ذكريات مع الراحل الكبير عمر محمد البرج
بقلم المناضل الأستاذ: إدريس عثمان شانينو - ملبورن المصدر: فرجت
فقدت ارتريا واحداً من أبناءها المخلصين المعروف بالمواقف الانسانية
والوطنية وبالأفضال الكثيرة علي أبناء الوطن الشيخ/ عمرمحمد البرج يرحمه الله، تعرفت به لأول مرة في أوائل عام 1975 بطرابلس الغرب بواسطة أحد أقربائي المرحوم المهندس/ محمد علي محمد سعيد قنشرة، وتوطدت العلاقة بيننا فيما بعد سريعاً، كانت جملة من الصفات النبيلة تشدني نحوه بالرغم من اختلاف مواقعنا السياسية، لم يكن الاختلاف السياسي حاجزاً بينه وبين الارتريين علي الاطلاق، يكفي ان تقول له أنك ارترياً فيهب الي نصرتك، كان معياره الوطن وليس أي ولاءات اخري،
كثيرة من مواقفه مازالت مطبوعة في قلوب الطلاب والعمال بالجماهيرية الليبية خاصةً، بالنسبة لي أري لزاماً عليّ ـ علي الأقل من الناحية الأخلاقية ومن باب أذكروا محاسن موتاكم ـ أن أذكر مواقفه الشخصية معي ومواقف أخري شاهدتها له تجاه أرتريين آخرين، لعل أولاها كانت موقفه مع 9 أرتريين مع عائلاتهم وهم من ابناء المرتفعات حيث كانوا يعملون في مصفاة ”عصب“ الحكومية ثم هربوا ودخلوا الي مدينة ”عدن“ وهم كانوا اعضاء تنظيم قوات التحرير الشعبية في ذلك الوقت فقام المرحوم باصدار تأشيرات دخول لهم الي ليبيا وعند وصولهم آمن لهم فرصة عمل في مصفاة البترول بمنطقة الزاوية،
وحين وقع الخلاف داخل تنظيم قوات التحرير الشعبية وخرج منها تنظيم الجبهة الشعبية أنحازوا جميعهم بقيادة الأخ/ محمد نور عثمان (ديقول) الي الجبهة الشعبية، وبعد فترة قامت السفارة الاثيوبية بطرابلس بمنح جوازات سفر للأرتريين فحملوا جميعهم الجوازات الاثيوبية، وبعد ذلك ادعت السفارة الاثيوبية بفقدان جوازات أتهمت فيه ارتريين من المجموعة كانت تتردد اليها بصفة مستمرة وكان واحداً منهم يدعي (ياريت) والثاني لم يستحضرني اسمه الآن، فقامت السلطات الليبية باعتقالهم ورفضوا جماعتهم تبليغ المرحوم عمر محمد البرج لأنهم كانوا يرون أنه مسئول قوات التحرير وليس الجبهة الشعبية،
وبعد فترة قمت بزيارة أسرة (ياريت) من منطلق المعرفة بيننا أقترحت علي زوجته بأن تخبر السيد/ البرج وذلك لما يتمتع به من صلات قوية مع النظام الليبي وما يقدمه لكافة الأرتريين من رعاية أبوية شاملة، وفعلا سمعت نصيحتي وأبلغت السيد/ عمر بالأمر فقابل فوراً وزير الداخلية الليبي وقال له بالحرف الواحد أن الشعب الارتري برمته وليس فردين منه متهماً من قبل اثيوبيا فاذا كانت ليبيا تسمع أكاذيب النظام الاثيوبي وتضيق ذرعاً بوجود الارتريين فاننا سنغادر أرض الجماهيرية ونعود الي السودان الذي أستضافنا دون منةً أو أذي منذ عام 1967 فتأثر الوزير بكلامه وأمر فوراً باطلاق المحتجزين وقام المرحوم بايصال المفرج عنهما الي منازلهم بسيارته الشخصية،
وأتذكر للمرحوم أيضاً موقفاً آخر حدث بعد دخول جبهة التحرير الأرترية الي الأراض السودانية حيث وقفت القواعد العمالية والطلابية مع ”حركة مارس“ من منطلق الانحياز الي البندقية، كان حينها ممثل التنظيم في الجماهيرية المناضل/ سليمان موسي حاج والذي تم تكليفه بمهمة أخري وحضر الي ليبيا ممثل جديد، هذا العنصر الجديد قام بعد فترة بتسليم المكتب الي النظام الليبي في موقف أدهش الليبيين أنفسهم فقاموا فوراً بتسليم المكتب الي جبهة (مورو) الفلبينية وكنا نعيش في تلك الأيام في ذهول شديد مما حصل الي أن ناداني يوماً المرحوم عمر البرج وفاجأني بموقف نبيل آخر، قال لي هذه وثائق مكتب الجبهة وفي نفس الوقت قال لي عبارة لم أنساها مادمت حياً (ياشانينو الحمد الله لم يرم الوثائق في الزبالة هذا جهد مناضلينا ومن أجل الوطن) ولهذا يمكنكم في جبهة التحرير استلامها في أي وقت تشاءون فأخبرت الزميل/ عبده علي هيجي وأخذنا الوثائق ونحن نكبر هذا الموقف الوطني للمرحوم.
أما علي المستوي الشخصي، فأتذكر لهذا الرجل العظيم مواقف بناءة معي ولم يحل الاختلاف السياسي بيننا في حجب أي مساعدة أو تلبية نداء، هذه شهادة للتأريخ الرجل كان يخدم كافة الارتريين ويسعي الي علو شأنهم خاصة في جانب العلم وتحسين الأوضاع المعيشية، ومن أجل هذا الهدف ساعد أخاً وإبن خالة لي أتوا الي ليبيا، فطلب مني تسجيلهم لدي مكتب تنظيم قوات التحرير حتي يؤمن لهم منحة دراسية لكن السيد/ أحمد جاسر ـ سامحه الله ـ رفض تسجيلهم لأنهم غير ملتزمين في قوات التحرير فألزمه المرحوم بتسجيلهم لأنهم أرتريين بغض النظر عن اتماءاتهم وقال له أن تعليمهم هو لأرتريا وليس للتنظيم.
وتستحضرني واقعة اخري أيضا مع الفقيد الكبير وذلك في فبراير من عام 1983 حيث أعتقلت السلطات الليبية مجموعة من الأرتريين يفوق عددها الثلاثين فرداً وقامت بتسليمهم الي المعارضة السودانية فنالوا علي يدها قسطاً وافرا من التعذيب، ولأيام طويلة لم يعرف أحدا مكان المحتجزين، الذين كانوا مشكلين من مختلف الاتجاهات السياسية، من جبهة التحريرالارترية وقوات التحرير الشعبية ومن الجبهة الشعبية ومن اللجنة الثورية أيضاً وكان من بيننا أيضاً الزميل المرحوم الأستاذ/ أحمد عبدل وهو بالمناسبة كان ممثل اللجنة الثورية بليبيا،
وحين أتي السيد/ البرج الي طرابلس عقد اجتماعاً سريعا سائلا عن نوع التحرك والجهد المبذول لاطلاقنا لكنه علم بعدم معرفة مكاننا أصلاً، فتحرك بسرعة لدي وزارة الداخلية والدوائر الأمنية فنفوا له معرفتهم بوجود معتقلين ارتريين! وطلبوا منه أن يذكر لهم الجهة التي أوضعتهم السجن! فقام بزيارة منزلي وعلم من زوجتي التي كانت معي أثناء الاعتقال بأن الشرطة العسكرية هي التي أعتقلتنا وأعطته عنوان المكان والزمان والتأريخ، فسلم المرحوم المعلومات الي وزارة الداخلية وبعد ايام قليلة زارنا شخصيا برفقة بعض أبناء المعتقلين ـ في السجن بصحراء منطقة الزاوية وبفضل الله أولاً ومن ثم بجهده تم اطلاق سراحنا،
وبعد إطلاق سراحنا غادرت شخصياً ليبيا متجها الي ايطاليا في رحلة علاجية حيث خضعت الي أكثر من عملية معقدة في الرأس نتيجة التعذيب، وعندما كنت بالمستشفي بمدينة ”روما“ فوجئت يوماً بزيارة المرحوم مطمئناً علي صحتي ثم استفسر ادارة المستشفي عن سير عملية علاجي فعلم اني بحاجة الي مزيد من المراجعة والمتابعة فقال لي بحكم أني كنت مسجون بالتأكيد سأحتاج الي مال وسلمني فوراً مبلغاً معتبراً طلب مني بعد العودة الي طرابلس إعادته الي مكتب قوات التحرير الشعبية متي ماسمحت الظروف بذلك، وأتذكر عند زيارته لي بالمستشفي سألته إن كان يعلم سبب اعتقالنا في ليبيا ومن الذي تسبب في ذلك؟ لكنه قال لي مشاكلنا نابعة من داخلنا ومن اخواننا، وعلمت أنه تعمد حجب هوية المتسبب في اعتقالنا وذلك حتي لايثير الفتن والانتقام بيننا فما أعظم موقفه هذا.
بعد رحيل الشهيد/ عثمان صالح سبي تولي المرحوم/ عمر البرج رئاسة ”التنظيم الموحد“ وكنت في ذلك الفترة مقيماً في ”جدة“ بالمملكة العربية السعودية وأتذكر أن عدداً كبيراً من الاخوان لم يكن عندهم اي فكرة عن الراحل/ عمر محمد البرج فأتصل بي عدداً منهم وسألوني عن شخصيته، كنت أختصر الاجابة بقولي لهم لو عندنا شخصين او ثلاثة من امثاله لما تعددت تنظيماتنا ولما تفرقت بنا السبل، لأني كنت ألاحظ فيه الرؤية الشاملة للوطن وأبنائه لم يميز الارتريين اطلاقاً علي أسس قبلية أو اقليمية أو طائفية بل كان يقيس وينظر الأمور بنظرة أرترية بحتة.
في الواقع لديّ ذكريات كثيرة مع الراحل عمر البرج وأحفظ له العديد من الأفعال الجميلة سأذكرها له مدي الحياة، وكنت أتصلت به قبل خمسة أشهرتقريبا من وفاته لأطمئن علي صحته أخبرني في ذلك الاتصال بأن صحته ليست علي مايرام، رحمه الله كان شخصية آسرة معروف عنه التواضع الجم، أما حسه الوطني العالي فلا يمكن لأحد ان ينكره، يكفي أنه ضحي بحياته وماله من اجل ارتريا، وتفرغ بعد الوفاة الباكرة لزوجته للقضية تماماً، وحتي المختلفين معه سياسياً كانوا معجبين بصفاته الانسانية وبحبه للأنسان الارتري، كان يتطلع الي خدمة وطنه وأبناءه بغض النظر عن انتماءاتهم ـ لقد ترجل الآن لكن اعماله ستبقي في ذاكرة التأريخ ـ وقد سألته يوما: لم تفعل كل ذلك ومن سيذكره لك؟
فقال لي ـ يرحمه الله ـ التأريخ، وأنا أهيب اليوم بكل من يعرفه أو سمع عنه أن يذكر مناقبه وأفضاله ومواقفه، وأن ندعو له بالجنة ونعيمها وان تكون جميع اعماله في ميزان حسناته وان يلهمنا الصبر والسلوان في رحيله ـ أعزي فيه أقاربه وأصدقائه وأرتريا كلها وإنا لله وإنا اليه راجعون.