة السريعة التي قام بها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى إريتريا سلطت الضوء، في جانب من جوانبها، على التحركات الخليجية في هذا البلد، وفي منطقة القرن الأفريقي عموما.
”على الجبهة العربية في سياستها تجاه دول منطقة القرن الأفريقي أن تعي جيدا خصوصية هذه المناطق متعددة الأزمات“
ولم يعلن عن هذه الزيارة بشكل مسبق، كما لم يكشف عن تفاصيل ما دار خلال اللقاء الذي جمع الشيخ تميم بالرئيس أفورقي، باستثناء قول وكالة الأنباء القطرية الرسمية إن هدف الزيارة بحث “العلاقات الثنائية وسبل تطويرها، والمواضيع ذات الاهتمام المشترك”.
لكن، الخبراء يرون أن هذه الزيارة، رغم قصرها تحمل دلالات كثيرة، بعضها له علاقة بسياسة قطر الخاصة، والتي تبحث عن فرصة أو موطئ قدم في الاستراتيجيات الإقليمية. وفي هذا المقصد تسوّق الدوحة نفسها كوسيط في الأزمات بين دول منطقة القرن الأفريقي، من ذلك توسّطها بين إريتريا وجيبوتي، لحل النزاع الحدودي بين البلدين.
ويؤكّد علي محسن حميد، الدبلوماسي اليمني السابق، لـ “العرب”، إن زيارة أمير قطر يمكن قراءتها في إطار الوساطة القطرية بين جيبوتي وإريتريا، حيث هناك نزاع على منطقة حدودية تهدد باشتعال نيران الحرب بينهما.
ولم يستبعد المراقبون أن تكون هناك مقصاد قطرية خفية من هذه الزيارة، تختلف عن النهج الخليجي العام، والذي يقوم بالأساس على تعزيز الجبهة الأفريقية، وإنشاء شبكة أمان مضادة للتمدّد الإيراني، من خلال عرض مصالح اقتصادية على القيادة الإريترية المعروفة ببراغماتيتها، وهو ما تقوم به الإمارات، وإشراكها في التحالفات، على غرار دعوتها للمشاركة في التحالف الإسلامي العسكري ضدّ الإرهاب، الذي تقوده السعودية.
وذكر تقرير للأمم المتحدة أن إريتريا حصلت على دعم مالي ومساعدات نفطية من السعودية خلال الأشهر الماضية. كما يعتقد بعض الخبراء العسكريين بأن الحلف الإسلامي في حاجة إلى إريتريا لحسم المعركة عسكريا، حيث تتمتع إريتريا بجيش مدرب يتجاوز 200 ألف جندي وقوات بحرية مدربة بمقدورها حسم المعركة البحرية، لا سيما فيما لو تم ضم بقية دول جنوب البحر الأحمر، على غرار جيبوتي والصومال وإثيوبيا.
بين قطر ومصر:
في القراءة الثانية لزيارة أمير قطر إلى إريتريا، لم يستبعد بعض المراقبين وجود علاقة بين الزيارة وإشكاليات العلاقة القطرية المصرية، ومحاولة الدوحة الالتفاف على القاهرة من جهة الجنوب، لتقديم تنازلات في الملفات التي تتباعد فيها مع قطر، مثل الموقف من جماعة الإخوان والأزمتين السورية والليبية والعلاقة مع تركيا.
”تقرير لمركز ستراتفور الاستراتيجي يرجح أن تسعى إريتريا نحو توسيع علاقاتها الخارجية من أجل التغلب على عزلتها في المنطقة“
وقال متابعون إن دور الدوحة المباشر أو غير المباشر في سد النهضة لم يعد خافيا على القاهرة، حيث توفر قطر دعما ماديا لسد النهضة، وتقدم تأييدا معنويا للقيادة الإثيوبية. ومع ذلك استبعدت منى عمر توظيف زيارة الشيخ تميم لإريتريا في مسألة سد النهضة، وتصاعد الخلاف بين القاهرة وأديس أبابا، لأن الأوضاع في اليمن تحتل أولوية لدى غالبية القيادات الخليجية.
بعض التقديرات السياسية ذهبت إلى حد أن زيارة الشيخ تميم، قد تكون غايتها محاولة للمصالحة بين إريتريا وإثيوبيا، بعد أن خاض الطرفان حربا ضروسا، عقب حصول الأولى على استقلال عام 1993، وخلقت الحرب واقعا مريرا لا يزال جرحه لم يندمل بعد.
لكن، حلمي شعراوي، مدير مركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة، أكد لـ“العرب” أن ما بين أديس أبابا وأسمرة أكبر من الوساطة القطرية، وأبعد من مسألة التوظيف القطري في الأزمة بين إثيوبيا ومصر، محذّرا النظام المصري من مغبة عدم إدراك أهمية منطقة القرن الأفريقي وانعكاس ذلك على حساب الأمن القومي المصري.
ولتجنّب أي محاولة لاستغلال إريتريا ضدّ مصر، قال مراقبون لـ“العرب” إن لدى القاهرة فرصة جيدة لإعادة الاعتبار لعلاقاتها مع أسمرة، كبوابة لمواجهة الأزمة المتفاقمة مع إثيوبيا، جراء سد النهضة، خاصة أن مصر كانت من أكثر الداعمين لحركة تحرير إريتريا ضد الاحتلال الإثيوبي.
وفي هذا السياق، توجد طرق عدة للاستثمار السياسي مع إريتريا، بصورة يمكن أن تضغط على أديس أبابا؛ إعادة النظر في خيار الأمر الواقع، الذي تتبناه حاليا، وإذا نجحت القاهرة في توظيف الورقة الإريترية بطريقة إستراتيجية، بمعنى التحالف صراحة معها، قد تمثل أسمرة أهمية في الأزمة.
دور خليجي:
قالت مني عمر، مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون الأفريقية، إن اليمن كانت أحد المحاور المهم في المباحثات التي جرت بين أمير قطر وأسياسي أفورقي رئيس إريتريا.
وأشارت، في تصريحات لـ“العرب”، إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه أسمرة في هذه الأزمة، من خلال موقعها القريب لليمن، وإمكانية التحكم في حركة مرور السفن في البحر الأحمر وباب المندب، ومنع أي إمدادات إيرانية للحوثيين في اليمن.
وأكد متابعون أن أسمرة سوف تلتفت إليها الكثير من القوى الإقليمية، رغبة في استمالتها أو تحييدها، وهو ما ستعمل على استغلاله، خاصة في ظلّ الاهتمام الذي تشهده دول المنطقة المنافسة لها، وخصوصا جيبوتي وإثيوبيا، وأيضا الصومال. وتشهد هذه الدول بدورها، اهتماما خارجيا كبيرا، فجيبوتي، من المنتظر أن تكون المحطة التي تستضيف أول قاعدة عسكرية للصين خارج حدودها. وتراقب فرنسا، التي تملك قاعدة عسكرية في مستعمرتها القديمة، والسعودية وعمان، التقارب الصيني الجيبوتي عن كثب.
”علاقات جيبوتي على المستوى الخليجي تشهد تطورا ملحوظا عكسته الزيارة التي قام بها، في شهر أكتوبر الماضي، الرئيس عمر جيله، تلبية لدعوة من الملك سلمان بن عبدالعزيز“
وعلى المستوى الخليجي تشهد علاقات جيبوتي تطورا ملحوظا عكسته الزيارة التي قام بها، في شهر أكتوبر الماضي، الرئيس عمر جيله، تلبية لدعوة من الملك سلمان بن عبدالعزيز، ثم أعقبت هذه الزيارة زيارتان، لا تخرجان عن ذات الأهمية، قام بهما كل من الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، ورئيس وزراء إثيوبيا، هيلي ماريام ديسالين.
وقال محمد حبيب، أستاذ القانون في جامعة أديس أبابا، في تصريحات صحفية، إن ”الزيارات الثلاث تشكل انعطافة جديدة ومهمة في علاقات دول القرن الأفريقي مع جارتها الشرقية عبر البحر الأحمر“.
وسبق أن كشفت تقارير إعلامية عن تمكن دولة الإمارات من الوصول إلى تفاهمات مع عدد مع بلدان جنوب البحر الأحمر، في إطار منظور استراتيجي إماراتي يعطي أهمية بالغة لدول تلك المنطقة.
ورجّح تقرير لمركز ستراتفور الاستراتيجي أن تسعى إريتريا نحو توسيع علاقاتها الخارجية من أجل التغلب على عزلتها في المنطقة. من وجهة نظر أسمرة، فإن قبول الموارد السعودية والإماراتية سوف يكون خطوة منطقية، في المقابل ترى الجبهة الخليجية أن السيطرة على طرق التواصل بين إريتريا وإيران والحوثيين سوف تقلل من قدرات إيران على توصيل الإمدادات لحلفائها في اليمن؛ أما مصر فسيكون في صالحها التقارب في مواجهة أي استفزازات إثيوبية.
لكن، وحتى تنجح الجبهة العربية في سياستها تجاه، إريتريا، ودول منطقة القرن الأفريقي عموما، عليها أن تعي جيّدا خصوصية هذه المناطق متعدّدة الأزمات والمشاكل والخلافات، الأمر الذي منع كثيرا سياسة الاختراق الإيرانية؛ وما تشهده إثيوبيا وجيبوتي من احتجاجات سياسية وأزمات خير دليل.