مساجين الرأي في إرتريا.. المنسيون في بلد منسي
بقلم الأستاذ: عبد القادر محمد علي - كاتب وباحث المصدر: مدونات الجزيرة
بعض الأحداث تبقى ملتمعة بين ثنايا الذاكرة وإن أنستنا السنوات الأسباب الكامنة وراءها، من ذلك أول مادة نشرتها على العلن، كنت
في الصف الثاني الثانوي وكانت إرتريا التي استقلت عام 1993 في مطالع عامها الثاني أيضاً، كتبت حينها قصة قصيرة عن يوميات معتقل سياسي إرتري، عن القيود وخُطا السجان الحديدية عن الزنازين وأحلام السجين. والآن بيني وبين ذلك الشاب اليافع ما يقارب 23 عاماً تغيرت فيها الدنيا، لكن ذلك السجين المنسي بين جدرانه الأربعة لم يتغير من حاله شيء، كل ما في الأمر أن عدد السجون في إرتريا تضاعف وغصت بالقادمين إليها قسراً.
إن السجناء على اختلاف منابتهم وتوجهاتهم وشخصياتهم موافقهم، يكاد يجمعهم التساؤل الطافح بالمرارة عن الذين في الخارج، عن روابط الدم والوطن والإخوة والدين وأثرها في موقفهم من المحبوسين على بعد أمتار منهم!
ظاهرة الاعتقال السياسي أو الإخفاء القسري ولدت مع ولادة الدولة الإرترية، بل سبقتها! وكانت إرهاصاً بطبيعة المستقبل الذي سيكتنف البلاد التي تحولت هي نفسها إلى سجن كبير، ومنذ حملة الاعتقالات الجماعية الأولى في 14 أبريل/نيسان 1992 استطاع النظام الحاكم أن ينشئ ما يشبه مجتمعاً موازياً خلف جدران معتقلاته؛ مجتمع عابر للجماعات الدينية واللغوية والجندرية والجغرافية وحتى العمرية داخل البلاد.
خلف تلك الجدران اختفى "إبراهيم محمد جمع" الأستاذ الذي اعتقل عام 1992 وأُلحق به ابنه عبد الوهاب بعد عامين، في حين قضت أزمة قلبية على ابنته من هول صدمة ما حاق بأبيها. وهناك اختفى عام 1995 محمد عثمان داير الذي قارب الستين والمثقل بأمراضه دون أثر. وهناك اختفى الصحفي داويت إسحاق منذ 2001 لأن قلمه لم يخضع لمعادلات الترغيب والترهيب. وهناك اختفت منذ 2003 أستير يوهنس زوجة المعتقل والقيادي السابق في الحزب الحاكم بطرس سلمون.
وهناك اختفى، عام 2005، إدريس محمد علي، قيثارة الثورة الذي طالما غنى لإرتريا الحرة المستقلة. وهناك اختفت، عام 2012، سهام علي عبده في ربيعها الـ 15 لتكمل الآن 5 سنوات حبساً وكل جنايتها أن والدها انشق عن النظام. وغيرهم كثر يُغيّبون لوشاية أو شك أو لمحاولتهم الهرب من خدمة العلم التي تمتد سنواتها بلا نهاية في إرتريا.
تقول الأمم المتحدة إن عدد المعتقلين في إرتريا 10.000 ويقول غيرها 15.000ويقول آخرون إن العدد أكبر بكثير من هذا، في ظل التكتم الشديد والإنكار ومنع الزيارة، ولكن هل للعدد هذه الأهمية حقاً؟ ما أهمية الأرقام التي تعجز عن كشف الصورة الحقيقية أمامنا، تحجب عن أعيننا قلوب أمهات ودموع آباء وصبر زوجات ويتم أبناء وقلق إخوان، فالأسير ليس كائناً تخلّق من فراغ إنه ابن عائلة ما، ومع إدخاله المعتقل تدخل الأسرة كلها معه عالم الانتظار المرير.. قلب أم لا تدري أحي ابنها أم ميت ما يزيد على ربع قرن، مثلاً، مقياس صادق لفداحة جريمة التغييب القسري.
وبين طرفين يخطئان النظر والتحليل تقع قضية المعتقلين والمغيبين قسراً؛ أنصار النظام الذين يعدونهم مجرمين، دون محاكمة حتى، "لأن القيادة بالطبع تعلم خيراً منا جميعاً". وطرف معاكس يؤطرهم ويضفي عليهم هالات بطولة تكاد تنزع عنهم بشريتهم، في مناورة للهرب من ثقل المسؤولية، ربما لا، إنهم بشر مثلي ومثلك يعانون ويتألمون ويضعفون، ربما ينهارون تحت وطأة تعذيب جسدي ونفسي متعدد الأنواع والمستويات لا يرحم، يزيده مرور السنوات الطوال ثقلاً وألماً، في سجون لن يخذلنا الخيال عند تَصوِّر وحشيتها في دولة تصنفها الأمم المتحدة بين أصحاب أسوأ سجلات انتهاك حقوق الإنسان في عالم اليوم.
وطني يا سادة تتحاشاه عيون الإعلام في خفر، لسبب أعيا الإرتريين معرفته، رغم أنه يمثل حالة نموذجية لكل ما يجذب الأقلام ويطلق الألسنة، الصمت بأوصافه المتعددة: الخجول ربما، المتواطئ أحياناً، الأعمى دائماً، قاعدة لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم بكل ما تختزنه من حكمة الهروب تمنح الطغاة الأريحية في ممارسة لذائذهم، ومنها العمل الدائم على محاولة إذلالنا، وهنا تكمن إحدى كبرى العقد في العلاقة بين الجلاد ومعتقل الرأي، الرغبة في الوصول إلى نشوة التطويع التي يعرقلها ربيع الأمل والصمود المتجدد في قلوب المعتقلين.
ظاهرة الاعتقال السياسي أو الإخفاء القسري ولدت مع ولادة الدولة الإرترية، بل سبقتها! وكانت إرهاصاً بطبيعة المستقبل الذي سيكتنف البلاد التي تحولت هي نفسها إلى سجن كبير!
وفي إحدى مفارقات الحياة اخترت لرسالة الماجستير موضوعاً متعلقاً بأدب السجون السياسية، وقرأت منها الكثير، ووجدت أن السجناء على اختلاف منابتهم وتوجهاتهم وشخصياتهم موافقهم، يكاد يجمعهم التساؤل الطافح بالمرارة عن الذين في الخارج، الأحرار كما يفترضون أو تفترض المقابلات اللغوية، عن روابط الدم والوطن والإخوة والدين وأثرها في موقفهم من المحبوسين على بعد أمتار منهم!
باختصار، كان تساؤلهم عن أين أنتم؟ وكيف تستطيعون النظر إلى وجوهكم في المرايا باطمئنان ونحن نُسقى المر قطرة قطرة بين يدي الجلّاد؟ ورغم الملاحظات الناقدة التي سمعتها في لجنة المناقشة إلا أنني كنت راضياً.. لربما كانت الرسالة جوابي المتواضع عن تساؤلهم... فهل هو كاف يا ترى؟ وهل أعددنا إجاباتنا؟