رحيل أرشيف الثورة القائد أحمد جاسر رحمه الله
بقلم الأستاذ: عمر عثمان ديهيشي - كاتب وناشط سياسي إرتري
فجع الشعب الارتري يوم الجمعة ٢٠ ديسمبر ٢٠١٩م بوفاة أرشيف ثورته كما كان يلقبه رفاقه
وأحد القادة التاريخين ، ورمز من رموز نضال الثورة الإرترية المجيدة ، ألا وهو القائد/ احمد محمد جاسر ، الذي انتقل إلى رحمة ربه في مدينة القاهرة بعد حياة مليئة بالتضحية والفداء والنضال من أجل تحرير إرتريا واستقلالها ، وتاريخ هذا الفقيد هو تاريخ للشعب الإرتري ، ونضالاته ، لذلك لا يمكن أن تقرأ سيرته بمعزل عن كثير من الأحداث الكبرى التي شارك فيها أو كان طرفا فيها.
قائد من أسرة قيادية فريدة:
ولد الفقيد رحمه الله في ارافلي جنوب مدينة مصوع في أربعينات القرن الماضي ، وهو من بيوت الزعامات الوطنية في اكلي قوزاي إذ كان والده عمدة ارافلي وحاضن للثورة وعمه الحاج محمود جاسر عضو البرلمان الارتري و أحد رموز وزعامات الرابطةالإسلامية ، وقد وافته المنية في مدينة القاهرة التي كثيرا ما تردد عليها مع رفاقه لبحث الدعم والتأييد لقضية شعبه الذي حمل همها في وقت مبكر من عمره منذ أن تعرف على أستاذه وقائده لا حقا الزعيم الوطني عثمان سبي في رحاب مدرسة القادة مدرسة حرقيقو التي كان الأستاذ سبي أحد مدرائها ، وقد أسس تلك المدرسة رجل الأعمال والمحسن الارتري الكبير الباشا صالح كيكيا الذي تعذر له النظير في عصره وحتى الان في إرتريا.
قصة كتابة المذكرة القانونية للأمم المتحدة:
كان يقول فقيدنا عندما هم الفارس (والمحامي الإرتري محمد عمر قاضي) للذهاب الى الامم المتحدة لتقديم الشكوى ضد إثيوبيا لانتهاكها قرارات الأمم المتحدة بخصوص الحكم الفيدرالي في إرتريا طلب الشيخ إبراهيم المختار مفتي الديار من البعثة الأزهرية في اسمرة مساعدة القاضي في إعداد المذكرة القانونية وذلك بعمل توصية له الى القاهرة التي كانت طريق
المحامي محمد قاضي إلى مقر الأمم المتحدة وفعلا قام بالمهمة عميد كلية الحقوق في جامعة القاهرة الأستاذ الدكتور/ العربي وهو والد السيد/ نبيل العربي الذي شغل منصب امين الجامعة العربية.
محمد قاضي بعد عودته وقبل أن يزج به في السجن سلم نسخة من المذكرة باللغة الإنجليزية للشيخ ابراهيم المختار ، ورأى المفتي استمرار إثارة القضية في المحافل الدولية بعد سجن القاضي ولذلك أجرى الإتصال والتشاور مع الرموز السياسية وتم الاتفاق على إرسال وفد من ثلاثة اشخاص إلى الخارج وهم الشيخ إبراهيم سلطان رئيس الرابطة الاسلامية والسيد/ ادريس محمد ادم - رئيس البرلمان والسيد/ محمد عمر اكيتو - عضو البرلمان الذي اعتذر لظروف خاصة ، وسأل المفتي عمن يمكن تكليفه لترجمة المذكرة الى اللغة العربية لتكون ضمن المستندات في حوزة الوفد فرشح له الأستاذ صالح عبد القادر بشير (وهو من الشخصيات الوطنية المعروفة في مصوع ورئيس جمعية العروة الوثقى التي كانت من أهم أهدافها مساعدة الطلاب للذهاب الى مصر لمواصلة التعليم) الأستاذ عثمان سبي وقام سبي بالمهمة خير قيام.
وكان فقيدنا طالبا متفوقا ومتميزا بجمال خطه فكلفه سبي دون غيره بنسخ ما يترجمه وهو ماكان محل اعتزازه وإمتنانه ايضا لأستاذه سبي الذي منحه الثقة في ذلك السن المبكر ليعرف ان هناك قضية شعب يجب العمل والتضحية من أجلها.
وعندما عرضت المذكرة على سماحة المفتي قبل طباعتها سأل المفتي عن صاحب الخط التي نسخها فلما عرف كلف خاله الشيخ الازهري/ عثمان سليمان مدير المعهد الديني في ارافلي ومؤسس مدرسة الإرشاد الى المراحل الثانوية في جيبوتي لإحضاره إلى مكتبه ، فعند مقابلته أثنى عليه وشجعه ثم نادى سكرتيره وابلغه بأن يسمح له بدخول المكتبة عند زيارته لدار الإفتاء والإطلاع على ما يشاء فكان ذلك فتحا عليه وأكثر ما يعتز به واستغل تلك الفرصة الذهبيةواستفاد منها كثيرا كلما تواجد في اسمرة.
عضويته في العروة الوثقى نيابة عن سبي:
زادت متابعات ومضايقات الأمن الأثيوبي للأستاذ عثمان سبي بعد استجوابه في رئاسة الأمن في اسمرة لساعات طويلة على إثرها تم عزله من ادارة المدرسة ، حينها أدرك سبي أن هذا الإجراء هو تمهيد لإعتقاله فذهب إلى عصب وعمل في شركة النقل البحري ثم سافر إلى الخارج وطلب الأستاذ عثمان سبي قبل سفره أن يكون الفقيد عضوا بدلا عنه في جمعية العروة الوثقى التي كانت تتكون من الأساتذة/ صالح عبد القادر بشير ، محمد عبد القادر ، محمود سبي ، الشيخ سليمان ، الشيخ حامد (والله أعلم ان كان هناك آخرين وإنما هذا ماجادت به ذاكرتي) فجمعه بتلك القامات ، وكلفه ليكون عضو فيها بدلا عنه وقال لهم هذا هو الشاب الذي حدثتكم عنه ويمكنكم الوثوق به تماما ، فكان شرفا له ان يتتلمذ فقيدنا على يد هؤلاء جاهبزة العمل الوطني في تلك المنطقة من وطننا الغالي.
أصغر عضو ينضم لحركة تحرير إرتريا:
ولما بلغ نشاط حركة التحرير قمته وانتشرت خلاياها في جميع مدن إرتريا وكان يرأس فرع الحركة في مدينة صنعفي وريفها العم/ محمد الأمين إبراهيم ايفرح الذي طلب من صديقه عثمان ديهيشي تأسيس فرع للحركة في إرافلي نظرا لأهمية موقعها الاستراتيجي باعتبارها سوقا كبيرا لمن حولها وأنها ملتقى الطرق بين دنكاليا واكلي قوزاي ومصوع وفعلا قام ديهيشي بجمع من يثق بهم و منهم فقيدنا اصغرهم سنا اذ كان يقضي اجازته ، وهكذا تم تكوين خلية إرافلي للحركة بحضوره وتوثيقه.
بعد إعلان الشهيد القائد حامد عواتي في الفتاح من سبتمبر ١٩٦١م بدء الكفاح المسلح ارتبطت خلية إرافلي بالجبهة عمليا فأصبح عضو في الجبهة تلقائيا ومن كان معه كما كان حال أغلب اعضاء حركة التحرير.
الانتقال إلى تعز وبدء مرحلة جديدة من النضال:
وفي ٢٤ سبتمبر ١٩٦٤م غادر فقيدنا اسمرة إلى مدينة تعز في اليمن بعد صعوبة من الاجراءات المعقدة وبكفالة خاصة من العم/ علي حقو ، وعمل لفترة في شركة الطرق التابعة لوكالة التنمية الدولية وقام بتشكيل فرع مع زميلين له حسن حسين قبيل وعبده علي هيجي وعدد من الشباب من بينهم يمنيون من مواليد إرتريا.
وفي عام ١٩٦٥م جاء سبي في زيارة لليمن ولم يكن لديه علم بوجوده هناك فجاء للشيخ/ علي حمد الشخصية الإرترية المرموقة من أهلنا العفر ومن ايام الأمام في اليمن حامي الإرترين بعد الله من عملاء السفارة الأثيوبية لما كان له من تقدير واعتبار لدى المسؤلين اليمنيين ، فسأله سبي عن الإرترين في المنطقة فذكر له أسماء من بينها إسمه كانت مفاجأة سارة لسبي الذي ترك له عنوان فندقه ، وبعد انتهاء شوق القاء بينهما أبدى سبي رغبته لمقابلة الرئيس عبد الله سلال فكان فقيدنا قد أقام خلال فترة قصيرة عن طريق العم/ علي حمد علاقات مع الأستاذ/ احمد نعمان رئيس وزراء اليمن سابقا والقاضي/ عبد الرحمن الارياني نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم آن ذاك وبجهودهما تم ترتيب المقابلة لسبي مع الرئيس سلال.
إلى دمشق وتأسيس منظمة العقاب الفدائية:
وفي عام ١٩٦٧م تم تكليفه مسؤولا عن مكتب الثورة في دمشق وفي مارس ١٩٦٩م كان من مؤسسي منظمة العقاب الفدائية لضرب المصالح الأثيوبية في الداخل والخارج التي نفذت عدد من العمليات الناجحة في مطاري فرانكفورت وكراتشي وضد خطوط سكك الحديد بين جيبوتي وإثيوبيا وكان هو احد العناصر التي نفذت عبر البحر الأحمر ، وفي اواخر نفس العام تم تكليفه مسؤولا عن مكتب عدن.
الانتقال إلى مكتب ليبيا والإسهام في ثورة تعليم الإرتريين:
ثم في عام ١٩٧٢م نقل الى ليبيا في إدارة المكتب مع الزعيم الوطني/ عمر برج (الذي يعود له الفضل بعد الله في فتح فرص التعليم واسعةللإرترين في ليبيا دون استثناء بينهم) ، وأسهم في هذه الفترة في ثورة تعليمية كبرى للطلاب الارتريين الذين تم ابتعاثهم بالمئات إلى ليبيا.
المهام القيادية الأمنية والسياسية بعد ليبيا:
في عام ١٩٧٧م تم ترشيحه عضوا في اللجنة التنفيذية لقوات التحرير الشعبية ومسؤولا عن مكتب التوجيه المعنوي والإعلام الداخلي ، وشهد العمل السياسي في تلك الفترة نقلة نوعية كبيرة ، وقدم فيها الفقيد تضحيات كبيرة ، مما أهله لكي يسندوا إليه عام ١٩٧٩م إليه رئاسة المكتب العسكري وجهاز أمن الثورة وهو آخر منصب تقلده. وكلف هو ورفيقه الزعيم/ محمد سعيد ناود من قبل قوات التحرير الشعبية لإقامة تنسيق مع حركة التصحيح بقيادة القائد الشهيد/ سعيد حسين.
حسن خلقه رحمه الله:
ويشهد كل من عاشر فقيدنا أنه كان صاحب خلق رفيع وتواضع جم لا حد له وعقل راجح وحكمة بالغة ، وكان ودودا لطيفا دون تكلف متواضعا رغم المهام والمناصب مما جعله صديقا لجيل الأباء والأبناء.
ولقد سرني كثيرا مقال القائد المظفر اللواء/ عثمان محمد أطال الله عمره على طاعته وختم له بالحسنى في نعيه للفقيد الذي أفاد فيه أنه قد تصالحا وتصافيا في العام الماضي في القاهرة بعد نقاش و حوار طويل حول ما كان بينهما من خلاف في أسلوب العمل الثوري بعد فراق دام لا أكثر من ثلاثين عاما ، تلك هي شيم العظماء بل هو من صميم تعاليم ديننا الحنيف وهي رسالة لكل القادة بل لكل مسلم لبيب.
محاولات نظام الشعبية لكسب وده:
وقد يعلم الكثير منا أن نظام الجبهة الشعيبة بذل جهدا كبيرا بعد الاستقلال ترغيبا وترهيبا من خلال واجهات مختلفة لاستمالته إلى صفهم ، ورفض رفضا قاطعا ، لمعرفته التامة بمشروعهم وحقيقتهم.
الإصرار على اللقمة الحلال:
رفض فقيدنا رحمه الله كل محاولات أسياس لاستمالته ، وآثر ان يكد ويعمل ويعيش من عرق جبينه شريفا عفيفا في عمل كان شاقا لمن في سنه ورغم ذلك عجبت لمن حاول الإسأة له والنيل منه بعلاقته بالشعبية في مهاترات كانت في إطار تصفية حسابات قديمة وهو أسلوب العجزة من أصحاب النفوس التي مازالت في غيها هداهم الله.
و هكذا لحق فقيدنا بقافلة الزعماء والقادة الذين دفنوا خارج وطنهم وقد افنوا جل أعمارهم في النضال من اجله بسبب طاغية إرتريا وعصابته ولن يتبدل الحال إلى أن نعرف حقيقة الصراع وحجم التآمر ، ثم نستعين بالله لتوحيد صفنا ، حتى لا يستمر هذا الليل المظلم على حياتنا ، وحتى يتهاوى هذا النمر الورقي الذي استبد كثيرا.
التعزية الحارة:
نرفع تعازينا الحارة إلى الأعمام/ عبدالله وإسماعيل جاسر وأبنائهم وأبناء رمضان جاسر واخواته وابنته/ ام بلال وزوجها الأستاذ/ محمد صالح ابن الأستاذ/ أحمد في بيرث استراليا وجميع آل جاسر في داخل الوطن وخارجه وإلى الأخ/ عبدالله صالح اندقو واخواله الشيخ/ احمد إسماعيل والشيخ/ سليمان إسماعيل والشيخ/ محمد علي وابنه الشيخ/ عبده شريف. وإلى الإعلامي الإرتري القدير/ عثمان ايفرح والتعزية موصولة إلى رفاقه من الرعيل الأول ومحبيه والشعب الإتري العظيم.
باختصار:
أهم صفتين في القيادات هما القدوة والثبات ، وبهاتين الصفتين يتحقق الإلهام ، وتبنى روح العزة والكرامة في الأتباع ، وإذا كان القائد أحمد جاسر قد رحل عن دنيانا الفانية ، فقد كانت وفاته حياة لأجيال جديدة ، رأيناها في مجالس العزاء التي أقيمت في دول العالم كلها ، والتي أصر فيها المعزون أنهم لن يتخلوا عن درب الحرية والكرامة التي أفنى فيها الفقيد وصحبه الكرام حياتهم وزهرة شبابهم من أجلها ، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
اللهم ارحم فقيدنا بواسع رحمتك واغفر له وتجاوز عنه وأكرم نزله وأنزله الفردوس الأعلى من الجنة وجميع من ذكرتهم من موتانا وموتى المسلمين وارحمنا اذا صرنا إلى ما صاروا إليه ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.