ورقة نقاش: تأملاتٌ في السياسة الخارجية الإرترية ومحركاتُها - الجزء الاول
بقلم المناضل الأستاذ: حامد ضرار - دبلوماسى سابق المصدر: حوار لوعي مشترك
تمهيد أولي - الأجواء والظروف التي مرت بها إرتريا من الإحتلال وحتى الاستقلال:
يوضح كتاب "إرتريا - الثورة الغير منتهية" للكاتب ريشارد شيرمان التحديات التي كانت تمر بها الثورة الإرترية منذ انفجارها وحتى بداية الثمانينيات من القرن المنصرم. وبسبب ضيق في حيز هذه الورقة، أكتفي، هنا، في هذا التمهيد بإيراد مقتطفات متفرقة من المقدمة التي افتتح بها المؤرخ الإنجليزي بازل ديفد صن للكتاب المذكور حيث يبين فيها التعقيدات التي اكتنفت طريق إرتريا في سعيها للاستقلال والتحرر.
"إن مشاكل إرتريا، سواء كانت من الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فهي مُثيرةٌ للاهتمام بشكل غير عادي لجملة من الأسباب، وما إذا كان المرء مهتماً بشكل خاص بالمسائل الأفريقية أم لا. فهذه المشاكل والتحديات مُثيرةٌ للاهتمام لكونها تتعلق ببشر: فالإرتريون بكل سماتهم وأسلوبهم المتميز، وبيئاتهم وتركيباتهم العرقية وسجلهم من حيث المعاناةُ والاضطهادُ ومقاومةُ الظلم، وعلى الرغم من التحديات التي واجهت بلادهم والتي تمثلت في الغزوات المتتالية والمتعددة، فقد تمكنوا بثباتهم من أن يجعلوا لبلادهم مكانةً بين الأمم.
والمشكلات التي واجهت إرتريا مثيرةٌ لاهتمام المؤرخين لكونها تنبثق فيما تحمله من مضامين تتعلق بتطور وميلاد الأمم خلال الحقبة الاستعمارية. وإنها مثيرةٌ للاهتمام بالنسبة للدارسين للعلوم السياسية بسبب استعصائها وتشابكها. ولكن فوق ذلك فهي أيضًا مثيرةٌ بسبب الحلولِ الواجبُ البحثُ عنها. وهي مثيرةٌ لاهتمام الُّلغويين وعلماء اللسانيات، وعلماء التربة، والمهندسين الزراعيين لتعدد بيئاتها الإجتماعية، وهي مثيرةٌ أيضاً للمراقبين العاديين لدراما المشهد البشري هناك. إنّ ما تواجهه إرتريا من تحدياتٍ موروثةٍ هي قديمةٌ وليست جديدةً بل تعود إلى الحقب الاستعمارية. وما هو جديدٌ يتمثل في انسداد الأفق أمام البحث عن حل لتلك المشكلات. ومما يدعو إلى الدَّهشة حقاً، وفي ضوء ما تقدم أنْ نجد العالم بالأمس، أو حتى اليوم أو ربما غداً، قد فضل تجاهل إرتريا وكأنه لا ولم يعرف شيئا عنها".
"وبالنظر إلى وجهٍ واحدٍ فقط من وجوه القضية الإرترية، وهو جانبُ الهُوية الوطنية بإعتباره الحافز الطبيعي للاستقلال الوطني، ينحدر المرءُ دفعةً واحدةً في جدلٍ ونقاشاتٍ أفريقية هائلة بسبب تشابه مشكلات البلدان في القارة. ومن نماذج تلك الأسئلة الهامة: ما الذي كان سيحدث لو أنَّ الشعوب الأفريقية المُسْتَعْمَرَة قد عبرَّت عن رغبتها في أن تكون حرةً وذاتَ سيادة، وأن تبني داخل حدودها الاستعمارية دولًا جديدةً خاصةً بها، وأن تواصل تنميةَ قدراتها والحفاظ على تاريخها السَّابق وهوياتها ؟ وبالتالي يكون السؤال الحصري مشروعاً. لماذا يُحْرَم الإرتريون من ممارسة هذا الحق أسوةً ببقية الشعوب ؟ فقد تم احتلالُ إرتريا من قبل الإيطاليين وبذات الأسلوب وفي ذات الوقت التي أحْتَلَتْ فيها الدول الغربية دولاً إفريقية أخرى حدث ذاتُ الأمرِ لإرتريا. ودون استشارة شعبها رَبَطَتْ ذاتُ القوى الاستعمارية إرتريا بإثيوبيا ليجد الإرتريون أنفسَهُم جزءاً من إثيوبيا".
ماجاء في مقدمة المؤرخ بازل ديفد صن وفي متن كتاب "الثوّْرة الغير منتهية" للكاتب "ريشارد شيرمان" والذي صدر، كما سبقَ ذكرُهُ، في ثمانينيات القرن المنصرم، أثار انتابهي وزاد عندي الشك من أن إرتريا اليوم مستهدفةٌ بالتجاهل كما الأمس وضبابٌ كثيفٌ يحيط بمستقبلها، الأمر الذي يتطلب من الجميع الخروج من حالة التشرنق للبحث عن حلول في آفاق أرحب والقيام بإجراء قراءات جديةٍ للواقع أكثر من ذي قبل.
تمهيدٌ ثانٍ:
معظم المشكلات التي طرأت بين إرتريا الدَّولة الوليدة وجيرانها نتجت عن مسألة أساسية تعلقت بقضية ترسيم حدودها البرية أو البحرية. والسبب يعود إلى الإرث الاستعماري والدول التي تعاقبت على احتلال البلاد. ولولا التداخلات والنزاعات المدفونة على خلفية الأطماع التوسعية لدول المنطقة تجاه أراضي الغير لأضحى استقلال إرتريا خاتمةً للحروب والنزاعات البينية كما يقول مراقبو شؤون المنطقة.
فكثيرٌ من فقهاء القانون والعلاقات الدولية يعتقدون، أنَّ إحتلال إرتريا من قبل الجارة إثيوبيا على خلفية مزاعم أيلولة تلك الأراضي لإمبراطوريتها، هو السبب الجوهري لزعزعة الإقليم وتهديدِ أمنِهِ. فعادةً، وحسب أولئك القانونيين، فإنَّ عمليةَ انضمام الدول المستقلة حديثاً، كالموزبيق وأنغولا والتيمور وغيرها إلى الأمم المتحدة، تكون الدول التي استعمرتها بمثابة مرجعية قانونية تساعد في تثبيت حدودها البرية والبحرية وجزرها عن طريق تسليم خارطة مستعمرتها السابقة للأمم المتحدة عند تقدم الدولة الوليدة بطلب انتساب لاكتساب عضويةِ المنظمة الدولية.
هذا الأمر الذي تقدم ذكرُهُ، لم يحدثْ فيما يتصل بإرتريا، لكون إثيوبيا كانت محكومةً أصلاً باطماعها التوسعية ومتخمةً بمزاعمَ تدعي فيها إنَّ إرتريا وأراضيها جزءاً منها، فالوضع على حسب فقهاء القانون الدولي أولئك، كان سيكون مختلفاً على نحو يجنب الإرتريين وجيرانهم الدخول في نزاعات حدود، لو كانت إرتريا قد استقلت من إحتلال غربي كإيطاليا أو بريطانيا أو غيرهما لكون تلك الدول كانت بشكل أو آخر طرفاً في اتفاقيات ترسيم حدود البلاد مع جيرانها. وهكذا وقبل أن تهنأ إرتريا بإعلان استقلالها دخلت، مُكْرَهةً، في حروبٍ سياديةٍ ونزاعاتِ الحدود البحرية والبرية مع كلٍ من اليمن وجيبوتي وإثيوبيا ولازالت تأثيراتُ تلك النزاعات تاركةً بصماتها السلبية على حياة مواطني دول الإقليم وإرتريا على نحو خاص.
إلى اللقاء... في الجزء القادم