ماذا تعرف عن بركنتيا
بقلم الأستاذ: حسين رمضان
بركنتيا اسم على مسمى (أرض المرأة الحكيمة) و تمتاز بموقع استراتيجي يربط عدة جهات
و لأكثر من منطقة الطريق الرئيسي يأتي من كرن ثم يفترق إلى طريقين أحدهما إلى سروا (عد رقت) والآخر إلى حلحل والماريا ويحيط بها من كل الجهات جبال وهضاب مثل (جبل عنقلي، وجبل تسس، وجبل كرفوف الصغير وكرفوف الكبير، وهضبة كبت مثلث ...الخ).
التركيبة السكانية لبركنتيا امتازت بتكوين مجتمع متجانس ومتعايش وأول من سكنها هم (آل ركا) ثم وفدت إليها قبائل أخرى من مناطق عدة وهم في توافق تام لا يوجد بينهم اي فوارق أو تمايز وليس لهم من قبائلهم إلا الأسماء بل هم في وحدة وتماسك وتآلف ومحبة وتمازج سكانها بالزواج والمصاهرة حتى أصبحوا كأنهم أسرة واحدة.
وسطية الموقع اكسبت بركنتيا أهمية للمناطق المجاورة بقصد الاستفادة من الخدمات المتوفرة فيها مثل طحن العيش والتسوق في دكاكينها لشراء الاحتياجات الضرورية من السكر، والبن، والصابون ...الخ ويتم ذلك بمقايضة العيش بالبضاعة واستعمال العملة نادراً بينهم وهنا نذكر من باب التعريف بالمحلات المشهورة في بركنتيا وهي كالآتي:-
• دكان كنتيباي نور محمد.
• دكان أبوبكر فكاك محمد.
• دكان محمد نور جمع.
• دكان حمد حامد عد كبابو .
• قهوة يسين على شيخ.
• جزارة محمد ادريس قدار.
• طاحونة عد ركا.
• مدرسة نظامية.
• خلوة لتعليم القرآن.
• جامع تقام فيه الصلوات الخمس والجمعة..
وكما تقام في الجامع الصلوات الخمس فهو أيضاً مكان لعقد المناسبات الدينية والاجتماعية مثل الصلح بين المتخاصمين وحل الخلافات والنزاعات بين الأفراد والجماعات. ولذا كان يُقصد من كل حدب وصوب خاصة يوم الجمعة باعتباره الجامع الوحيد في ذلك الوقت فيأتي إليه المصلون من (عُمُر أمير، مَرَجن، دو العقدة، ...الخ) وبعض البيوتات المتناثرة هنا وهنالك في المنطقة وبعد انقضاء صلاة الجمعة يتسوق المصلون في سوق خاص يسمى سوق الجمعة حيث تأتي إليه الخضروات والفواكه من جاردين مكلاسي وعنسبا وأرض البيجوك فيشتري المصلون حاجتهم من هذه البضائع ولا يفوتني هنا ان أذكر الحاجة بتول وهي من (سودان طباب) تُحِضر كثيراً من الفواكه خاصة (الجوافة) ويسمونه الزيتون ولا أدري ما أصل هذه التسمية مع أن الزيتون فاكهة أخرى تختلف تماماً عن الجوافة، وأيضاً الفجل والطماطم والسلطات والبصل.. ففي الجملة هذا الخيرات كانت تباع في بركنتيا ويفيض خيرها على جيرانها.. فهي بمكانة القلب من الجسد حقيقة حاضرة الجميع ومعقل العلم والخير فذاع صيتها في جميع أنحاء البلاد، ومما زاد من أهميتها إن عدد مقدرا من أبنائها كانوا يعيشون في مناطق حضرية مثل كرن واسمرا وبعض المدن الكبيرة فكانوا يشكلون حضوراً في المجتمع المدني الحضري وبالرغم من هذا التميز فقد دفعت بركنتيا ثمناً باهظاً من قِبل الاستعمار الاثيوبي حيث توالت عليها الحملات العسكرية تباعاً.. وتم استدعاء بعض أعيانها ورموزها أكثر من مرة للمسائلة والتحقيق بحجة أنهم يدعمون الثورة ويمدونها بالطعام والسلاح والمقاتلين والمعلومات وقد تكون هذه الادعاءات صحيحة إلى حد ما فمواطني بركنتيا كغيرهم من المدن والقرى الارترية كانوا يدعمون الثورة.. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا كان التضييق تحديداً من نصيب بركنتيا دون غيرها حيث كانت تتعرض لزيارات مفاجأة بين الفينة والأخرى ويُطلب من وجهائها أن يتواصلوا مع ابناءهم الثوار ليعدلوا عن القتال وذلك بتسليم أسلحتهم وانفسهم.. ولكن كل محاولات العدو الاثيوبي باءت بالفشل الذريع فما كان للتهديدات والوعيد أن يثني أهلها عن حقوقهم وواجباتهم الوطنية.
ومواقف الرجل البركنتياوي مشرفة على مر الزمان والعصور فهو رجل مباديء واخلاقيات وكرم فبالرغم من تعرضه للقتل والتعذيب والسجن والنهب فلم يلين وينتكس فهو شامخ شموخ الجبال الراسيات فهذا دليل قاطع وساطع على مواطنته الحقة وروحه الأبية.. والكثير من أبناء بركنتيا التحقوا بصفوف الثورة في وقت مبكر فمنم من قضى نحبه ونال الشهادة ومنهم من لا يزال على قيد الحياة نسأل الله أن يمد في أعمارهم... ولو عددنا الأسماء لطال بنا المقام فحق الوطن لا يقاس إلا بالأرواح التي تبذل رخيصة فداءً وتضحية.. فباختصار أهل بركنتيا كانوا شعلة تحترق من أجل إسعاد الآخرين. والنظام الامبرطور الاثيوبي المتهالك ما كان يدرك أهمية المواطنة والدفاع عن الوطن ومكتسباته فاستخدم كل الوسائل التي لا تخطر ببال الانسان من القتل والتهديد والسجن والابادة الجماعية واتبع سياسة الأرض المحروقة في ظل التعتيم الإعلامي الممنهج لجرائمه ليصرف أهل البلاد بصفة عامة وبركنتيا بصفة خاصة عن حقوقهم المسلوبة فلم يفلح هو وأدواته في تركيع هذا الشعب رغم المجازر التي ارتكبت بحقهم.. وفي عام 1967م تقريباً قام النظام بسياسة خطيرة ومحاولة يائسة ألا وهي مسح الأرض بحرق البيوت والممتلكات وبطرق عشوائية ومفاجئة بعد أن يئس في تركيعهم متذرعاً بمزاعم واهية كعادته ولكن لم يؤثر هذا على الشعب الأصيل بل زادهم اصراراً وتمسكوا بأرض الأجداد والآباء مما حنق عليهم العدو البغيض فأعاد الكرة مرة أخرى في نهاية نفس العام وفي موسم حصاد المحاصيل.. وكانت هذه قاسمة الظهر حيث وصلت طلائع الجيوش الأثيوبية في سبع سيارات محملة بجنود مدججين بالسلاح فحاصروا بركنتيا من جميع الجهات وطلبوا من السكان الخروج فوراً إلى برحة في وسط البلدة تسمى (مقايحو) وخاطبهم قائد الجيش الاثيوبي بأنهم جاءوا لحمياتهم من الشفتا يقصد (الثوار) واثنى عليهم بأنهم مواطنون اثيوبيين ومخلصين لحكومتهم
وأراد بذلك أن يبعث فيهم الإطمئنان وأن لا يخافوا من هذا الجيش الذي ما أتى إلا لحمايتهم.. ولكن ملامح وجهه وبريق عينيه ونبرات صوته كانت تضمر شيء ما فالإنسان الغادر مهما أخفى دسيسته وخبثه يظهرها الله بطريقة أو أخرى.. فأردف قائلاً أنهم الآن متجهون إلى حلحل وغدا سيعودون إلى بركنتيا ويريدونهم في اجتماع هام فبلغوا الأعيان أن يجمعوا كل السكان من الرجال والنساء والأطفال في برحة (مقايحو) يوم غداً.. و لم يروق هذا الطلب لسكان بركنيتا وبفراسة زعمائهم قالوا إن في الأمر شيء ما.. فدار حوار وجدال بين السكان فالبعض استبسط الأمر وقالوا أن الأمر عادي وبسيط و لا يحتاج أن نتوجس منهم فآثروا عدم الخروج من بيوتهم.. والبعض الآخر قال أن هذا الجيش لم يأت إلا لشيء في نفس يعقوب فليس من العقل والحكمة والمنطق أن نجمع نساءنا واطفالنا ورجالنا للعدو وننتظر الموت فلابد من الخروج.. وأخيراً كان الأمر بالخيار من أراد أن يخرج فله ذلك ومن أراد الجلوس في بيته فله ذلك، ثم من باب الإحتياط والأخذ بالأسباب أرسلوا اثنين من الشباب في في الطريق المؤدي إلى حلحل مكان يسمى (ششا) وهو مكان استراتيجي مرتفع يكشف القادم من جهة حلحل ومن جهة بركنتيا في نفس الوقت ليسترقوا السمع إذا ما كانت هنالك أحداث والمكلف بهذه المهمة كان الأخ يسن حاج محمد ركا ومعه شخص آخر.. وتبين الأمر فيما بعد بأن خطة الجيش
الاثيوبي كانت حرب إبادة تبدأ من حلحل ثم النزول إلى بركنتيا ثم إلى كرن وقتل كل كائن متحرك وحرق كل بيت قائم وبلا تمييز في طريقهم. وبعد أن بدأت الشمس ذلك اليوم تدنو من الغروب نزل الأخ يسن حاج محمد من موقع المراقبة ولم يجد أي خبر فأتجه إلى بركنتيا وقبل وصوله جاء الخبر إلى بركنتيا عن طريق شخص مُرسل من أهل حلحل ليخبروهم بما فعله الجيش الاثيوبي في سكان حلحل خاصة (عد سمرعين) من القتل والتنكيل والنهب وحرق البيوت.. فطلب الشخص من أهل بركنتيا الخروج فوراً قبل أن يصل الجيش وهو الآن في الطريق قادم.. فانتشر الخبر بين السكان فخرجوا من بيوتهم إلى المزارع المجاورة لبيوتهم وتواروا فيها وكما اسلفت كان الوقت موسم حصاد الزراعة، والبعض اختفى خلف الأشجار وفي الوديان بسرعة فائقة.. وبعد وصول طائع الجيش الاثيوبي الغاشم إلى اطراف بركنتيا كان الأخ يسين في الطريق فلحقوا به فكان أول شخص قُتِل رحمه الله ثم توغلوا في البلدة ولحسن الحظ لم ينتشر الجيش في المزارع بل كانوا يسيرون في الطرق المسلوكة قاصدين (برحة مقايحو) وحسب طلبهم متوقعين أن السكان في انتظارهم حتى يسهل القضاء عليهم في وقت وجيز وبفضل الله لم يجدوا العدد كما توقعوا عندها جنّ جنونهم وقاموا بطريقة عشوائية يبحثون هنا وهنالك فمن وقع عليه بصرهم قتلوه مباشرة فكان القتلى من الشهداء في ذلك اليوم كل من:-
• يسين حاج محمد ركا وهو الذي كان مكلف بالمراقبة.
• زوجة على بخيت محمد باتور (قتلوها واحرقوا جثتها في منزلها).
• ابتيس حاج محمد ركا.
• محمد إدريس مارياي
• اسماعيل ادريس مارياي.
واحرقوا معظم البيوت والممتلكات ونهبوا ما استطاعوا حمله وهذا تم في قت قصير جداً قبل المغرب بقليل والله قد أعمى أبصارهم عن الناس داخل المزارع وإلا لكانت الكارثة كبيرة لو دخلوا في المزارع وبحثوا خلف الأشجار فمروا في اتجاههم إلى كرن بقرية صغيرة تسمى (عِلم أمير) وهي على بُعد اثنين كيلومتر تقريباً من بركنتيا ولم يجدوا فيها احد حيث اختفى السكان بعد أن وصلهم الخبر ووجدوا رجل مريض طريح الفراش لا يستطيع الحراك فقتلوه.. ثم أسدل الليل سدولهم في المنطقة وبعد تأكد الناس من خلو البلدة من الجيش وبعد غروب شمس ذلك اليوم الأليم خرجوا من مخابئهم يتفقدون بعضهم البعض الحريق المنبعث من البيوت المحترقة يضيء المكان برمته ويبدد الظلام فجمعوا الجثث المتناثرة هنا وهناك وتم تجهيزهم ودفنهم ومن صبيحة الغد غادر السكان إلى المناطق المتاخمة لبلدتهم من القرى والهجر والهضاب والبعض الآخر انتقل إلى كرن فاستقر بها ويخرج فقط عند موسم الزراعة للزراعة ثم مرة أخرى للحصاد. وبما أن علاقة الإنسان بأرضه عظيمة وبالغة في النفس مهما كانت المصائب بمكان من الصعوبة فلا يود أن ينفك منها أبداً، شيئاً فشيئاً عاد البعض وبحذر شديد فشرعوا في البناء للمرة الثالثة ولكن لم يدم الحال طويلاً حيث عاد الجيش الاثيوبي مرة أخرى فهدم البيوت ونهب الأخشاب والزنك ولم يترك شيء.. فهنا خلت الأرض من أهلها تماماً وقَدم إليها سكان آخرون من مناطق أخرى حتى بعد الاستقلال لم يجرأ أحد على العودة وتم تغيير ديمغرافي واسع في بركنتيا ولا يوجد الآن من السكان القدماء إلا القليل جداً يكاد لا يذكر ومهما كانت النتائج قاسية والتغييرات مؤلمة فبركنتيا لها طعم خاص في نفوس أهلها ونكتها متميزة في قلوب أبنائها لا يمكن أن تنسى فلابد لليل أن ينجلي مهما عظم ظلامه وادلهم أمره ولابد للقيد أن ينكسر مهما غلظ وقوي، فحتماً سيأتي ذلك اليوم الذي ستعود فيه بركنتيا إلى سيرتها الأولى وليس ذلك بعزيز على الله.