الصراع الارترى الجيبوتى إنتهت المسرحية ولكن كيف؟
بقلم الشيخ: عبدالرحمن بشير - كاتب ومفكر جيبوتي
قبل شهر ونيف، رفضت جيبوتى زيارة الرئيس الصومالي لإريتريا، ووقعت أزمة بسببها ما بين حكومة جيبوتى، وحكومة الصومال،
وأصدرت جيبوتى بيانا شديد اللهجة بطريقة غير ديبلوماسية، ولَم يعتذر الجانب الصومالي كما طالبت الحكومة الجيبوتية، بل ذهبت جيبوتى إلى المجلس الدولي، وطالبت منه عدم رفع العقوبات من إريتريا، ولكن ما الذي تغير من اللعبة حتى تقبل جيبوتى ما كانت ترفضه سابقا ؟ ولماذا قبلت استقبال الوفد الإريتري المصاحب مع وفدي الإثيوبي، والصومالي ؟ ما هي الجهة التى تضغظ ؟ هل وراء العملية ضغوط دولية، أو إقليمية ؟
لدينا فى المنطقة كما قلت فى مقال سابق حراك سياسي من نوع جديد، فكل قواعد اللعبة تتغير، بل كل قواعد الحياة السياسية بدأت تتحرك من جديد، والغريب أن الإنسان الذى لا يساير الأحداث بشكل يومي يجد نفسه فى خارج السياق، والأحداث لا تجرى بلا مقدمات، ولكن المقدمات غير مرئيّة بوضوح لمن لا يساير الأحداث بشكل شبه يومي، فهناك تغييرات جذرية فى داخل كل دولة، وتغييرات عميقة فى نوعية الأفكار السائدة فى المنطقة، بل وهناك صراعات غير واضحة فى المنطقة، فليس عبثا أن يرجع الرئيس السابق للصومال السيد حسن شيخ فى هذا الظرف، ومن تركيا، وليس أمرا عاديا أن يتنازل بقوة السيد جيلة، رئيس جيبوتى من الموقف المتشدد السابق، كما أنه ليس من المستبعد أن يقبل أفورقى كما تؤكد لى معلومات شبه مؤكدة فى قبوله للجلوس مع المعارضة الإريترية، كل ذلك، يجرى فى المنطقة، وبتسارع غير عادي، فالسؤال، من وراء ذلك ؟
كيف تنتهى المسرحية، الصراع الجيبوتي - الإريتري بهذا الشكل ؟ ولماذا عاد الرئيس السابق للصومال إلى الوطن ؟ ولماذا هذه المرحلة بالذات ؟ هل ثمة تحريك للرمال فى المنطقة بشكل عشوائي حينا، وبشكل مخطط حينا آخر ؟ من يحرّك الرمال ؟ هل الدكتور أحمد آبي وحده هو الذى يخطط تحريك الرمال ؟ ولماذا ؟ ولصالح من ؟ ولماذا يسرع فى تحريك الرمال ؟
ما دور القوى الخليجية فى التحريك ؟ أين موقع الإمارات من الصراع ؟ ومن وراء التحريك ؟ وأين موقع قطر وتركيا من العملية ؟ من وراء من ؟
هناك قراءة واضحة للمشهد السياسي فى القرن الأفريقي، وهو أن قواعد اللعبة تتم بعيدة عن جيبوتى، فليس لجيلة بصمة كعادته سابقا فى المشهد السياسي الجديد، ومن هنا لاحظنا أمرين فى تسارع الأحداث، وهما أن الدكتور أحمد آبي يريد أن يخلط الأوراق بسرعة، وأن يصنع قرنا أفريقيا جديدا، يختلف عن القرن الأفريقي القديم فى كثير من الأمور، ولأجل تحقيق ذلك، فهو لا يتوقف عن العمل فى تقارب وجهات النظر، وصناعة قرن أفريقي خال من التوترات، وإذا نجح فى ذلك، فإنه يضع الدولة العميقة فى إثيوبيا أمام حالة جديدة، ومأزق سياسي نوعي، أما الأمر الثانى، فهو أن الجميع فى المنطقة وجد نفسه فوق السفينة، ومن تأخر عن الركوب كالنظام السياسي فى جيبوتى التحق مؤخرا، وخاصة حين علم بأن السفينة لا تنتظر أحدا، بل استيقظ النظام السياسي فى جيبوتى بعد سباته العميق بأن موانئ إريتريا صارت بديلا محتملا بشكل قوي، ولهذا تم الإتصال إلى المجتمعين فى أسمرا من قبل ( جيلة ) فى وقت متأخر من الإجتماع، وأكّد لهم بأنه مستعد للركوب فى السفينة، ولهذا لاحظنا بأن النظام الإريتري هو الرابح كما ذكرت فى المقال السابق، بينما النظام السياسي الجيبوتي يسجل فى كل تحركاته الفشل، بل يلاحظ فى تحركاته الأخيرة التخبط والتعثر فى المواقف.
يعيش النظام السياسي فى إريتريا حالة من السعادة الذاتية فى هذه الأيام، ومن هنا نجد من الإعلام صورا جديدة تنبئ عن نسخة جديدة من السيد أفورقي، فقد تغير من حالة العبوس إلى حالة الرضا، فهو مبتسم دوما، لأنه وجد من خلال الدكتور أحمد آبي نافذة سياسية للتعامل مع العالم، بينما يعيش جيلة فى حالة يتم سياسي، وهذا هو الذى جعل النظام جيلة يتعثر فى المواقف السياسية، فهو الآن مستعد للدخول فى المفاوضات بلا شروط سياسية، ذلك لأنه عرف بأن الخريطة السياسية فى القرن الأفريقي تُرسم من جديد، وبعيدا عن جيلة ونظامه.
من وراء تحريك الرمال ؟
………………………………
لا شك فى أن الخريطة السياسية متداخلة فى القرن الأفريقي، وليست من السهولة أن نفهم ما يجرى دون أن نقرأ جملة من الأحداث، وبشكل مستمر، ومركّز، وأن نحاول قراءة الأحداث، ونربط المنطقة بالصراع الجارى فى الإقليم، والصراع الدولي، فلا يمكن فهم السياسة المحلية والإقليمية بدون هذه القراءة.
لدينا معطيات أربعة، ويحتاج كل معطى إلى وقفة خاصة، ودراسة متأنية، ولكن من المنهجية أن نحيط شيئا من هذه المعطيات لأجل تجلية الأوضاع، وقراءة المستور، وفهم المجهول، والغوص فى أعماق الموضوعات:
أولا: لا بد من فهم ظاهرة ( الدكتور أحمد آبي )، من هو هذا الرجل ؟ ماذا يريد ؟ كيف وصل إلى القرار السياسي ؟ وكيف استطاع أن يكون رقما صعبا فى القرار السياسي ؟ ولماذا نجح فى تجاوز الديناصورات السياسية فى القرار السياسي ؟
لدينا خريطة سياسية وفكرية من الرجل، وهي ثلاثية التكوين، ومن لا يقرأ تلك الثلاثية بشمولية فهو يقع فى أخطاء منهجية، فالرجل متعلم، ولديه شهادة عليا من جامعات علمية معتبرة، ثم إن الرجل عمل فى كل حياته فى الداخل السياسي، فكان واحدا من صانعى القرار، ومن الذين عملوا مع الأحزاب الحاكمة، والأمر الثالث هو أن الرجل عمل فى الدائرة الأمنية، وتدرب فى الغرب، وإسرائيل، وترقى فى دائرة المخابرات والمعلومات الأمنية حتى وصل منها القمة، وبهذا يعتبر هذا الرجل من القلائل الذين يجمعون فى داخلهم المعارف الدقيقة، والمهارات السياسية والأمنية.
ثانيا: لدينا فى المنطقة صراع خطير، وغير خفي، ما بين الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، والصين كقوة صاعدة، ولكل واحدة منهما أهدافها، ومصالحها الحيوية، ومن الإجتماع الأخير بين الصين والدول الافريقية تأكد بأن الصين ماضية، وبدون تراجع نحو القارة، وستكون هي فى العقد القادم القوة الأولى والحقيقية فى القارة الأفريقية، ويكون هذا الوجود على حساب الغرب، وخاصة الأوربيين، ومن هنا تتحدث الدوائر الإستخباراتية فى الغرب أن الصين كقوة قد تصبح إستعمارا جديدا، ولكن الولايات المتحدة، وخاصة الدولة العميقة فيها لا تقبل أن تتنازل لصالح الصين القارة الأفريقية، ولهذا نجد مطالب حقيقية فى الدخول فى منافسة شرسة مع الصين من قبل بعض الجهات المتنفذة من الولايات المتحدة.
ثالثا: إن الصراع الإقليمي، والذى يحمل فى طياته الإستراتيجية العدمية ( الصراع الصفري ) قائم فى المنطقة، وله تداعياته الخطيرة، وخاصة ما بين القوى الحقيقية، قطر وتركيا من جانب، والسعودية والإمارات من جانب آخر، فهذا النوع من الصراع يتجلى فى بعض الأحيان القرارات، والمواقف، وتحريك الرمال تحت الأقدام.
رابعا: غياب الفكر الإستراتيجي من المنطقة، وبناء المواقف على الإرتجال والعفوية، والعمل بدون نفس سياسي بعيد المدى، كل دلك واضح فى التحركات الأخيرة، فقد وجدت من الحراك السياسي الأخير غياب البعد الإستراتيجي، والقائم على النظر فى الفعل ومآلاته.
لقد دخلت المنطقة صراعات سياسية خطيرة، قديمة وحديثة، ولكن لا توجد حتى اليوم جهات محترمة قامت بدراسة الأسباب، والنتائج، ولأجل هذا أصبح الناس فاقدى الذاكرة، لا أحد قام بدراسة عميقة عن الحروب التى جرت فى منطقة القرن الأفريقي بين المسلمين والمسيحيين، بل ليست هناك جهة محترمة درست الحرب فى الصومال الغربي، وهذه كانت سببا رئيسيا، ومباشرا فى سقوط الدولة فى الصومال، وليس هناك أحد من أبناء المنطقة يعرف أسباب الصراع الإريتري الجيبوتي، ومن هنا أؤكد بأن الصراع كان قريبا من لعبة سياسية أكثر مما هو حرب لأجل الأرض كما يقولون.
قبلت حكومة جيبوتى بدون شروط ما رفضته سنوات، ولَم يتنازل النظام السياسي فى إريتريا عن مواقفه السابقة، ولكن الوزيرين تعانقا، وكأن الحرب انتهت، ولهذا قلت: انتهت المسرحية بشكل مضحك، فلا وزن للكلام السابق من حكومة جيبوتى، بل الوزن كله هو رفع التلفون فى مساء الإجتماع من قبل (جيلة) بعد أن عرف أن الأسطول الإثيوبي قرر الرحيل من موانئ جيبوتى إلى موانئ إريتريا، فكانت الكارثة، بل كانت الرحلة نحو المجهول من جديد بلا بوصلة.
فى الصومال حراك سياسي من نوع جديد، هناك حراك على مستوى رؤساء الأقاليم، وحراك آخر على المستوى الفيدرالي، وحراك ثالث على المستوى السياسي، ومرتبط بتعيينات السياسيين الكبار فى مناصب شبه قيادية كما جرى للدكتور عبد الرحمن باديو، والذى تم تعيينه كمستشار للدولة فى شؤون المصالحة، وعودة الدم الجديد فى المشهد السياسي بقيادة الرئيس السابق، فلا شيئ تحت الطاولة، ولكن لا بد من فهم التحركات السياسية الأخيرة من خلال الخريطة السياسيةالجديدة.
تنتهى مسرحية خطيرة، ولكن تبدأ مسرحية جديدة، ومن هنا فلا بد من وعي سياسي للشعوب، والتى تنتظر المسرحيات فقط، فينحصر دورها فى الإنفعال، والحديث، والسبب هو ان الوعي ليس مشوشا فقط، بل هو مُغيّب.