أمير الظلام
بقلم الأستاذ: فتحي عثمان - كاتب وديبلوماسي سابق
توصف ارتريا إلى جانب كوريا الشمالية بأنها من أكثر دول العالم تكتما وسرية، وصفة السرية هذه هي السمة الأبرز التي ترد في
معظم التقارير الصحفية الأجنبية عن البلاد:
فما هو الذي يمكن أن يفسر هذه الحالة من السرية والتكتم ؟
ابتداء ومن الناحية الاقتصادية فإن أبرز ما تخفيه الحكومة الارترية هو ميزانيتها السنوية وبذلك تكون، ربما، الدولة الوحيدة في العالم التي لا تظهر ميزانيتها إلى العلن. فمنذ إعلان الدولة في مايو 1993، وحتى اليوم لم تعلن الحكومة الارترية عن ميزانيتها؛ ولا نية لها مستقبلا لفعل ذلك. شركة نيفسن الكندية الشريك الاقتصادي للحكومة الارترية في التعدين عن الذهب في مناجم بيشا أعلنت بأنها سلمت الحكومة الارترية 700 مليون دولار هي حصتها عن مبيعات الذهب، وأنها كذلك ضخت مبلغ ملياري دولار في الاقتصاد الارتري، إذن هذا هو الإعلان الوحيد عن دخل ما للحكومة الارترية، وقد جاء عن طريق شرك أجنبي، ربما لضرورات الشفافية التي تعمل تحتها الشركات الدولية. ولا يعرف الشعب الارتري كم هو دخل مبيعات ثرواته القومية.
على الصعيدين الأمني والسياسي تتكتم الحكومة الارترية وبشكل تام عن سجناء الضمير والعقيدة وحرية التعبير بما في ذلك الصحفيين المعتقلين منذ سبتمبر 2001. ولا يرد أي تصريح حول دستور البلاد: ما عدا المرة التي صرح فيها الرئيس عن موت دستور 1997 القاصر والمجمد وعن النية لصياغة دستور جديد.
ثلاثة عوامل تسهم بشكل تبادلي في إطباق حالة التكتم والسرية السائدة بشكل مدروس ومخطط: الأول هو حصر تداول المعلومة في أروقة المؤسسات الحكومية إضافة الى الطبيعة البوليسية للدولة؛ ثانيا غياب المؤسسات الدستورية التي تفتح الباب للمساءلة والشفافية وأخيرا التغييب المتعمد والمدروس أيضا للصحافة وتغييب دورها الكاشف والمحاسب لأجهزة الدولة المختلفة. هذه حقائق يكاد يكون هناك اجماع حولها في ارتريا: يضاف إليها حقيقة مؤلمة أنه ليس هناك أي أتجاه لتبني سياسات تناقض العوامل المذكورة أعلاه.
أمسك (الأمين العام) اسياس أفورقي على زمام السلطة بشكل منفرد وسافر بعد المؤتمر التنظيمي الثاني للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا في 1987 (كان قبلها الأمين العام المساعد وكانت تحت إدارة مكتبه أقسام الاستخبارات والمالية والمواصلات والاتصالات إضافة إلى السيطرة على المكتب العسكري). حالة السرية والتكتم في تلك الفترة ربما بررتها تاريخيا حالة الصراع الوجودي للثورة الارترية ضد المستعمر الاثيوبي، ولكن كل فنون وإرث السرية انتقلت إلى الدولة الوليدة بعد الاستقلال لتخلق ما يكون تسميته بالظلمة الحالكة.
في ظل هذه الظلمة الحالكة والتي تتبدى للمشاهد والمتابع على شكل سرية مطلقة وتعتيم لا يعرف المقود إلى أين يقوده قائده: هل إلى ضوء في آخر الظلمة، أم إلى حفرة لا قرار لها !
أي كان الاتجاه الذي يقود فيه القائد المقود فإن الأخير يعتمد على الأول بشكل يكاد يكون مطلقا، مما يخلق حالة تامة من “الاعتمادية” وعدم الاستقلالية.
بعد ربع قرن من استقلال البلاد رسخ الرئيس اسياس أفورقي حالة الاعتمادية هذه، فالوضع الراهن حالة ظلمة معتمة لا يعرف المقود اتجاهه الذي يسير فيه ولا يعرف أيضا قائدا بديلا للذي يقود حاليا. هنا تبدو حالة الاعتمادية ولكأنها متبادلة إذا يحكم القائد في ظلها بحيث لا يعرف الاتجاه سواه، ويكون المقود في وضع لا يخاطر فيه بالخروج على القائد بسبب حالة العماء التام السائدة.
أن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تغير وضع الاعتمادية التام هذا هو نشر النور وتحديد الاتجاه ومعرفة بدائل أمير الظلام: لأن هذا الرجل ومن هم في شاكلته لا يستطيعون القيادة في النور: حيث الرؤية جماعية؛ وحيث إمكانية المساءلة وحيث تسود الشفافية وكل هذه تنفي الظلام نفيا مطلقا.
قبل أي تغيير علينا بالتنوير لأن ذلك يقتل كل خفافيش وأمراء الظلام، فهل يكون ذلك تحدي 2018 حصرا ؟