إريتريا وجيبوتي الصراع على توظيف موقعهما الاستراتيجي
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - ناشط سياسي وحقوقي إرتري
أعاد سحب قطر قواتها التي كانت تقوم بمهام حفظ السلام بين إريتريا وجيبوتي في يونيو الماضي بسبب نزاعها مع بعض جاراتها،
وٍسيطرة قوات إريترية مرة أخرى على المنطقة المتنازع عليها، النزاع بين البلدين مرة أخرى إلى دائرة الضوء.
فماهي الخلفية التاريخية للخلاف الحدودي وكيف تحول إلى نزاع مسلح ؟
خلفية تاريخية:
يحكم خط الحدود بين إريتريا وجيبوتي بروتوكولان توصلت إليهما إيطاليا وفرنسا، اللتان كانت تستعمران إريتريا وجيبوتي، في 1900 و1901. ترك البرتوكولان جزيرة دميرة ومنطقة راس دميرة دون أن يحددا تبعيتهما لأي من البلدين. في 1935 توصل البلدان إلى اتفاقية تنازلت بموجبها فرنسا لإيطاليا عن جزيرة دميرة وراس دميرة. إريتريا تستند إلى هذه الاتفاقية في ادعاء تبعية المنطقتين لها، بينما تدعي جيبوتي أن الاتفاقية لم يتم التصديق عليها من قبل البرلمان الفرنسي بالتالي ما يسري على الحدود بين البلدين هما فقط بروتكولا 1900 و1901. ومع أن إثيوبيا، التي كانت إريتريا جزءاً منها حسب الترتيب الفيدرالي، وفرنسا التي كانت تستعمر جيبوتي وقعتا في 1954 بروتوكولاً لترسيم الحدود بينهما إلا أن البرتوكول لم يشمل الجزء المتنازع عليه الآن بين إريتريا وجيبوتي.
برز أول نزاع حدودي بين الدولتين المستقلتين في أبريل 1996 عندما أصدرت إريتريا خريطة شملت جزيرة دوميرة وراس دوميرة ضمن حدودها واتهمتها في نفس الوقت جيبوتي بقصف راس دوميرة. استطاع البلدان خلال فترة وجيزة تجاوز خلافهما بشكل ثنائي. ولم يُثر الخلاف الحدودي مرة أخرى لأكثر من عقد، حتى في ظل التوتر الشديد خلال الحرب الإريترية - الإثيوبية.
الخلاف الحدودي - واجهة لصراع مصالح أكبر:
تطل إريتريا وجيبوتي على باب المندب، الممر المائي المهم للتجارة العالمية والذي يمر عبره ما تبلغ قيمته 700 مليار دولارا سنوياً. والجارتان هما منفذا إثيوبيا الأقرب إلى البحر. هاتان الميزتان الاستراتيجيتان حكمتا علاقة البلدين إلى حد بعيد خلال العقدين الماضيين وهما خلف التوترات المستمرة بينهما فكل منهما سعت، وإن اتبعت طرقاً مختلفة عن الأخرى، لتوظيفهما لصالحها اقتصادياً وجيوسياسياً.
جيبوتي تحل محل إريتريا كمنفذ بحري لإثيوبيا:
كانت حولي 90% من تجارة إثيوبيا الخارجية في الفترة بين 1952 إلى 1998 تمر عبر مينائي إريتريا، مصوع وعصب. وعندما اندلعت الحرب الأخيرة بين البلدين اعتقد النظام الإريتري أن بإمكانه استخدام ورقة المنفذ البحري كعامل ضغط لصالحه. لكن جيبوتي والتي كانت منفذ إثيوبيا إلى البحر قبل عام 1952 سعت للاستفادة من الحرب واسترداد دورها القديم ووفرت لإثيوبيا المنفذ البحري الذي عملت إريتريا على حرمانها منه. اتهمت إريتريا جيبوتي بالانحياز إلى جانب إثيوبيا والسماح لها باستخدام مينائها لاستيراد الأسلحة بينما اتهمتها جيبوتي بدعم المتمردين الجيبوتيين. أفضى النزاع في النهاية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في نوفمبر 1998 ليسترداها بعد أقل من عامين بوساطة ليبية.
جيبوتي تفوز بالقاعدة العسكرية الأمريكية في القرن الأفريقي:
بعد هجمات سبتمبر 2001 قررت الولايات المتحدة بناء قاعدة عسكرية في منطقة القرن الأفريقي لاستخدامها في حربها ضد الإرهاب وقد كان أمامها خياران؛ جيبوتي وإريتريا. سعت الحكومة الإريترية بشدة من أجل الفوز بالقاعدة بعد أن انضمت للتحالف الدولي ضد الإرهاب الذي أسسته الولايات المتحدة في عام 2002. تعاقدت الحكومة الإريترية في أبريل 2002 مع شركة أمريكية مقابل 50.000 دولاراً أمريكياً شهرياً ولمدة عام لتحسين صورتها في الولايات المتحدة ولإقناع دوائر اتخاذ القرار بتطوير التعاون معها واختيار إريتريا لتكون مقراً للقاعدة العسكرية الأمريكية لكن الولايات المتحدة، ومع ترحيبها بانضمام إريتريا للتحالف المذكور، لم تقبل عرضها تحت ضغوط من منظمات حقوق الإنسان والصحافة الأمريكية التي احتجت على انتهاكات الحكومة الإريترية لحقوق الإنسان، وبسبب نزاع إريتريا مع إثيوبيا، واختارت بدلاً عنها جيبوتي.
جسر بين جيبوتي واليمن يقصم ظهر علاقة البلدين:
بدأت بوادر الخلاف الأخير بين البلدين في فبراير 2008 عندما شرعت إريتريا في تشييد طريق يربط بين عصب وبوك في الجانب الجيبوتي من الحدود. ادعت جيبوتي أن فريق تشييد الطريق وآلياته عبروا الحدود وبدأوا العمل في راس دوميرة. وحسب الرواية الجيبوتية أيضاً التي أوردها فريق للأمم المتحدة لتقصي الحقائق شُكل بعد تفجر النزاع في 2008، احتلت أعداد كبيرة من قوات الدفاع الإريترية راس دوميرة وجزيرة دوميرة في منتصف مارس دون أن يؤدي ذلك إلى صدامات مسلحة بين البلدين. منذ منتصف أبريل إلى يونيو هرب حوالي 50 عسكرياً إريترياً إلى جيبوتي وطلبت قوات الدفاع الإريترية إرجاعهم لكن جيبوتي لم تستجب. وفي 10 يونيو هرب عسكري من الجيش الإريتري إلى جيبوتي وطالبت قوات الدفاع الإريترية أيضاً جيبوتي بإعادته لكن الأخيرة قدمت له الحماية. بعد حوالي 6 ساعات من هروب هذا العسكري أطلقت قوات الدفاع الإريترية النار على القوات الجيبوتية. استمرت الاشتباكات لأكثر من 24 ساعة وأدت إلى مقتل وجرح العشرات أغلبهم من الجانب الجيبوتي كما أسرت القوات الإرتريين عدداً من الجنود الجيبوتيين.
لا بد هنا من الإشارة إلى ثلاث ملاحظات حول أسباب وتوقيت الصدام المسلح. أولاً، إنه لم يحدث أي صدام مسلح عند استيلاء قوات الدفاع الإريترية على المنطقة المتنازع عليها في منتصف مارس، الصدام حدث لاحقاً في العاشر من يونيو. ثانياً الصدام المسلح حدث بعد 6 ساعات فقط من هروب عسكري إريتري إلى جيبوتي وبعد أن رفضت الأخيرة تسليمه لكن في الفترة من منتصف أبريل حتى يونيو هرب 50 عسكري ورفضت جيبوتي إعادتهم إلى إريتريا لكن ذلك لم يتسبب في أي صدام مسلح. الملاحظة الثالثة هي أن الصدام العسكري وقع بعد أسبوع من حدث آخر جرى على بعد الآلاف الكيلومترات لكن له علاقة بمنطقة النزاع بين البلدين. في الثاني من يونيو أعلنت شركة يملكها طارق بن لادن الأخ غير الشقيق لأسامة بن لادن من مقرها دبي بأنها ستبدأ في 2009 في تشييد جسر يربط جيبوتي واليمن وأنها حصلت على موافقة الرئيس الجيبوتي عمر قيلي على ذلك، نقطة بداية الجسر على الجانب الجيبوتي تبعد 35 كيلومتراً من منطقة النزاع.
كانت شركة طارق بن لادن كشفت لأول مرة عن نيتها ببناء جسر يربط جيبوتي باليمن عبر باب المضيق وبناء مدينة نور في جيبوتي في إطار سلسلة من مدن النور التي خططت الشركة لبنائها في أبريل 2007. بتشييد هذا الجسر ستكون جيبوتي رابطاً بين أفريقيا وآسيا وتحديداً بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية بما لدى الأخيرة من موارد ضخمة اقتصادية ومكانة دينية (الحج والعمرة).
هناك عوامل كثيرة عرقلت البدء في تشييد هذا الجسر منها المخاوف الأمريكية من أن يستخدمه الإرهابيون للتنقل من شبه الجزيرة العربية إلى جيبوتي حيث توجد قاعدة عسكرية أمريكية لكن من المؤكد أن الحكومة الإريترية أضافت عاملاً آخر يجعل من البدء في تشييد مثل الجسر مغامرة خطرة. لكن، وعلى الرغم من فشل هذا المشروع الضخم، صارت جيبوتي، بسبب موقعها الاستراتيجي وسياساتها المرنة، ليس فقط منفذ إثيوبيا الرئيس إلى البحر إنما أيضاً، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع فكرة السماح بها، مقراً للعديد من القواعد العسكرية، الأمر الذي جعلها هي الأصغر حجما وأقل موارداً وسكاناً، أكثر أهمية من الناحية الاقتصادية والجيوسياسية من إريتريا التي دخلت متأخرة ساحة التنافس في هذا المجال باستضافتها قاعدة عسكرية إماراتية في عصب عام 2015.