إسماعيل إبراهيم مختار - عن التنوع الثقافي والديني وإريتريا التي كانت تشبه الخالة هناء
ترجمة الأستاذ: منصور علي المصدر: الإفريقية
ولدتُ ونشأتُ في العاصمة الإريترية أسمرا، حينما كانت مدينة تضج بالحيوية وتزخر بجميع أشكال
التنوع الثقافي والديني.
فمعظم أصدقائي سواء كانوا في الحيّ أو في المدرسة أو رفاقي في فريق كرة القدم، كانوا ينحدرون من خلفيّات عرقيّة متعدّدة. ففيهم اليمانيون الذين تعود أصولهم إلى حضرموت، والإيطاليون وذوو الأصول المهجّنة (الحنفس/ مختلطي المولد)، والإثيوبيون من المتحدثين بالأمهرية، واليونانيون والهنود (وكانوا وقتها يدعون بالـ بانيان).
أما من حيث الانتماء الديني، فكان بينهم المسلمون والمسيحيون (بمختلف طوائفهم)، واليهود والهندوس وأصدقاء آخرون من أتباع "شهود يهوا".
(1) عندما كنت أقوم بجولة صباحية ضمن هذا الفضاء المتعدد ثقافيا وعرقيا ودينيا، كنت أتلمس ما يجسد ذلك التعدد بأكثر من وجه. فعلى مستوى مظاهر التنوع الديني، كنت أشاهد في جولتي تلك، مسجد الخلفاء الراشدين وكنيسة "إندا مريام"، التابعة للطائفة الأرثوذكسية (توهدو)، والكنيسة الكاتدرائية التي تمثّل الطائفة الكاثوليكية، والمعبد اليهودي (الذي أغلق لاحقا بعد هجرة اليهود إلى إسرائيل).
لكل ذلك، أزعم أنني عشت التنوع والتسامح والتعايش الديني منذ طفولتي الباكرة، حيث نشأت وأنا أستيقظ كل صباح على أصوات الأذان وأجراس الكنائس.
أما على مستوى التنوع الثقافي، فالشواهد التي تدل عليها هي الأخرى كانت متعددة، حيث كانت المدينة تحتضن المدرسة الإيطالية (بونيغو)، ومدرسة الجالية العربيّة، والنادي اليوناني والمكتبة الأمريكية، وغيرها من المراكز التي كانت تزخر بها المدينة.
(2) لكن ثمة سيدة من بين جميع الذين قابلتهم في ذلك الحيّ، تركت انطباعا لا يمحى أثره في ذاكراتي، حول ما تعنيه مسألة أن يكون المرء متدينا في حياته، ويكون في نفس الوقت متسامحا على المستوى الاجتماعي. كانت تلك السيدة الجارة المباشرة لنا في الحيّ، وكانت امرأة مسيحية متدينة، حيث كنت أراها دائما وهي عائدة إلى البيت في الساعات الأولى من الصباح، بعد أداء شعائرها الدينية في الكنيسة. أذكر أنها كانت تناديني عادةً بـ "ولدي"، وبدوري كنت أدعوها "الخالة هناء".
في الجانب الآخر، أسرتي هي الأخرى كانت أسرة مسلمة متدينة، بيد أن تمسك الأسرتين بتعاليم دينيهما، لم يؤثر سلبا على العلاقة، على العكس من ذلك، فقد جعلهما أكثر احتراما لبعضهما البعض، وأكثر توقيرا لأعراف حسن الجوار.
ومما يشهد على ذلك الاحترام المتبادل بين الأسرتين، أن أول أمر كان يحصل بمنزلنا في أوقات الأعياد هو إرسال حلويات العيد للخالة هناء وأسرتها. وبنفس القدر كنا نحصل على حلويات مماثلة في أعياد الميلاد (ليديت) من أسرة الخالة هناء.
(3) بالإضافة إلى ذلك، درجت الأسرتان في المناسبات الاجتماعية، على مراعاة واحترام الضوابط الغذائية التي يتبعها أفراد العائليتين. ليس ذلك فحسب، بل إن الخالة هناء كانت أول من يطرق باب منزلنا عند ساعات الفرح والحزن، ثم تبسط يدها للمعاونة. بكلمة جامعة، كانت الخالة هناء مثالاً ناصعا لحسن الجوار والتسامح والتواصل الإنساني الرفيع.
من حسن الحظ، لم تكن حالة الخالة هناء استثناءً بهذا الخصوص، فقد كان تعاملها من التقاليد الرائجة في كل أحياء أسمرا وفي غيرها من الحواضر الإريترية. في هذا السياق، أتذكر أن الصديق ميكائيل طلب مني ذات مرة مرافقته على متن دراجته إلى الكنيسة، حيث كان يرغب في تقديم "قربان" هناك. وبالفعل ذهبنا إلى هناك، وحينما دلف إلى داخل الكنسية لأداء "القربان"، جلست انتظره في الخارج. في طريق العودة، أدركنا موعد صلاة العصر، فدخلت إلى المسجد بينما بقي ميكائيل في انتظاري بالخارج إلى حين أدائي الصلاة، ثم عدنا إلى البيت معا.
ذلك هو مجتمع أسمرا الذي نشأت في كنفه، وتلك هي إريتريا التي عاش فيها المسيحيون والمسلمون وبقية الأقليّات الدينيّة جنبا إلى جنب، يعاملون بعضهم بعضا بالاحترام والتقدير المتبادلين.
لكل ذلك، أزعم أنني تعلمت في إريتريا درساً في غاية الأهمية: أن أكون مسلماً متديناً، وأن أكون في نفس الوقت حريصاً على احترام الآخرين.
وبالطبع، معظم الإريتريين ـ المسيحيون منهم والمسلمون ـ حريصون على التمسك بتعاليم أديانهم، غير أن ذلك التمسك لم يكن يؤثر سلبا في مجرى علاقاتهم الاجتماعية، على العكس من ذلك، كان يعضد أطر تواصلهم الاجتماعية، ليصبحوا أكثر تقديرا للعيش المشترك. لذلك، يعتبر التنوع قيمة عزيزة على الناس في إريتريا ـ ببساطة ـ لأنه ممارسة متأصلة في أعراف وتقاليد المجتمع.
وعلى الرغم من أن أنظمة الحكم المتعاقبة في إريتريا ظلّت لعقود تنتهج سياسات "فرّق تسد"، وتتبع سياسات الإقصاء والتمييز، فقد بقي عامّة الناس فيها محافظين على قيم التسامح وعلاقات حسن الجوار الأخوية. فحتى في الأوقات التي كان يبدو فيها الانقسام واضحا بين بعض النخب الإريترية بشأن قضايا السياسة، ظل العديد من الإريتريين البسطاء أكثر تناغما مع ديناميكيّات الحَراك الاجتماعي الإريتري، بل وأكثر تفهما لقيم العيش المشترك.
(4) كغيري من الإريتريين اضطررت إلى مغادرة إريتريا، وعشت من ثم في أماكن أخرى تفتقر لكل مظاهر التنوع، بل كان الناس في بعض تلك الأماكن ينظر إلى التنوع بوصفه مشكلة، وبالتالي لم يكن بوسعهم التعايش مع كل ما يرونه مختلفاً عنهم. وهكذا، شعرت بأن العيش في بعض تلك الأماكن يفقدني حريتي في التعبير العفوي عن هويتي.
ومن حسن حظي، فقد استقرّ بي المقام أخيراً بعد طول ترحال، في بلدٍ يعتمد التعددية الثقافية بوصفها سياسةً رسمية تنظم شؤون وعلاقات المجتمع. وبالطبع، يمثّل العيش في مجتمع كهذا، أمراً مريحاً للنفس، خصوصاً وأنه يتساوق مع تجارب التنوع التي نشأت في كنفها. صحيح، لم تكن لإريتريا التي نشأت فيها سياسة تعددية ثقافية رسمية، إلا أن قيم التعدد الثقافي كانت لا شك راسخة ومتأصلة في نسيج المجتمع وفي أعرافه وتعامله اليومي.
ومن المؤسف القول إن الإريتريين الذين نشأوا في المنافي، لم يعيشوا تجربة التنوع الفريد تلك، وبالتالي نراهم في بعض الأحيان يحملون تصورات ضيقة إزاء ما يجب أن تكون عليه القيم والثقافات والأعراف في إريتريا.
وسأذكر هنا حادثتين تعبران عن ضيق الأفق والنشأة خارج أطر الثقافات الإريترية المتنوعة. في الحادثة الأولى، تفاجأت فتاة إريترية مسيحية كانت تعيش في أوروبا، حينما علمت أنني لا أتعاطى الخمر ولا أحضر مجالسها. فأجابتني باستغراب: "إنك بهذه الثقافة لا تستطيع العيش في إريتريا". أما الحادثة الثانية، فكانت لشخص إريتري قضى معظم حياته في الشرق الأوسط، وقد أخبر ذات مرة لمجموعة من الشبان المسلمين من المتحدثين بالتقرينة، بأن اللغة التي يتحدثون بها ليست لغة إريترية أصيلة، وبأنها لغة جاءت مع الغزاة، وبالتالي عليهم أن يتحدثوا بالعربية فقط.
إجابة الفتاة تعبر عن إشكالية عدم فهم تاريخ إريتريا وثقافاتها المتنوعة. على النقيض من ذلك، كانت الخالة هناء (المذكورة آنفا)، تعلم تماماً أن أسرتي الممتدة، بما فيهم أسلافي الذين تضرب جذورهم عميقا في إريتريا، كانوا لا يشربون الخمر. ولكنها مع ذلك، لم تكن لتستغرب أو يخطر على بالها أننا (لا سمح الله) متطرفون وغرباء على ثقافات إريتريا.
بنفس القدر، فإن إجابة الشخص الذي عاش في الشرق الأوسط، تعبر عن نموذج آخر يحمل تصورا قاصرا عن إريتريا، بسبب عدم معايشة الواقع الاجتماعي فيها ونتيجة لجهل تاريخها المتنوع.
(5) من هنا، أتوجّه بهذه الكلمات إلى كل دعاة الطائفية والإقصاء والتطرف، ولكل الذين يرون إريتريا إما بوصفها حكراً على المسلمين أو المسحيين؛ ومن يرون إريتريا من منظور تجاربهم المحدودة في المنفى؛ أو الذين يقرأون التاريخ على نحو انتقائي حتى يتماشى مع مفاهيمهم الطائفية المسبّقة؛ وإلى من يسعون إلى تحميل طائفة بأكملها خطيئة قلة منها ارتكبت الأخطاء، ولكل الذين يحاولون ربط الالتزام الديني بالتعصب؛ وكل الذين ينظرون إلى التنوع بوصفه مشكلة.
لكل أولئك أقول إن إريتريا التي في خيالكم هي غير إرتريا التي نعرفها في الواقع، وبالتأكيد ليست إريتريا التي تشبه الخالة هناء ولا إريتريا التي عاش بها صديقي ميكائيل، ولا إريتريا التي عاش في كنفها أسلافي ولا إريتريا التي ظلت تحتضن عامة الناس من مختلف المشارب.
بل أذهب أبعد من ذلك لأقول: إن شوارع أسمرا بكل ما كانت تعج به من أسواق وفقراء ومتسولين؛ والمزارعين في حقول "شِعب"، والصيادين في شواطئ "دنكاليا"، والأمهات الإرتريات في أكواخهن العتيقة في "تسعازقا"، والرجال المسنين بملابسهم البيضاء الجميلة؛ يعتبرون في تقديري أكثر درايةً ومعرفةً بتاريخ التنوع، وهم بالتالي الأقدر على سرد حكاية التعايش أفضل من مروجي الطائفية على يوتيوب، أو على صفحات فيسبوك، بل وأكثر حتى من تنظيرات بعض النخب التي يجري الآن تهيئتها في المنافي البعيدة!
* في الأصل مقال نشر بالإنجليزية بموقع عواتي awate.com/the-eritrea-of-adey-hana