الآثار التاريخية شاهدة على قدم الحضارة الإرترية مدينة مصوع نموذجا
بقلم الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي
مدينة مصوع هي أقدم مدينة في إرتريا وفى المنطقة عبر التاريخ وقد كانت ومازالت موقعا تجاريا منذ القدم،
وكانت عاصمة لإرتريا حتى مجيء الاستعمار الإيطالي كما أنها تعتبر المدينة الثانية التي دخل إليها الإسلام بعد مكة المكرمة واستضافت أول بعثة إسلاميٍة، وهي تلك التي فرت بدينها من مكة المكرمة وأيضا لها شـرف وقداسـة بحكم أنها عاش فيها الصحابة والتابعين وتعتبر مرقد الأولياء والعلماء عبر التاريخ، كما أنها تشكل منفذا طبيعيا للمحصولات. وكان ميناء مصوع أحد أهم الموانئ التي كان يمر عبرها الحجاج الأفارقة للوصول إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
وتعتبر مصوع أقدم الموانئ على البحر الأحمر وكانت معروفة منذ عهد البطالمة الذين ينسب إليهم إنشاء ميناء (عدولى) أو(عدوليس) ولذا يقولون في بعض الكتب أن مدينة مصوع تٍأسست (2475-2625) قبل ميلاد المسيح، أسسها الفراعنة الذين كانوا يسمون منطقة القرن الإفريقي (بونت لاند) والبحر الأحمر كانوا يسمونه بحر القلزم وقبل (300 ق.م) استطاعوا الحصول على المادة الأساسية التي تستخدم في تحنيط الموتى التي عرف بها الفراعنة القدماء، وأيضا كان معروفا في إرتريا تحنيط الأموات في بعض الأديرة والكنائس. الفراعنة أيضا حصلوا على البخور والذهب والعاج والأخشاب الجيدة والنباتات ذات الرائحة الزكية والتوابل والحيوانات الأليفة مثل الثيران والحمير والكلاب والأحياء البرية والقرود، كل هذه الأشياء والكائنات المذكورة أعلاه كانوا يصدرونها عبر ميناء مصوع.
عرفت عبر التاريخ بالعديد من الأسماء منها مصوع، باصع، باضع، ولؤلؤة البحر الأحمر، وعن تسميتها بمصوع يقول المؤرخون كان في مدينة مصوع قاضى شرعي مشهور يسمى محمد مسوولد في حدود عام (1200هـ) بجزيرة باضع، ودرس القران الكريم وتلقى مبادئ العلوم في باضع ثم سافر إلى الحجاز وتفقه ودرس على علمائها هناك، وكان من أبرز واشهر قضاة محكمة مصوع وله فيها صيت واسع وأثر واضح وملموس ولعل هذه التسمية نشأت من قول الناس (اني ذاهب إلى القاضي مسو) وكلمة مسو حرفت مع مرور الوقت لتصبح مصوع. توفي المذكور في حوالي (1272 هـ) في مدينة باضع ودفن فيها وله مسجد بمصوع يعرف باسمه.
أما تسمية باصع أو باضع يقال هذه الكلمة أخذت من كلمة بضاعة وكان التجار الذين يأتون عبر البحر يفرقون بضاعتهم في الجزيرة وكانوا يتبادلون التجارة مع السكان المحليين ولذا جاءت كلمة باصع أو باضع من البضاعة وحرفت إلى (باصع) وفيهم من يقول أيضا إن كلمة باصع أو باضع كانت تستخدم للأشخاص الذين كانوا يجمعون الضرائب. كانوا يسمونهم باضع وحرفت بعد مدة طويلة إلى باصع.
كانت مدينة مصوع المركز الذي انطلق منه الإسلام بعد مكة المكرمة ولذا تعتبر مدينة مصوع أول مدينة دخل إليها الإسلام حيث استقبلت أول بعثة ٍإسلامية على مستوى العالم وذلك عام (614م) استقبل أهل مصوع في تلك الفترة الصحابة وكان عددهم (15) صحابيا بقيادة عثمان ابن عـفان ثالث الخلفاء الراشدين وزوجته رقية بنت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ولمدينة مصوع بصفة خاصة ولإرتريا بصفه عامة شرف عظيم لاستضافتهم وتعتبر مدينة مصوع أول مدينة اعتنق أهلها الإسلام ونزل الصحابة في منطقة “رأس مدر” وهذه التسمية يقال إن الصحابة أطلقوها على المدينة عندما قابلتهم لأول وهلة بعد نزولهم من البحر حيث قالو: هذا رأس المدن فحرفت بمرور الزمن إلى رأس مدر، وتوجد حاليا في داخل الميناء ويصلي بها أهل مصوع صلاة العيدين وتبركون بقدسية المكان لنزول الصحابة به.
سيطر الخلفاء الأمويون وتحديدا في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان على أرخبيل دهلك مصوع خلال عام (702م) حيث قاموا بإرسال قوات لطرد قراصنة البحر الذين أخذو يغيرون بشكل متكرر على الميناء ويتعرضون لقوافل الحجاج انطلاقا من هذه الجزر كما كان هدف الحملة تفريق تجمعات أتباع الحسين بن على الذين تجمعوا في هذه الجزيرة بعد معركة كربلاء الشهيرة وخلال هذه الفترة تم تدمير ميناء (عدولي) المعروف بعدوليس وكانت جزر دهلك تتبع لساحل مصوع وتم تأسيس ٍإمارة إسلامية لبنى أمية في جزر دهلك ومصوع.
خضعت مصوع للدولة العباسية وفى تلك الفترة كانت تعرف باسم إقليم باصع وهو الاسم القديم لمدينة جنوب مصوع وبقيت إرتريا تتبع الدولة العباسية حتى تنازل عنها خليفة عباسي في مصر إلى السلطان سليم الأول وذلك عام (923هـ) فتبعت الدولة العثمانية وكانت ولاية تابعة لمكة المكرمة ثم ولاية مستقلة.
في القرن السادس عشر نزل بها أسطول برتغالي وكانت مدينة مصوع في ذاك الوقت قرية بيوتها من قش ما عدا مساجدها وكانت أهميتها تكمن في مينائها الذى كانت تتردد عليه بعض السفن من الجزيرة العربية ومن ميناء سواكن وأسواقها العامرة بالقوافل التجارية التابعة لمملكة سنار والحبشة وإقليم البجة وعندما وصلت قوة بحرية برتغالية في 10 إبريل 1520م، لم تصادف مقاومة تذكر إذ كانت مزودة بأسلحة نارية فكان أن حول الأب الفاريز المسجد إلى كنيسة لمصلحة الجنود البرتغاليين وأدىٍ احتلال البرتغاليين للميناء إلى تدهور حركة التجار وهروب التجار اليمنيين والهنود.
نزل الأتراك في عام (1557-1865م) على شواطئ مصوع واستعمروها لمدة (315) سنة معظمها في مدينة مصوع وسواحل البحر الأحمر وأحيانا كانوا يصلون إلى المرتفعات حتى مدينة دباروا وإلى مدينة كرن وإلى سهول هزمو ونزل الأتراك بقيادة أوزدمير بك على الميناء واستولوا على المدينة وكان حاكما عسكريا وبقي سنوات عديدة دون أن يكلف بواجب رسمي وتوفي في مدينة مصوع في (1562م) وكان عمره (62) سنة وهو ابن الوزير الأعظم أوزدمير أوغلو عثمان باشا.
معظم أفراد الجيش التركي الذي كان يحرس مدينة مصوع كانوا من أصول ألبانية واختلطوا مع السكان المحلين وأبنائهم حلوا محل أباءهم في الجيش وخلال هذه الفترة الطويلة تم تخطيط مدينة مصوع وتم تشييد المباني والجوامع مثل جامع الحنفي وجامع الشافعي ومسجد حمال الأنصاري الذي سبق أن قام البرتغاليون بتحويله إلى كنيسة، كما بنيت الزوايا والتكايا ومراقد الأولياء.
وقد أدخل الأتراك العثمانيون المذهب الحنفي إلى المنطقة بشكل رسمي وأتوا بقضاة أحناف من الحجاز إلى مصوع في أواخر القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر الميلادي. إن الاندماج الطويل لمنطقة مصوع وتوابعها في بنية النظام الإداري والتجاري للعثمانيين لمنطقة البحر الأحمر خلف تأثيرات سياسية وثقافية ودينية على المسلمين في عموم المنطقة.
وبعد أن استقر الأتراك في مصوع جعلوا أميرها البلوى الذي استنجد بهم ضد البرتغاليين نائبا للخليفة العثماني في البلاد وأصبحت أسرته الأسرة الحاكمة في مصوع حتى بداية السبعينات وكان لقبهم (نائب).
الأتراك يحرقون مصوع:
لم تكن علاقة النائب، وكان هو الحاكم الفعلي للبلاد، تتسم في كل الأوقات بالانسجام مع الأتراك، فقد كانت هناك أسباب للاختلاف، خاصة أن تركيا كانت تستغل التنافس بين أبناء العمومة من أسرة البلو الحاكمة ففي سبتمبر 1844م رفضت الأسرة الحاكمة تنصيب حسن نائبا للبلاد إثر وفاة أخيه يحيى وطالبت بأن تسند النيابة لابنه محمد وتطورت حتى أدت إلى القتال وقرر الباشا التركي إرسال لجنة قامت بالصلح ودفع التعويضات عن الخسائر التي لحقت بالأهالي من جراء القتال كما تعهد بعدم التدخل في شؤون البلاد الداخلية وبعدم إجراء اتصالات سرية مع حاكم تجراي.
وفى عام (1846م) تجدد الخلاف مرة أخرى فكان أن أعدم الباشا التركي ثلاثة فدائيـيـن تسللوا إلى قصره بجزيرة طوالوت بعد أن وصلوا إليه سباحة وواجه الباشا الجديد إسماعيل حقي التمرد بقسوة وأحرق قرية (دخنو) حرقيقو فاعتصم السكان بالجبال وأقام فيها قلعة نصب فيها (500) جندي كما نصب حامية أخرى في (أم كلو) قوامها (100) جندي.
الكتاب والمؤرخين الذين كتبوا عن مدينة مصوع:
استأثرت مدينة مصوع عن غيرها من كل المدن الإرترية بنصيب الأسد من قبل الكتاب والمؤرخين ومن ضمنهم الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر مفتي إرتريا السابق، ومن ضمن الكتب التي كتبها والتي بلغ عددها أكثر من ثلاثون كتابا و(500) مقال جزء من هذه الكتب والمقالات تتحدث عن تاريخ إرتريا ومنها كتاب خاص عن مدينة مصوع بعنوان (الجامع لأخبار جزيرة مصوع) وكان رحمه الله يهتم اهتماما كبيرا بتاريخ إرتريا وبصفة خاصة كان يهتم بتاريخ مدينة مصوع العريقة.
محمد تيسير ظبيان الكيلاني صحفي سوري مؤسس جريدة الجزيرة بدمشق، زار مدينة مصوع في بداية القرن التاسع عشر وألف كتابا بعنوان (مشاهد في ديار الإسلام - الحبشة المسلمة) وكتب مقدمة هذا الكتاب المؤرخ المشهور الأمير شكيب أرسلان وذلك في سنة (1973م) وذكر في كتابه عن مدينة مصوع وقال هي الميناء الإرتري الوحيد الذي ترسو عليه السفن الإيطالية التي تنقل الركاب والبضائع من وإلى (إرتريا) وكان سكانها قبل الحرب الحبشية الأخيرة لا يزيدون عن ثمانية آلاف كلهم من المسلمين ماعدا أعداد ضئيلة من الأحباش والأجانب (الإيطاليين) أما الآن فيتعذر تقدير عدد سكانها بسبب كثرة الوافدين إليها بمناسبة حرب الحبشة وقد قيل لي إن سكان المدينة يزيدون عن (60) ألف نسمة وتحدث عن مسجدها وأيضا تحدث عن جمعية خيرية للمسلمين في هذه المدينة التي تأسست سنة (1927م) يرأسها السيد جنبلاط (وهو مصري الموطن متحدر من أصل تركي) ولها نظام خاص مؤلف من (32) مادة وهي تعمل على مساعدة الفقراء وتسفير الغرباء ودفن الموتى المحتاجين وتفكر الآن بتشييد مأوى للعجزة وعلمت بأن الحكومة تـشجع هذه الجمعية التي تكاد تكون الجمعية الإسلامية الوحيدة في إرتريا وتعطف عليها حتى أن الرعايا الإيطاليين أنفسهم يمدون لها يد المساعدة ويتبرعون لها بقطع بغض النظر عن مساعدة الحكومة ويوجد للمسلمين في مصوع أوقاف كثيرة يستقلون بإدارة شؤونها وهي تنفق على إصلاح المساجد والبنايات الخاصة بالأوقاف وللمسلمين في هذه المدينة عادات غريبة اذكر منها توديعهم لرمضان بالطبول والزمور.
الأستاذ المناضل محمد سعيد ناود مؤسس حركة تحرير إرتريا (1958م) وكانت له اهتمامات بتاريخ إرتريا وكان يكتب في صحفية إرتريا الحديثة كل يوم جمعة قبل وفاته يرحمه الله في صفحة التاريخ عدة مقالات عن التاريخ ومنها كتب عن مدينة مصوع وذكر في مقالاته أن مدينة مصوع وضواحيها كان فيها حوالي (160) جامع ومسجد وهذا يؤكد مدى عمارتها. وقد قام محمد سعيد ناود بتأليف أحد عشر كتابا منها كتاب هجرة الصحابة إلى إرتريا تحت عنوان (إرتريا طريق الهجرات والديانات ومدخل الإسلام إلى أفريقيا).
فسهاي قبر قرقيس سنكحتى من إقليم تجراي من إثيوبيا كتب كتاب باللغة التجرينية وهو أول كتاب باللغة التجرينية وتحدث عن رحلته وانطباعاته عن مدينة مصوع وذلك في عام (1895م). طبع هذا الكتاب في روما بإيطاليا، كما أن دكتور أبا إسحاق قبريسوس له عدة كتب تاريخية باللغة الإيطالية والإنجليزية وكتب كثيرة باللغة التجرينية عن الجزر الإرترية وعن مدينة مصوع وعن الميناء القديم أو عدوليس (عدولى). أما الكاتب سمسوم هيل له كتاب واحد باللغة التجرينية وهو بعنوان إرث من تاريخ إرتريا المختصر ويتحدث عن مدينة مصوع وتاريخها.
ومن ضمن الكتاب الغربيين الذين كتبوا عن مدينة مصوع باللغة الإيطالية ”تاريخ مصوع“ للمؤرخ الإيطالي دانتي أدرسو وغيرهم كتبوا عن هذه المدينة باللغة الإيطالية والفرنسية والإنجليزية ومنهم الباحث والمؤرخ دكتور جوناثان ميران أميركي الجنسية من أصل يهودي ويتقن ثلاثة لغات الإنجليزية والفرنسية والعربية وكان يدرس في جامعة أسمرا في كلية التاريخ وحاليا أستاذ في جامعة ولاية ميشيغان له اهتماماته في البحث عن تاريخ الإسلام والمجتمعات الإسلامية في القرن الأفريقي (إرتريا إثيوبيا الصومال السودان) ويعتبر أكثر من تعمق وأهتم اهتماما بليغا بمدينة مصوع حيث قضى سنتين في مدينة مصوع وذلك من (1998-2000م) للدراسة والبحث عن تاريخ مدينة مصوع لنيل درجة الدكتوراه وأجرى عدة مقابلات مع أعيان مدينة مصوع في الداخل والخارج وزار إيطاليا روما وذلك للبحث عن الكتب والوثائق التاريخية عن مدينة مصوع في المكتبات والمتاحف الإيطالية وله مؤلفات عديدة عن الاستعمار الإيطالي والإسلام وفى التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد لشمال شرق أفريقيا ومنطقة البحر الأحمر.
كانت تبحث أطروحته المقدمة إلى جامعة ميتشغان في الإنجاز الجزئي للوفاء بالشروط عن مصوع تحت عنوان ”تواجه الأرض البحر - التحويل التجاري والديناميكيات الحضرية في ميناء البحر الأحمر ومصوع في القرن التاسع عشر“ (1840-1900م) باللغة الإنجليزية وطبع في عام (2009م) وهذا الكتاب لو ترجم إلى اللغة العربية لكانت فائدته كبيرة وذلك لمعرفة تاريخ مدينة مصوع وللكاتب مؤلفات أخرى عن إرتريا باللغتين الإنجليزية والفرنسية.