اللجوء تضحيات شعب من أجل الاستقلال - الجزء الثانى والأخير
بقلم الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبد الله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ
في الجزء الأول تناولنا مرحلتين من هجرات الارتريين الى السودان وتطرقنا الى العوامل التى دفعت الارتريين الى مغادرة بيوتهم
ووطنهم، عبر هجرات فردية أو جماعية معظمها كان الى السودان الشقيق الذى إستقبل اللأجئين الارتريين وتقاسم معهم ظروف الحياة، وفي هذا الجزء نواصل ما تبقى من حديث الذكريات مع المناضل عثمان عبدالله:
إستقر الارتريين الذين هاجروا من المدن الارترية في بعض المدن السودانية وخاصة مدن كسلا والقضارف وبورتسودان، واللأجئ الارتري وجد الرعاية من الاسر الارترية والسودانية التى تقيم في تلك المدن ولم يشعر بأي تمييز نتيجة للتداخل القبلي والعرقي بين السودان وإرتريا، وإن الاخوة السودانيون إستقبلوا إخوتهم الارتريون بترحاب بعيدأ عن أعين السلطات السودانية التى كانت تقيدها قيود العلاقة مع إثيوبيا ومنظمة الوحدة الافريقية، أما موقف الشعب السوداني فكان مرحباً باللأجئين الارتريين عموماً، وحين حدث اللجوء غادر الارتريين وطنهم وذهبوا مباشرة الى أقاربهم الذين يقيمون في بعض مدن شرق السودان فمثلاً إستقر عدد كبير من الارتريين في شرق السودان في كل من مدن كسلا وبورتسودان منذ الاربيعينيات من القرن الماضى وهناك قبائل سودانية في شرق السودان تربطها وشائج الدم واللغة والتاريخ المشترك مع القبائل التى تقيم على طرف الحدود بإرتريا ولذلك نجد أن وجود مثل هذه العلاقات التاريخية خففت على الارتريين القادمين من داخل إرتريا معاناءة اللجوء.
مدينة كسلا والقرى التى تحيط بها مثل ابوعلقة - أم سفرى - عواض الماريا قلسا - اللفة - أبوقمل - ابورؤوف - الحفير- تعتبر أقرب المدن السودانية للحدود الارترية وهذه القرى أصبحت قرى الإنقاذ بالنسبة للإرتريين وصارت داعمة لهم، وهذه القرى هي التي كانت تستقبل اللاجئين الإرتريين الهاربين من المجازر الأثيوبية الذين وصلوا الى تلك القرى بجرحاهم وهمومهم وعذاباتهم، وهذه هي الهجرة الثانية.
أما الهجرة الثالة فتمثلت في الهجرة التى تمت في نتيجة للحرب التى كانت تدور في إرتريا بالإضافة الى المجاعة التى حدثت أعوام 1982م - 1983م - 1984م بفعل عامل الجفاف الذى ضرب المنطقة عموماً،واللأجئين الذين وصلوا في تلك الاعوام تم إستيعابهم بمعسكر الشقراب جنوب منطقة كسلا والقربة، وأيضاً تم إقامة معسكر ود شريفية الشهير في منطقة شرق كسلا، وإن عملية الجفاف ترافقت بعملية تهريب الفلاشا من إثيوبيا الى إسرائيل عبر الاراضي السودانية وحدثت ضجة إعلامية هائلة، وإن عملية ترحيل الفلاشا من إقليم تغراى رافقتها أيضاً دعم منظمات الاغاثة الدولية وخاصة الصليب الاحمر لعدد كبير من معسكرات اللأجئين الارتريين مثل معسكرت أم على ودالحليو والشوك وكركورا كيلوا 26 وأم قرقور وشملت أيضاً مناطقة كثيرة مثل حمدايت والهشابا ومناطق شرق نهر سيتيت، كما شملت أيضاً ود شريفية وغيرها وتلك الاغاثات أنعشت منطقة كسلا وضواحيها وأنا كنت موجود في كسلا في تلك الفترة، الملاحظة الجدير بالذكر هنا جاء الى تلك المنطقة نائب الرئيس الامريكي حينها جورج بوش وتجول في المعسكرات وخاصة منطقة ود شريفي على رأس قوة ضاربة جداً من الامريكان والسودانيين وهذه الزيارة هيئة الارضية لتقديم مساعدات كبيرة للأجئين الارتريين وأتذكر بأن كنتال الارز كان يباع بمبلغ أربعة ريالات سودانية" في تلك الفترة كنا نقول للجنيه السوداني ريال، حيث إنتعشت المنطقة برمتها نتيجة لتلك الزيارة.
ولو تسألنا الأن كيف كان حال اللاجئين الإرتريين مقارنة مع اللاجئين الأثيوبيين، نجد أن اللاجئين الأثيوبيين كانوا يديرون معسكراتهم ويستلمون المواد الاغاثية من الجهات المسؤولة عنها مباشرة ثم يوزعونها على المستحقين بأنفسهم دون أي وسيط أخر، أما اللاجئين الارتريين فكانوا يستلمون المواد الاغاثية من الجهات السودانية المسؤولة عن ذلك.
وفي عام 1967م حدثت وفيات كبيرة في أوساط اللاجئين الإرتريين الذين وصلوا الي منطقة قلسا نتيجة لعدم توفر الرعايا الصحة والجفاف والامراض والمجاعة، والذين قرروا التحول الى منطقة القضارف شاهدوا ما جرى لبعض الاسر الارترية في منطقة قلسا ولذلك رحلوا منها.
فمثلا لو تسألنا عن كيف أقيمت منطقة ود شريفي ؟
نجد أن منطقة ود شريفي قامت على رفاة الموتى نتيجة المجاعة، وأتذكر إنني زرت منطقة ود شريفي دون أي تكليف من أي جهة رسمية وهناك وجدت مقابر لـ حوالى ستة وثلاثين ألف طفل ماتوا في تلك الفترة في ود شريفي، كان ذلك في عام 1984 م، وجولتي كانت سرية جداً بعيداً عن أعين السلطات السودانية والمنظمات الإغاثية العاملة هناك، في هذه المنطقة الموت كان حاضراً في كل أركان المعسكر الذى يعد الأكبر في تلك المنطقة نتيجة لنقص في الادوية والمواد الغذائية وسوء الإدارة وغير ذلك من العوامل. أتذكر الان حادثة لا يمكن نسيانها أبداً في تلك السنة حيث جاءت إحدى المبشرات وجمعت حوالى سبعين طفل من مناطق بركة والقاش ممن فقدوا أباءهم وذويهم، وسجلت هؤلاء الأطفال في سجلات إحدى المنظمات وقررت السفر بهم عبر إحدى الطائرات،حيث تأمرت معها عدد من الجهات ووفقت في نقلهم عبر الطائرة الى جهات غير معلومة، "الناس الضعفاء الذين لا يملكون فعل شيء ما كانوا يقولون هؤلاء الأطفال المشلخون الى أين ذاهبون مع هذا الخواجة"، تلك كانت مجرد صيحة في الهواء كان يطلقها رجال أوهنتهم المحن والظروف الصعبة وأصبحوا فريسة لمختلف الكوارث والامراض. الناس كانوا غير راضية بذلك ولكن ماذا كان بوسعهم أن يفعلوا سوى الصراخ.
فمثل حيناللأجئين من إقليم تغراي في منطقة أم راكوبا شرق القضارف نجد أحوالهم كانت جيدة لأن إستفادوا من وجود الفلاشا معهم حيث سخرت لهم إمكانيات هائلة ودعم سخى، وأعلن في بادى الامر بأن بأن مجاعة ضربت مناطق في إقليم تغراىعام 1984م وحدثت هجرة كبيرة نتيجة لذلك ولكن في الحقيقة تلك المقولة كانت مجرد ذريعة لترحيل تحت غطائها الفلاشا الاثيوبين الى إسرائيل، أقيمت المعسكرات وصرفت أموال كبيرة على تلك المعسكرات من قبل الدول الغربية، قرروا تسليم المواد الاغاثية لإدارات التغراي، الطائرات كانت تراقب مسيرة الفلاشا التي كانت تنطلق من غوندر حتى تصل الى نقاط التجميع داخل المعسكرات ومنها يتم ترحيلهم الى إسرائيل.
حين نعود الى مرارات اللجوء نجد أن الكثير من الاسر كانت تفقد أبنائها نتيجة للكشات الغير منظمة التى كانت تقوم بها السلطات السوداية.
فمثلاً في عام 1980م كانت هناك حملة غير منظمة لإخراج الارتريين من المدن السودانية وترحيلهم الى معسكرات اللأجئين وهم لأجئين عام 1975م،حيث كان يتم القبض علي أي شخص إرتري سواء كان ذكر أو أنثي في السوق أثناء ممارسة مهنة ما ويتم ترحيلهم فوراً باللوارى الى معسكرات الفاو، كانت عملية تشتيت عشوائية للأسر الارترية، أيضاً كان يتم مهاجمة الاحياء التي كان يقيم فيها الارتريين ويتم القبض على الاطفال والنساء ويتم ترحيلهم عشوائياً ولاتوجد جهة رسمية يمكن أن تسألهم عن مسير بنتك أو ولدك، تلك أيضأً كانت معاناءة أخرى دفع ثمنها الارتريين في السودان.
والذين ضاعوا في تلك الفترة لا أحد يسأل عنهم وكانت عملية خطيرة جداً كادت أن تولد أحقاد كبيرة جداً بين الارتريين والسودانيين وأخيراً تدخلت السلطات لا أدرى أي جهة هي التى تدخلت وأوقفت تلك الحملات والكشات على الارتريين وشبه إنتهت،جزء من الارتريين تم نقلهم الى منطقة القربة حيث كان غالبية سكانها هم من اللأجئين الارتريين الذين كانوا يقيمون في المدن السودانية.
أما منطقة كيلوا 26 ومنطقة أم قرقور والشوك وكركورا أيضاً تأسست بنفس طريقة القربة من اللأجئين الارتريين الذين كانوا يقيمون في المدن السودانية.
الانسان الإرتري كان يختار البقاء في بلده وكان يختار أن يعيش في المناطق المتاخمة لإرتريا حيث كانوا يتمركزون بالقرب من المناطق الحدودية حيث توفر المراعي والاراضى الصالحة للزراعة وحتى منطقة قلسا إستقر بها أعداد كبيرة دون أن يتلقوا أي مساعدات، ومنهم من كان يعود الى مناطقه حين يعلم بأن القوات الاثيوبية إبتعدت عنها.
بهذه المناسبة أقول كان هناك معاناءة وسعادة وإنتعاش وصمود وقوة عجيبة في تحمل الصعاب وتذليلها وألالام وجراحات وتغلبات، أيضا أذكر بهذه المناسبة أن الاخوة السودانية إستقبلوا اللأجئين الارتريين بروح الرحمة والشفقة وكانت الأسر السودانية تستقبل اللأجئين في منازلهم وتقديم المساعدة المتوفرة بالرغم من أن ظروفهم هم أيضاً كانت شبه صعبة وخاصة محدودية مؤسسات التعليم والصحة والارتيون شاركوهم في القوت الضرورى المتوفر في السوق وغيرها من المرافق الحيوية وأكرر بعيداً عن أعين السلطات السودانية، والمعاناءة خلقت وحدة متينة بين الاخوة الارتريين والسودانيين حتى اليوم وستظل للأبد.
أتذكر أن بعض المناطق التى سكنها الارتريون تحولت الى مناطق حضرية والارتريون ساهموا في إنعاشها بما يملكونه وبالدعم الذى كانوا يتلقونه من أقاربهم وأبنائهم.
ماذا كان دور الثورة في دعم معسكرات اللأجئين الارتريين وخاصة فيما يتعلق بالادارة والتعليم والصحة وغيرها ؟
الثورة أصلاً كانت تتلقى الدعم من اللأجين الارترية، واللأجئين الارتريين كانوا لاجئين ثوار يعملون ليل نهار لدعم الثورة بالمال والبشر، وحين أتحدث عن هذا الموضوع قد لا أحصى الحقائق الخاصة بها، ولكن أقول إن الأسر التى كانت تهاجرالى السودان أبنائها كانوا مناضلين في الثورة وأبنائها هم الذين حملوا السلاح وواجهوا العدوا ونتيجة لذلك حدث المجازر والابادات الجماعية التى نتجمت عنها الهجرات الجماعية من المدن والقرى الارترية.
اللأجئين كانوا شريان الثورة بالاضافة الى الراعى والمزارع والتاجر الذي كان يقيم في المدن الارترية، وإن الثورة لم يكن لها إعتراف كاملة من قبل السلطات السودانية ولذلك إن معظم عمل الثورة كان سرياً،وإن الاثيوبين كان لهم قرارات جائرة تلزم أعضاء منظمة الوحدة الافريقية، فمثلا في عام 1967م عندما كان السيد الصادق المهدى رئيس للوزرا في السودان وكان وزير الخارجية أو وزير للداخلية في تلك الفترة في حكومته /عبدالرحمن نقدالله حصل إتفاق بينهم وبين وزير الخارجية الاثيوبي / كتمايوا فرو حيث ردد في السودان المثل العربي الشهير "من كان بيته من زجاج لايرمي بيوت الأخرين بالحجارة" هذا كان تهديد مبط للسلطات السودانية في تلك الفترة.
الثورة ونتيجة للتطور الملحوظ الذى شهدته إستطاعت تأسيس بعض المدارس في مناطق إقامة اللأجئين الارترية حيث كانت البداية بمبادرة من الشهيد/ محمود صالح سبي الذى أقام عدداً من المدارس مثل مدارس النضال والوحدة الوطنية ثم لحقت به بقية التنظيمات الارترية وفتحت عدداً من المدارس لتعليم أبناء الارتريين ليكونوا رجال الغد، وأيضاً مدارس اليونسكوا والكمبونى ساهمت في توفير فرص لتعليم الارتريين في داخل المدن اللسودانية وفي معسكرات اللأجئين الارتريين.
بالنسبة لقطاع الصحة أقامت الثورة بالتفاهم مع السلطات السودانية عدداً من المراكز الصحية والمستشفيات داخل المدن السودانية وفي معسكرات اللاجئين الارتريين واستعانة بأطباء سودانيين ومصريين بالإضافة الى الأطباء الإرتريين الذين كان يلجؤون من المدن الارترية ليحل الضائقة الصحية التي كان يعاني منها الارتريون في الجانب الصحي.
اللجوء شكل محنة حقيقية بالنسبة للأجئين الارتريين ولكن عزيمة الانسان الإرتري التى لا تلين أسهمت في تخفيف تلك المعاناءة حيث ضمدت الجراحات بتحرير كامل التراب الإرتري من المستعمر الاثيوبي، والارتريون دفعوا مهرالاستقلال بكل غالى ونفيس وكان اللجوء جزء من ذلك.