أما البداية كانت قبل نصف قرن من الزمان !! الثورة التي حرفت عن مسارها
بقلم البروفيسور الدكتور: تسفاظيون مدهاني - لندن ترجمة الأستاذ: زين العابدين محمد علي شوكاي - ستوكهولم، السويد
تنبيه: هذه الدراسة تم تقديمها من قبل البروفيسور تسفاظيون مدهاني في 24 سبتمبر 2011، في الاحتفال الذي قام بتنظيمه فرع
جبهة التحرير الإرترية في بريطانيا، بمناسبة مرور خمسين عامًا على بداية الثورة المسلحة. قام البروفيسور تسفاظيون بتقديم هذه الدراسة بصفته الشخصية وبحرية تامة. ولحضوره هذه الاحتفالية، وتقديمه هذه الدراسة القيمة، نقدم من صميم قلوبنا الشكر للبروفيسور تسفاظيون مدهاني.
الإخوة الأعزاء قيادات وممثلو وأعضاء جبهة التحرير الإرترية
المحترمون والمحترمات الأعضاء والمساندون لتنظيمات المعارضة الأخرى
المحترمون والمحترمات المشاركون كافة
في البداية أرغب في التعبير عن امتناني لأولئك الذين نظموا هذه المناسبة التاريخية وقدموا لي الدعوة، ثم أود التعبير عن سعادتي البالغة لحصولي على فرصة التعرف على المشاركين في هذه المناسبة التاريخية من المقيمين في إنجلترا.
من وجهة نظري هناك عدد من المبررات التي تجعل من هذا اللقاء مناسبة تاريخية، فاليوم الأول من هذا الشهر كان مناسبة الذكرى الخمسين لبداية الثورة المسلحة، وبالتالي فإن هذا اللقاء وبحكم أنه احتفاء بهذا التاريخ وتخليد له، يكتسب أهمية كبيرة. ثانيًا، تعتبر هذه المناسبة أيضًا ذكرى وفاة المناضل عبد الله إدريس التي لم يمض عليها عام واحد، هذا المقاتل الذي بدأ يعاد النظر إلى دوره في ثورتنا بروح جديدة وبمنظور جديد، لذا يكتسب هذا اللقاء أهمية كبيرة.
بالنسبة لي أعتبر هذه المناسبة مناسبة تاريخية، باعتبار أنها أول مناسبة إرترية تقام في إنجلترا يتاح لي المشاركة فيها، بالإضافة إلى أن هذه هي المرة الأولى التي أشارك فيها في برنامج تنظمه جبهة التحرير الإرترية بعد الانشقاقات التي لحقت بها في عام 1982.
وعندما تتمكن جبهة التحرير الإرترية من تنظيم برنامج بهذا المستوى في إنجلترا، يتضح من ذلك أنها تحاول أن توجد لنفسها تواجدًا ذا مغزى في العالم الغربي، والذي يتطلبه برنامجها الوطني الذي يتميز بالانفتاح تجاه كل الإرتريين، الأمر الذي يمنحها الثقة والوضوح الفعلي، وبناءً على ذلك يصبح هذا اليوم يومًا هامًّا بالفعل.
وفي الثالث من سبتمبر كنت قد دعيت إلى المشاركة في مهرجان نظمته جبهة الإنقاذ الوطني الإرترية في فرانكفورت بمناسبة الذكرى الخمسين لبدء الكفاح المسلح، وشاركت فيه بالفعل، ولم أشارك في تلك المناسبة بأي خطاب مكتوب، إلا أنه في النقاشات التي دارت بهذه المناسبة، أعطيت لي فرصة للإدلاء بآرائي في القضايا المطروحة، وأبديت ملاحظاتي بصورة مختصرة. وفي هذا اللقاء سأتناول النقاط التي أثرتها في لقاء فرانكفورت، بالإضافة إلى بعض الأفكار الجديدة بشيء من التفصيل. وقبل أن أقوم بذلك، وباعتبار أن هذه المناسبة أيضًا هي مناسبة لتأبين المرحوم عبد الله إدريس، اسمحوا لي أن أوضح باختصار آرائي في بعض الذكريات التي أحملها عنه، وعن دوره في الثورة الإرترية.
[1]
أنا لست من بين أولئك الذين كانوا يعرفون عبد الله إدريس عن قرب، إلا أنني كنت أتمتع ببعض المعرفة التي تمكنني من الاعتماد عليها كأساس لإعطاء آرائي في بعض القضايا، لذا لم أجد حرجًا من إبداء الآراء والملاحظات التالية.
التقيت وتعرفت على عبد الله إدريس للمرة الأولى في السبعينيات في مدينة الخرطوم، وحتى مغادرتي الخرطوم، التقينا في مناسبات معينة تتعلق بالثورة الإرترية وناقشنا خلالها بعض الآراء. وحتى لو كنا نلتقي ونتحاور إلا أن علاقتنا لم تتميز بالعمق والحميمية، وبالتالي كانت معظم آرائي عنه مشوبة بالمعلومات الخاطئة.
كان اسم عبد الله إدريس خلال فترة الثورة الإرترية عرضة للتشويه. وبالنسبة للتساؤلات عن الأسباب، أو السبب الرئيسي في ذلك، يمكن أن تكون هناك آراء متباينة. أما في رأيي أنا هو أن السبب الرئيسي في ذلك أنه كان العنصر القيادي البارز الذي تخشاه قيادة الجبهة الشعبية من بين قيادة جبهة التحرير الإرترية. وهذا يمكن أن يكون التوضيح الأساسي في رأيي، أما الباقي، ففي داخل تنظيم جبهة التحرير الإرترية كان هناك من يبحث عن أخطائه أو من يعتقد أنه ارتكب جرائم، وبالتالي كانوا يقومون بتشويهه. أما السبب الرئيسي في حملة التشويه ضد عبد الله، وللتأكيد عليه للمرة الثانية، كان عبد الله إدريس أكثر من يخشاه إسياس أفورقي وأعوانه.
وقد أثَّرت حملة التشويه الموجهة ضد عبد الله إدريس علينا جميعًا. وحتى أنا شخصيًّا، وبعد أن تأثرت بحملة التشويه تلك، وفي كتابي الأول الذي تمت إدانته مرة بخبث ومرة أخرى بعدم المعرفة - كنت قد تعرضت له بصورة سلبية. واستمر تقييمي السلبي له لسنوات عديدة.
وأجبرت منذ عام 1993 إلى أعادة تقييم الآراء التي كنت أحملها عنه، والتي كنت قد وضعتها بشكل مكتوب، فقمت بإعادة فحصها. في ذلك العام، وفي المهرجان الذي كان تنظيم جبهة التحرير الإرترية - المجلس الثوري يقوم بتنظيمه في مدينة كاسل بألمانيا، كنت قد قمت لأول مرة بتقديم محاضرة عن الديمقراطية والأوضاع في إرتريا. وتم تصوير تلك المحاضرة بالفيديو، ونشرت في عدد كبير من البلدان. شاهد عبدالله شريط الفيديو ذلك في السودان، وأعجب بعمق بالطرح الذي ورد فيه.
وبعد أن شاهد شريط الفيديو، أرسل إلي رسالة تحمل تحياته عبر ممثل جبهة التحرير الإرترية في ألمانيا، الأخ إدريس دافئ. وكان محتوى الرسالة ما يلي: “الخطاب الذي ألقي في كاسل يعتبر هامًّا للغاية، وبالتالي يجب ترجمته إلى اللغة العربية. فإن كانوا في المجلس الثوري ينوون ترجمته بأنفسهم فذلك أمر جيد. ولكنهم إذا كانوا لا ينوون ترجمته فاسمحوا لنا نحن - أي الجبهة - أن نقوم بترجمته. أما أنا فقد انشرح صدري للمبادرة، وقلت لهم لا بد من التشاور مع المجلس الثوري. وقلت للمجلس الثوري “إن كنتم تنوون ترجمته فافعلوا، وإلاّ فإن تنظيم الجبهة مستعد للقيام بذلك”. فرد علي تنظيم المجلس الثوري بأنهم على استعداد لترجمته، وقاموا بترجمته بالفعل.
وكانت الرسالة التي بعثها إلي عبد الله في عام 1993، والتي كانت تحمل تحياته واستشارته لي هامة للغاية. ورغم تناولي السلبي له في كتابي، تجاوز عن كل ذلك، وأرسل إلي رسالة تحمل تحياته، انطلاقًا من اهتمامه بالمصلحة النضالية فقط. أدركت حينها أنه كان شخصية سياسية قوية، عندما تقدم إلي بآراء بناءة للتشاور معي فيما يمكن فعله.
ومنذ ذلك الحين انطلقت وبكثافة في إعادة فحص كل ما كان يقال عن عبد الله، كما بدأت بمراقبته بانتباه في المسيرة النضالية. ومن خلال المراقبة التي أجريتها أدركت أن الكثير من الأشياء السلبية التي ذكرت عنه كانت تشويهًا كاذبًا، وأدركت أنني وضعت في محتوى كتابي الأول جزءًا من هذا التشويه نتيجة تأثري به. وقررت بيني وبين نفسي أن أصحح ما ينبغي عليًّ تصحيحه من معلومات عند إعادة طباعة كتابي.
وأتيحت لنا في عام 1997 مناسبة طيبة، حيث قدم عبد الله في ذلك الوقت إلى ألمانيا للقيام ببعض المهام والتقيته شخصيًّا في مدينة هامبورغ. وبعد أن تبادلنا تحيات نابعة من القلب، قمنا بتقييم مختصر لما مضى من تاريخ واتفقنا بصدق. وعندما دخلنا في حوار مباشر بمفردنا، تناول عبد الله كتابي قائلاً “كان كتابك درسًا جيدًا لنا، تحدثنا عنه وناقشناه كثيرًا وأسهم في تطورنا”. واستغربت بجد من هذا الكلام، واستطعت أن أدرك مرة أخرى بصورة أفضل أن عبد الله رجل يتحكم في مشاعره الشخصية باقتدار، وأنه شخصية سياسية قوية. هناك أمرٌ عجيب أود تناوله بهذا الخصوص، فبينما عبد الله الذي آذيته في كتابي يثني عليَّ، هناك بعض التنظيمات المعارضة التي لم ألحق بها أي ضرر، بل إن البعض منهم الذين أثنيت عليهم، لم يتوانوا عن القيام بشن حملة تشويه ضدي شبيهة بتلك الحملة التي شنتها ضدي الشعبية والوياني.
وبناءً على التطورات التي تتالت بعد ذلك نتج عنها قيام “التجمع” الذي ضم عددًا كبيرًا من تنظيمات المعارضة، وكنّا أنا وعبد الله إدريس نتعاون بتفاهم جيد، في شؤون التجمع وقضايا وطنية أخرى.
ومنذ عام 1997 وبعدها، استطعت بالتعاون معه التحرك في قضايا تتعلق بشؤون التجمع، الأمر الذي اعتبره فرصة كبيرة لي، وأشعر بسعادة بالغة لحصولي على فرصة لتصحيح التصورات الخاطئة التي كنت أحملها عن عبد الله، والأهم من ذلك تمكني من توضيح ذلك له شخصيًّا.
وهناك في هذه المناسبة من يعرفون أكثر مني مساهمات عبد الله في تاريخ الثورة الإرترية، ولن أحتاج أن أوضح بهذا الشأن. لكن بودِّي أن أتطرق إلى بعض الخصائص التي كان يتميز بها في علاقته بالثورة، وأهمها في رأيي هي الخصائص التالية:-
1. الصمود: كان عبد الله إدريس يشكل رمزًا للصمود بالنسبة للكثيرين. وكان رغم صعوبة الظروف المحيطة به قادرًا على النضال ودفع الآخرين للنضال دون أن يكل. وكان لصمود عبد الله إدريس دورًا بارزًا في استمرار جبهة التحرير الإرترية، وبقائها معلمًا من معالم وحدة شعبنا ولتشكل تحديًا وطنيًّا حتى الآن.
2. الإخلاص: حسب المعلومات المتوفرة لدي، لم يكن عبد الله فقط مخططًا عسكريًّا، بل كان مناضلاً يخوض المعارك بنفسه.
3. الهدوء: كان عبد الله رجلاً يتميز بالهدوء في حديثه وبالسيطرة على نفسه. وانتبهت إلى هذه الخاصية في شخصه خلال تبادله الآراء في اللقاءات التي حضرتها بوجوده سواء كان ذلك في السودان أم في أوروبا، وفي ظروف متباينة. ورغم قلة المناسبات، فقد شاهدته أيضًا وهو يقود الاجتماعات، ولم ألاحظ مرة أنه رفع صوته على أي شخص أو أساء في حديثه إلى أحد.
4. الحرص على الرفاق: من واجبات القائد أن يُحَمِّس رفاقه ويقويهم في لحظات ضعفهم، وأن يعترف بقدراتهم ويشجعهم في أوقات قوتهم وإنتاجهم. وحسب شهادة الكثيرين كان عبد الله يتميز بتلك الصفات. وحسب تجربتي الشخصية الملموسة أيضًا، كان لا يألو جهدًا في رفع معنويات رفاقه الذين تضررت معنوياتهم.
5. الوطنية: من أسوإ التشويهات المؤسفة التي وجهت إليه كانت تهمتا القبلية والطائفية. وأصبحت الحقيقة تتضح شيئًا فشيئًا بأنها العكس تمامًا. كان عبدالله وطنيًّا عفيفًا، ولم تكن لديه أهداف جهوية أو قبلية، كما لم تكن لديه ميولات طائفية إسلامية متعصبة. كان عبد الله شخصية علمانية، وكانت الجبهة الشعبية وأتباعها تصفه بأنه يمثل القوى الإسلامية والقبلية في المنطقة الغربية. وإذا نظرنا إلي الأمور اليوم، فإن أولئك الذين كانوا يسيئون إلى عبدالله وإلى جبهة التحرير الإرترية عمومًا، ويطلقون عليها “عامة”، هم الذين كانوا يستخدمون بمختلف الطرق الأساليب الجهوية والطائفية. كان عبد الله ومنذ صغره قد تربي على الوطنية الإرترية، وتعرَف على الثورة وهو ما يزال في ريعان شبابه. وقد أوضح في أحد لقاءاته الصحفية، أنه التقى بمفجر الكفاح المسلح حامد إدريس عواتي وهو ابن الخامسة عشر أو السادسة عشر من العمر. فعبد الله إدريس الذي يحمل مثل هذا التاريخ استطاع أن يصبح بحق مقاتلاً وقائدًا لحركة وطنية.
وبعد أن عرجت على هذا الموضوع، دعوني أن أدخل الآن إلى لب الموضوع الذي التقينا من أجله هذا اليوم.
[2]
نحتفل اليوم بالذكرى الخمسين لبداية الثورة المسلحة، وانطلقت الثورة لتحقيق أهداف الاستقلال والحرية لشعبنا. ففي الأوضاع الإرترية الراهنة، آخذين في الحسبان الاضطهاد الجائر الواقع على شعبنا والذي يصعب وصفه، متمثلاً في الإذلال، والفقر، والاستعباد، يتضح لنا أن شعبنا يعاني من ضغوط استعمارية لم يشهد لها مثيلاً في تاريخه، ولم يحقق أي استقلال أو تحرير. ولهذا السبب كان عنوان خطابي هذا “أما البداية كانت قبل خمسين عاماً!” تعتريه نبرة تحسر. وبالتالي، ما الذي حصل للثورة المسلحة التي بدأها عواتي؟ كما أوضحنا مرارًا في السابق، فإن الثورة التي فجرها عواتي والتي مرت بتجارب الانشقاقات والحرب الأهلية تم حرفها لخدمة أهداف القوى الأجنبية. فالنظام القائم في إرتريا اليوم استعبد شعبنا في الداخل، وشرده إلى دول الجوار، حيث يمر في ظروف ليست أفضل بكثير عن ظروف الاستبعاد، وهذا ليس ناتجًا عن الثورة التي بدأت قبل خمسين عامًا، بل هو نتاج الانحراف الذي حدث فيها لاحقًا.
انحرفت الثورة التي بدأها عواتي عن مسارها في العام 1980-1981، وبعد تلك الفترة، التحرك العسكري الذي تم باسم الثورة الإرترية، في ظل هيمنة الجبهة الشعبية، لم يكن لمصلحة شعبنا ولصيانة حقوقه، بل كان في خدمة أهداف القوى الأجنبية. وكنتيجة لذلك يوجد في بلانا اليوم نظام يضطهد جميع فئات الشعب الإرتري، لذا من مصلحة الشعب الإرتري كله أن يناضل ضد النظام الديكتاتوري الذي يهيمن عليه إسياس أفورقي. ويعني ذلك أن يتخذ شكل المقاومة أو التنظيم الذي ينضوي تحته الشعب الإرتري نظام “الجبهة العريضة”.
[3]
هناك في هذا التوقيت أمر هام أثار النقاش في معسكر قوى المعارضة، وهو موضوع عقد المؤتمر الوطني. وقد مضت سنوات عدة منذ انطلاق هذا الموضوع، وقد أصبح مادة ساخنة للنقاش في عام 2003 وبعده. ففي المهرجان الذي نظم في كاسل في عام 2003، خرج ممثلو مختلف التنظيمات والحركات بإعلان أطلقوا عليه - إعلان كاسل. وشكلت بعدها لجنة للتحرك في هذا الخصوص بموجب مبادئ إعلان كاسل, وتم اختياري من قبل أعضاء اللجنة لأكون رئيسًا لها. قامت هذه اللجنة وبالإمكانيات المتاحة لها بإجراء دراسة مستفيضة تتناول كيفية تنظيم وإجراء وتمويل المؤتمر الوطني، وكيفية تنفيذ قراراته. وتم تسليم هذه الدراسة التي كان عنوانها “المؤتمر الوطني من أجل وحدة وإنقاذ إرتريا”، والتي أعدت باللغتين التجرينية والعربية إلى التحالف، كما نشرت الدراسة لعامة الشعب .
وهذه الدراسة هي ملك لنا نحن الإرتريين. وهي وثيقة تكتسب قيمتها من أنها ناتجة عن عملية شارك فيها ممثلو التنظيمات السياسية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني بكامل حريتهم.
فالتحالف، وكما أوضحت سابقًا في مناسبات عدة، ناهيك عن استخدام هذه الوثيقة رسميًّا، لم يبلِّغونا بشكل رسمي حتى “تَسَلُّمِهم” لتلك الوثيقة. وقبل أسابيع قليلة تحدثت إلي أحد زملائي في النضال حول هذا الموضوع فحدثني قائلاً “فعل التحالف بهذه الدراسة الخاصة بالمؤتمر الوطني، ما فعله إسياس أفورقي بالدستور الذي قدمه له البروفيسور برخت، حيث قام إسياس بدفن تلك الوثيقة فور تسلمه لها، وكذلك التحالف قام بدفن الدراسة فور تسلمه لها”. هذا الحديث كان صحيحًا، فالتحالف قام بدفن ذلك العمل الذي بذل فيه الكثير من الجهد والوقت. كما أن اللجنة التي قام التحالف بتكليفها للتحضير للمؤتمر الوطني قد ساهمت بدورها في دفن هذه الوثيقة. إلاَ أن الدراسة بحكم محتواها السليم والصحيح، وبحكم تحضيرها الشعبي والديمقراطي لا يمكن دفنها أبدًا. وإذا كان الهدف عقد مؤتمر وطني حقيقي يهدف إلى وحدة وإنقاذ إرتريا، فلن يتجاوز الحدود المرسومة له في دراستنا سواء من حيث الأفكار الواردة فيها أو في شكل تنظيمه.
وكما تتابعون جميعًا، تجري في هذه المرحلة تحركات كثيرة تحت مسمى المؤتمر الوطني، كما وأنكم يمكن أن تكونوا قد تنبهتم بأنني لا أشارك فيه بأي شكل من الأشكال. وهناك البعض ممن استفسروا عن أسباب إحجامي عن المشاركة من منطلق الحرص. لدي أسباب تدعوني إلى عدم المشاركة، لكنني لن أدخل الآن في تفاصيلها. وكما تقدرون بالتأكيد، تنبهت منذ البداية إلى أمور لم ترق لي. فمثلاً، كما ذكرت سابقًا تسير الأمور باستبعاد الجهد الكبير الذي بذلته أنا وزملائي أعضاء اللجنة، وهذا يعتبر إهانة كبيرة لنا جميعًا، وبالتالي من الطبيعي أن يثير هذا الموضوع شكوكي وحنقي .وإذا كان هناك بعض الإخوة والأخوات الذين ينتظرون منِّي أن أقبل مثل هذه الإهانة بخضوع فهم مخطئون.
وبمناسبة الحديث عن المؤتمر الوطني، هناك بعض الخصائص التي تميزه، ومن بين أهم مميزاته هي أن يكون المؤتمر سيد نفسه، وماذا يعني مفهوم السيادة بالنسبة للمؤتمر الوطني؟ يعني ذلك أن تكون الجماهير المشاركة فيه متحررة من تدخلات أي طرف. كما يعني ذلك أن المؤتمر، سواء في تنظيمه أم في سير أعماله، يجب ألاّ تكون هناك أي قوة تصدر أوامرها أو تمارس ضغوطها عليه بأي شكل من الأشكال. وتعتبر قضية التمويل ذات أهمية كبرى في سير أعمال المؤتمر، وبالتالي يجب أن يكون المؤتمر سيد نفسه أيضًا في قضية التمويل. نعم، يحتاج المؤتمر إلى المساعدات، إلا أن المساعدات المقدمة من الحكومات أو المنظمات والحركات والتنظيمات غير الحكومية أو الأفراد ينبغي أن تكون نابعة من روح تضامنية. والقائمون على شؤون المؤتمر يقومون بتوظيف الأموال الممنوحة لهم في تنظيم المؤتمر وسير أعماله دون أن يضر ذلك بقضية سيادته.
وقد أحجمت عن المشاركة في هذا المؤتمر نتيجة إحساسي بالحرج بالنسبة للنقاط المذكورة أعلاه وغيرها من النقاط. إلا أني ليس لدي في هذه المرحلة قضايا تفصيلية يمكنني الخوض فيها، وأن العملية التي بدأت لابد أن تستمر حتى نهايتها. وعند انتهائها سأصدر تقييمي لها. فإذا وجدت فيه ما يستحق دعمي سأدعمه، أما الجوانب التي لا تستحق دعمي، ها أنذا أنبه منذ الآن على أنني سأقوم بالكشف عنها.
والسبب الذي جعلني أختار عدم الحديث الآن هو إعطاء الفرصة لهذه العملية لبلوغ الهدف المرجو منها، وبالإمكانيات الطبيعية المتاحة لها. ومن المحتمل أنه إذا حدثت بعض المشكلات، من المهم التنبه إلى أنه يمكن أن يقال إن البعض كانت إسهامهاتهم في هذا الشأن ضارة. وهنا أود التأكيد على قضية هامة وهي أنه وبصرف النظر عن التحفظات التي لدي الآن، أعرب عن تمنياتي القلبية بأن تكلل الجهود التي تبذل بالنجاح.
[4]
لدي ملاحظات حول المشكلات التي تحيط بعملية التحضير للمؤتمر المزمع عقده، ومعظم هذه المشكلات ذات علاقة بتاريخ وواقع تنفيذ عملية حرف الثورة عن مسارها المؤسفة التي سبق الحديث عنها.
نناضل نحن في قوى المعارضة من أجل الديمقراطية وبالتالي لإنقاذ الدولة الإرترية. ومنذ عام 1991 تسعى كل التحركات إلى إقامة نظام ديمقراطي.
هناك نضالات لإقامة الديمقراطية في عدد كبير من الدول في أفريقيا وآسيا. كما أن هناك عددًا من العوامل التي يجب أن تتوفر في أي بلد أو مجتمع من أجل إقامة الديمقراطية وازدهارها. أحد هذه العوامل الذي يؤخذ غالبًا كأحد المسلمات، ولا يتم الحديث عنه هو “وجود الدولة”. لابد أن يكون هناك وطن للحديث عن إقامة نظام ديمقراطي. وبالتالي إذا كنا نسعى من أجل إقامة نظام ديمقراطي في إرتريا، علينا أولاً وقبل كل شيء أن نؤكد على كيان هذه الدولة المعروفة بدولة إرتريا. وللتأكيد على ذلك، يجب علينا أن نحذر، بل علينا أن نناضل ضد السياسات التي تهدد استمرارية إرتريا كوطن واحد، وتشكل خطرًا عليه.
وبالتالي إلحاقًا بذلك، يجب علينا أن نتناول الموضوع الذي أثار جدلاً بمناسبة التحضير للمؤتمر الوطني المزمع عقده، وهو موضوع حق المجموعات القومية في تقرير مصيرها حتى الانفصال .
ففي فترة الكفاح المسلح من أجل التحرير، رغم أن موضوع حق المجموعات القومية لم يحظ بالاهتمام الكافي الذي يستحقه، لكن لم يتم تجاهله، بل نال اهتمامًا بمنظور ديمقراطي وفي إطار الوحدة الوطنية الإرترية. أما السياسة الداعية إلى حق المجموعات القومية حتى الانفصال ظهرت بعد خروج تنظيم جبهة التحرير الإرترية الأم من الميدان بتكالب الجبهة الشعبية والوياني. بمعني آخر، ظهر خطاب الانفصال بعد أن تم حرف الثورة الإرترية عن مسارها. فعليه، إذا أخذنا في الاعتبار الظروف التي ظهر فيها هذا الشعار، والمخاطر التي يجسدها، فالموقف من حق المجموعات القومية حتى الانفصال والحملة التي رافقته كانت عبارة عن نتيجة وظاهرة تعبِّر عن ذلك الانحراف حسب رأيي.
كنا قد تحدثنا في السابق عما يعنيه حق المجموعات القومية، وكنا قد قدمنا في الدراسة التي أعدتها لجنتنا الخاصة بالمؤتمر الوطني ملحقًا يوضح كيفية ترجمة وتنفيذ هذا الموضوع بالتفصيل. وهناك نقطة جوهرية وردت في تلك الدراسة علي النحو التالي:-
• ”نحن نؤمن بمساواة كل المجموعات القومية. ويحق للمجموعات القومية أن يكون لها دور كبير في إدارة شؤونها بنفسها بما يتناسب مع البرامج والسياسات الوطنية. كما يحق لها استخدام لغاتها القومية للأهداف والبرامج التي ترغب في تطويرها، والافتخار بثقافاتها، وأن تعكس ثقافاتها بالشكل الذي ترغب فيه، وأن تكون هناك ضمانات عملية تحمي ذلك“.
• ”والحفاظ علي المساواة بين مجموعاتنا القومية، والتأكيد عليها عمليًّا، لا يعتبر حقًّا ديمقراطيًّا أساسيًّا فقط، بل هو نهج هام لاستمرارية وحدة بلادنا. ويجب معالجة قضايا المجموعات القومية بكثير من الحذر، وبصورة عادلة. كما يجب على الحكومة الإرترية الحقيقية أن تجعل من قضية الدفاع عن المساواة بين المجموعات القومية وتطويرها وتشجيعها أحد الأهداف الرئيسية لها“.
هذه هي النقطة أو الرسالة الأساسية، أما التفاصيل الأخرى عن هذا الموضوع أوصي بقراءتها باهتمام في الملحق المرفق بالدراسة.
وكما أسلفت ذكره، كان يتم تناول موضوع حقوق المجموعات القومية في المراحل السابقة في إطار وحدة إرتريا، ويتم دعمه علي هذا الأساس. وهذا الحديث عن الحقوق حتى الانفصال الذي ظهر بعد أن تم حرف الثورة الإرترية عن مسارها يمكن أن يكون في منتهي الخطورة. وباسم حق القوميات في تقرير مصيرها يمكن أن تضيع إرتريا بعد تقسيمها إلى أجزاء متفرقة.
ويجب أن نتحدث عن هذا الموضوع بربطه بالمؤتمر المزمع عقده. وكما يذكر الكثيرون فإنه وقبل عدة أسابيع من انعقاد الملتقى في السنة الماضية، تم عقد مؤتمر خاص بتنظيماتنا القومية في مدينة ”مقلي“. وبعد أن ناقش المؤتمر بالتركيز على قضية القوميات، تبنَّى المؤتمر موقفًا يؤكد على ”حق القوميات في تقرير مصيرها حتى الانفصال“. كما أعلنت بعض التنظيمات التي تعبِّر في تكوينها عن الأشكال الشبه قومية عن دعمها لهذا القرار. وربما حتى يقال عن هذه التنظيمات أن لها رؤية مختلفة، فبدلاً من طرح موضوع الانفصال بصورته الفجة، حاولت هذه التنظيمات إدراج كلمات مثل هل يكون الانفصال نتيجة استفتاء أم بصورة مطلقة. ولا يمكن لمثل هذه المحاولات أن يكون لها أي تأثير، وسواء كان ذلك بالاستفتاء أم بصورته المطلقة، فالفكرة الأساسية التي حظيت بالدعم كانت فكرة الانفصال .
وكنت قد أوضحت في المهرجان الذي عقد في فرانكفورت في الثالث من سبتمبر، في الرأي المختصر الذي أبديته حينها، أن فكرة ”الانفصال“ التي طرحت في معسكر المعارضة في الآونة الأخيرة لها علاقة ”بأجندة أجنبية“، وها أنا الآن أيضًا أكرر الرأي نفسه، فالحملة الداعية إلى الانفصال تحمل رسالة أجنبية. هذا الموقف الداعي إلي حق القوميات حتى الانفصال، والذي تم تضمينه في دستور الدولة الإثيوبية، يعتبر أحد موجهات العمل المركزية لتنظيم الثورة الشعبية لتحرير تجراي. وأن غالبية هذه التنظيمات التي تنادي بحق تقرير المصير حتى الانفصال هي تنظيمات كانت ومازالت تتمتع بعلاقات متينة بالثورة الشعبية لتحرير تجراي، منذ أن تم حرف الثورة الإرترية عن مسارها. وارتباطًا بهذه النقطة، يجب هنا أن نذكر أنه وفي المؤتمر الذي عقد في “مقلي” للتنظيمات القومية، قدم الدكتور كحساي جبريسوس، وهو مناضل قديم في الوياني، دراسة شاملة وقيمة في المؤتمر، والتي جعلت من موضوع القوميات القضية المركزية، كما أن هذه الدراسة شملت ”تجربة الثورة الشعبية لتحرير تجراي“. واضعين في الاعتبار كل هذه القضايا، نرى بوضوح أن موضوع حق الانفصال مرتبط بسياسات الثورة الشعبية ”الوياني“، بل هو ناتج عنها أساسًا.
وعند سؤالي للبعض ما هي الحاجة إلى الإقرار بحق المجموعات القومية حتى الانفصال؟ ولماذا لم يتم الاكتفاء بإقرار حماية حق المجموعات داخليًّا؟ كنت أحصل على إجابات قريبة من الإجابة التالية: هذا الخط الذي يرفع شعار الانفصال هو للضمان، وهو حق تلجأ إليه القوميات في حال تعرضها للاضطهاد، أما إذا توفرت الحماية لحقوق القوميات فليس هناك ما يدعوها للانفصال.
هذه الحجة ليست مقنعة أو مرضية. فالنظام القائم، كالنظام الموجود حاليًا في أسمرا، وباعتباره ظالمًا، فليس هناك ما يعجبه سواء تم إقرار حق الانفصال كفقرة دستورية أم لم يتم ذلك. والقومية التي تنادي بالانفصال لأنها مضطهدة، فسوف لن يسمح لها النظام الظالم، ولو سمح النظام بذلك يعني بالطبع أنه ليس نظامًا ظالمًا!! وبالتالي، وفي مثل هذه الظرف، لو قامت هذه القومية أو تلك بالانفصال، لن يتم ذلك لوجود فقرة دستورية تسمح لها بذلك، بل لأنها تملك القوة للقيام بذلك فعلاً. (والسؤال المتعلق بمصدر القوة ماهو ومن أي بلد يأتي، فهو سؤال قائم بذاته). بالإضافة إلى انه إذا كان الضمان للانفصال عن طريق القوة فقط، وهو بالفعل كذلك، فقومية ما حتى قبل تعرضها للاضطهاد، يمكن لبعض المجموعات ولأهداف معينة أن يجعلوها تنفصل تحت حجة ”الاضطهاد“ أو ”حق تقرير المصير“.
[5]
وبحكم أن هذه النقطة المتعلقة بالانفصال ذات صلة بموضوع الاضطهاد، يمكن أن تكون لها نتائج ضارة علي العلاقات بين المجموعات القومية الإرترية. وأن معظم التنظيمات السياسية التي تتبنى حق تقرير المصير حتى الانفصال في إرتريا تقدم الاضطهاد القومي باعتباره أحد المشكلات الأساسية في هذه المرحلة. وهناك بعض الحركات من بينها مثلاً المجموعة التي تطلق علي نفسها “مبادرة تأسيس قومية التجرينيا في إرتريا” تطرفوا إلى درجة أنهم يدَّعون أن قضية القوميات والمجموعات القومية ليست فقط هي “القضية الوحيدة المتفجرة، والآنية، والمرحلية”، بل وكأنها في هذه المرحلة هي “الأسلوب الصحيح والعادل للنضال”، ليتم تنظيم القوميات والمجموعات القومية على أساسها. هذا الطرح يعتبر خطيرًا، وبحكم أنه لا يقر فقط بوجود اضطهاد قومي، بل يعتقد أن الاضطهاد القومي هو الأساس أو “الوحيد القابل للتفجير”. ويعني ذلك القول إن الظلم القائم في إرتريا أساسًا هو اضطهاد قومي، ما يعني بدوره أن هناك في إرتريا قومية تمارس الاضطهاد، وقوميات أخرى وقع عليها الاضطهاد. ومثل هذا الحديث يعتبر خطيرًا في وضعنا الراهن.
ماهي القومية التي تمارس الاضطهاد في إرتريا؟ كما يشهد عليه أي مراقب عادل، فإن في إرتريا اليوم نظام الفرد الواحد الاستبدادي الذي يضطهد الجميع دون تمييز. وكما قلت في أحد الخطابات التي ألقيتها قبل عدة سنوات، والذي كان يحمل رسالة مفادها “أن هذا النظام ليس نظامًا للمرتفعات، وليس نظامًا للمنخفضات، وليس نظامًا لأبناء بركا أو سمهر، وليست حكومة أبناء حماسين، وليست حكومة أكلي غوزاي أو سرايي، بل إن هذا النظام هو حكومة إسياس”، وبالتالي هذه هي الحقيقة. وحكومة إسياس تضطهدنا جميعًا. ووصل هذا الاضطهاد إلى كل أسرة، وكل إقليم، وكل قومية.
وبالتالي، رغم تعرض كل فئات الشعب الارتري للاضطهاد، بصرف النظر عن انتماءاتهم الإقليمية والدينية، فالقول بأن هذا يمارس الاضطهاد، وذاك واقع عليه الاضطهاد، هو أسلوب يفتقد الكياسة، ويتم طرحه لتمرير برنامج معين. وربطًا بهذا الموضوع، يقال مثلاً إن المجموعة القومية الناطقة بالتجرينية تمارس الاضطهاد، أي أنها تضطهد المجموعات الأخرى، ويمكن سماع مثل هذه الأحاديث المؤسفة بين حين وآخر.
فما هي الخصائص التي تجعل من هذه القومية المتحدثة باللغة التجرينية مضطهِدة للآخرين؟ أليس المتحدثون بالتجرينية مثلهم مثل غيرهم من أبناء الوطن محرومين من حقوقهم في كل المجالات! أليسوا هم مثل سائر الارتريين يُقتَلون، ويُسجَنون، ويجوعون، ويصابون بالجفاف في الصحراء، ويغرقون في البحار؟
صحيح أن إسياس هو شخص يتحدث التجرينية، وهناك عدد كبير من معاونيه من المتحدثين ياللغة التجرينية، (رغم أن هناك من يتحدثون باللغات الارترية الأخرى أيضًا من بين مراسليه وخدَّامه)، كما أن الكثيرين ممن يصفقون له في الخارج، بعضهم بسذاجة والبعض الآخر بخبث، هم أيضاً من المتحدثين بالتجرينية. لكن هذا لا يمنحنا الحق لأن نقول إن المتحدثين بالتجرينية في إرتريا كقومية يقومون باضطهاد الآخرين. وكيف يمكن للإنسان أن يقوم باضطهاد الآخرين وهو نفسه مضطهد !!
وفي هذا التوقيت لا نرى فقط المحاولات الرامية إلى عزل المتحدثين بالتجرينية عن القوميات الإرترية الأخرى، بل نلاحظ الجهود المبذولة لربط المتحدثين باللغة التجرينية من أبناء الهضبة الإرترية بالمتحدثين بالتجرينية في إثيوبيا. فمثلاً كنت قد تناولت هنا في وقت سابق الحركة التي تطلق على نفسها “مبادرة تأسيس قومية التجرينيا في إرتريا”، وبالتالي فإن لاسم الحركة وحده مدلولات يشير إليها، وهو أن قومية التجرينيا توجد أيضًا خارج إرتريا. وترجمة لمثل هذا التوجه ودعمه بشكل ملموس تم إنشاء ما تعرف ب”جمعية السلام والإخاء للأسر الناطقة بالتجرينية والقوميات المجاورة لها”. وكما تشير اللائحة الداخلية لهذه الجمعية فإن مقراتها المرحلية هي في أديس أبابا، ومدينتي “شيري” و “مقلي” في إقليم تجراي. “ويحق لكل الناطقين بالتجرينية في إثيوبيا وإرتريا الحصول على عضوية الجمعية”. وتهدف اللائحة الداخلية للجمعية خلق إحساس لدى أفراد قومية التجرينيا بأنهم أعضاء في جسم واحد. وأن الهدف الرئيسي لهذه الجمعية هو العمل الدؤوب على “أن تعيش الأسر من قومية التجرينيا في موطنها الدائم في عزة ومنعة”.
ونلاحظ الآن بأن هناك برنامج أو محاولة لعزل الشعب الذي يتحدث التجرينية ويستوطن الهضبة الإرترية عن سائر القوميات الإرترية بصورة عملية من جهة، ومن جهة أخرى القيام بحملة بأن هذا الشعب يشكل جزءًا مكملاً لشعب تجراي. وهذان الطرحان ليسا متناقضين، بل يساعد أحدهما الآخر ويُغذِّيه. وبتضافر هذين الموقفين يتم دفع وتيرة عزل الهضبة الإرترية عن سائر القوميات الإرترية وربطها بتجراي. وعند حديثي مع بعض المراقبين يرون في هذه المحاولات تمهيدًا للبرنامج الخفي وهو مشروع “تجراي تجرينيي”.
والآن أريد العودة إلي المقولة التي تدعي بأن قومية التجرنيا تقوم باضطهاد القوميات الأخرى، فهذه المقولة بالإضافة الي كونها كاذبة، فإنها تخدم في المطاف النهائي نظام إسياس. كيف؟ إذا قلنا أن قومية التجرينيا هي قومية تقوم باضطهاد الآخرين، يعني ذلك انعدام الثقة بينهما وبين الآخرين. ولذلك، لا يمكن التحالف مع أبناء الهضبة الإرترية بنيَّة صادقة من أجل إسقاط نظام إسياس، وبالتالي سوف تبرز صعوبات في تنظيم وخوض نضال من أجل إسقاط نظام الفرد الواحد، من خلال تشكيل جبهة وطنية عريضة، أو تحالف يضم كل المجموعات القومية أو الحركات السياسية الإرترية للمضطهِد والمضطهَد لتتعاون في جبهة واحدة أو في تحالف واحد بفاعلية. وبالتالي لن يصبح النضال الذي يخاض ضد إسياس متصاعدًا، وبذلك يطول أمد نظام إسياس الاستبدادي.
وليس من الحكمة سياسيًّا وصف جميع أبناء القومية الناطقة بالتجرينية يأنهم يمارسون الإضطهاد ضد غيرهم, بل يمكن وصفها بسياسة غبية. ما السبب إذًا في مثل هذا القول؟ السياسي الرصين والمحنك يعرف الأساليب التي تحقق له المكاسب وينتهجها. وإذا سألنا ماهي الأساليب الي تحقق مكاسب لتنظيمات المقاومة الحقيقية في هذا الوقت، يمكن القول إنه وبالقدر المستطاع جذب قطاع واسع من أبناء الشعب الإرتري إلى صفوفها للنضال ضد حكومة إسياس أو حكومة الجبهة الشعبية. وهذا من مصلحة تنظيمات المقاومة. ولو نظرنا إلى الأمور بهذا المنظور، فإن ترداد مقولة أن قومية التجرينيا تمارس الاضطهاد لايخدم مصلحة المعارضة الإرترية. فإذا قلنا لكل من يتحدث التجرينية إنه ينتمي إلى القومية المضطَهِدة، فإننا ندفعه لأن يذهب إلى إسياس وحزب الجبهة الشعبية. وهذا معناه أنه إذا كانت قوى المعارضة تردد أن قومية التجرينيا هي قومية تمارس اضطهاد الآخرين، فإنها تعمل ضد مصالحها.
والسياسة الحكيمة والفاعلة يجب أن تتوجه ضد مثل هذه الأطروحات. وبحكم الحاجة إلى تعبئة كافة الطاقات الإرترية إلى جانب قوى المعارضة، يجب بالقدر المستطاع توجيه الخطاب التالي إلى الناطقين بالتجرينية وغيرهم ”تعالوا إلى النضال ضد نظام حزب الجبهة الشعبية الاستبدادي الذي طال اضطهاده الجميع“. ومن الحكمة استغلال حالة التذمر السائدة في بعض الأحيان والمبالغة بالقول إن الجميع مضطهدون، لجذب كافة فئات الشعب إلى المعارضة، وعزل النظام سياسيًّا.
لذا، فالحديث عن أن قومية التجرينيا تمارس الاضطهاد هو حديث يخدم في المطاف النهائي نظام إسياس ومن يتعاونون معه في برامجه البعيدة المدى، ولا يمكن لحركة مقاومة تتسم بالحكمة أن تردد مثل هذه المقولات. ومن المحتمل أن يكون جزء ممن يرددون مقولة أن قومية التجرينيا تمارس الاضطهاد من الذين أرسلهم إسياس بصورة ماكرة. بالإضافة إلى أن ترديد أكذوبة أن قومية التجرينيا تمارس الاضطهاد يمكن أن يكون الغرض من نشرها تبرير المفهوم الخطير الداعي إلى حق القوميات في الانفصال. من جهة أخرى هناك أيضًا بعض الوطنيين المخلصين في المعارضة، بحكم سذاجتهم ودون أن يفهموا المكر الذي ينطوي عليه مثل هذا الحديث، يرون في المتحدثين بالتجرينية المستفيدين من النظام السياسي، وبالتالي يتم تقديمهم على أنهم جزء من النظام الظالم. فالمناضلون الذين يرددون مثل هذه المقولات يعملون من حيث لايدرون ضد مصلحتهم. وبالتالي، وحتى يتمكن هؤلاء المناضلون من التفريق بين إسياس وبين الناطقين بالتجرينية يجب أن تفتح معهم حوارات حول هذا الموضوع بقلب مفتوح.
وبالتالي، وحتى نستكمل هذه النقطة، نحن جميعًا - والمقصود بذلك القوميات والفئات الاجتماعية الإرترية - معرضون للاضطهاد، ويجب علينا مضاعفة جهودنا من أجل تقوية حركة نضالية ذات قاعدة شعبية عريضة تشرك الجميع. وحتى يتم إفشال كل المحاولات الرامية إلى إثارة مثل هذه المشكلات، على جميع قوى المعارضة الحقيقية الإرترية تكثيف جهودها.
[6]
وكما أوضحت سابقَا الشروط المسبقة التي يجب أن تتوفر لبناء النظام الديمقراطي هي أن يكون هناك وطن إرتري يعزز وحدته الداخلية ويضمن استمراريته. يجب علينا بهذه المناسبة أن نتطرق إلى الأحداث التاريخية السابقة التي جرت فيها مساومات وتسويات بصورة مسؤولة من أجل التأكيد على واحدة من أكبر الإنجازات وأهم الوصايا التي تركها لنا آباؤنا.
وربطًا بهذا الموضوع، هناك مقولة للفقيد ولدآب ولدماريام أذكرها دائمَا، ولا يمكن أن أنساها، سمعتها قبل أربعين عامَا بأذني. ففي شهر نوفمبر من عام 1971، عندما كنت طالبًا أدرس في مدينة نيويورك، جاء االسادة ولدآب ولدماريام، وعثمان صالح سبي، والدكتور طه محمد نور إلى الأمم المتحدة لتقديم شكوى، وبهذه المناسبة عقدوا اجتماعًا مع الإرتريين. وفي اللقاء أوضح السيد ولدآب قضايا كثيرة ذات مدلولات تاريخية. وفي الوقت الذي تطرق الحديث للمرحلة الفيدرالية، أوضح السيد ولدآب تلك المرحلة على هذا النحو. اسمعوني جيدًا، بالنسبة للحل الفيدرالي، لا تعتقدوا أبدًا أننا في جيل الآباء لم نقبل به، بل قبلنا به جميعًا، فلماذا قبلنا به نحن الذين كنا ننادي بالاستقلال؟ لم نقبل به لأنه كان حلاًّ يرضينا أو أنه كان خيارنا. وبالنسبة لأولئك الذين كانوا ينادون بالوحدة الكاملة مع إثيوبيا لم يقبلوا بالفيدرالية لأنهم كانوا راضين عنها أو أنها كانت خيارهم. ففي ذلك الوقت كان الشعب الإرتري قد انقسم إلى كتلتين. فالبعض كان يريد لإرتريا أن تكون دولة مستقلة، بينما كان البعض الآخر يريد لها أن تكون جزءًا لا يتجزأ من إثيوبيا. وعندما أصبح الأمر كذلك، طرحت ذات مرة فكرة أن تُقَسَّم إرتريا إلى قسمين، قسم منها أن يذهب إلى السودان، وأن ينضم القسم الآخر إلى إثيوبيا. وعليه تبين أن كلا الفكرتين، الاستقلال والوحدة، سوف يؤديان إلى تقسيم إرتريا. وفي النهاية طرحت فكرة الفيدارلية التي تضمن لإرتريا الحكم الذاتي وحظي هذا الطرح بقبول الجميع. (هذا الحديث للسيد ولدآب أطرحه بالصيغة التي احتفظت بها ذاكرتي، وبالتالي الصيغة اللغوية لهذا الحديث قد لا تتفق والطريقة التي قيل بها، وأرجو منكم أن تتفهموا عدم المطابقة المحتملة).
وبالتالي، علينا الانتباه إلى أن الحل الفيدرالي حظي بالقبول لأنه كان حلاً تصالحيًّا أو وسطيًّا، وانه لم يكن خيارًا لأية قوة سياسية إرترية. وقبلت به التجمعات السياسية المختلفة. وحسب حديث السيد ولدآب قال “قبلنا بالفيدرالية حتى لا تنقسم البلاد” وعلينا الانتباه، فإن جيل الآباء الذين نادوا بالاستقلال قبلوا بالحل الفيدرالي حتى لا تنقسم إرتريا. والآن فكروا معي، للحفاظ على وحدة إرتريا، وحتى لا تنقسم البلاد تنازل الآباء الأوائل عن خيارهم المحتمل في الاستقلال أو الوحدة، وقبلوا بالحل الفيدرالي، ما يوضح تقديم البلاد على خياراتهم. وعليه يجب علينا ألاّ ننسى أن المناضلين الذين ناضلوا في مختلف التنظيمات السياسية، والذين قدموا أرواحهم، استشهدوا من أجل إرتريا الموحدة ولم يستشهدوا من أجل قومية معينة أو إقليم محدد في البلاد.
ووحدة إرتريا هي إحدى الموروثات العظيمة وأمانة ثقيلة تركها لنا آباؤنا وشهداؤنا. وبالتالي، القيام بتحركات تضع إرتريا في مأزق باسم حق القوميات في تقرير مصيرها بنفسها حتى الانفصال، لا يعتبر فقط سلوكًا مدمرًا، بل يجب معرفة أن ذلك يعتبر خيانة لأمانة آبائنا وشهدائنا. وهو جريمة تاريخية موازية لخيانة الوطن وعدم الوفاء بالأمانة.
أنا مدرك تماماً أن جبهة التحرير الإرترية وبقيادة المرحوم عبد الله إدريس كانت ومازالت تقف مع وحدة إرتريا، مع وجود موقف ديمقراطي ومسؤول من قضايا القوميات، وإنني على يقين بأن هذا الموقف الوحدوي سوف يستمر احترامه بحكم أنه أحد الموروثات التي تركها المناضل عبد الله إدريس، وجيل الآباء الذين كانوا قبله، من بينهم حامد إدريس عواتي.
وبمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لانطلاق الثورة المسلحة من المهم أن نعي بعمق أن ثورتنا قد حرفت عن مسارها وأن المشكلات التي نعاني منها الآن بما فيما مشكلة القوميات ما هي إلا نتاج لذلك الانحراف. وبناءً على هذا الفهم علينا أن نسعى من أجل أن نعيد امتلاك زمام ثورتنا، وعندما نستعيد امتلاك زمام ثورتنا فقط يمكن أن نسقط نظام إسياس، وأن تحترم الحقوق الديمقراطية لسائر قومياتنا، وأن يسود جو من السلام والحرية الحقيقة الذي يتيح للجميع العيش الكريم وتحقيق التنمية. وحتى نتمكن من تحقيق هذه المهمة المقدسة، أوصي في ختام كلمتي هذه أن يسود بيننا التفاهم، وأن نقوم بتمتين وحدتنا الوطنية، وتكثيف جهودنا، وتعزيز نضالاتنا.
أتقدم بجزيل شكري وامتناني لحسن استماعكم !!