ذكريات وتجارب - الحلقة الثامنة عشرة
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
بعد محاولة بحث فاشلة عن جنود متسللين في قندع، عدت الى حرقيقو حيث توافرت معلومات تشير الى ظهور عناصر مسلحة في
المناطق القريبة وخصوصا بعد ان ذكر احد القرويين الذين حققت معه احداها انه رأى بينها من يشبه عثمان عبد الله حرك ما رجح كفة صحة الاخبار. فتحرك الأخ حسن سيد موسى الى تلك الجهات وبالفعل التقى حوالي منطقة ماي شرع بأربعة من القادة كانوا في طريقهم الى حرقيقو.
عرج الأخ حسن بالمجموعة الى منزل العم عبد الله حبيب في منطقة ايروري حيث قضوا يومهم ومع حلول الظلام تحركوا الى منزل رئيس اللجنة صالح عبد القادر بشير الكائن في اطراف البلدة ثم عادوا ادراجهم قبيل الفجر على ان يعودوا ثانية في المساء. يمتد الطريق لنحو عشرة كيلومترات وهو ساحلي مكشوف يمكن مراقبته وكشفه برا وبحرا وينطوي سلوكه باستمرار على مخاطر كبيرة. لهذا تقرر اقامة القيادة في البلدة لحين الانتهاء من اجتماعاتها وتم اختيار منزلي مقرا لها، ويعتبر المنزل الأقرب الى التلال والجبال المحيطة من الجهة الغربية ويمكن الانسحاب منه بسهولة، اما في حالة مداهمته او البلدة من الخارج فيكون من أوائل البيوت التي يصلها العدو قبل ان يكتشف قدومه الا متأخرا جدا، وبالتالي كان علي ومن يناوبني من الزملاء القيام باستطلاع المنطقة بين الحين واخر، وكانت القيادة، في بعض الأحيان، تبيت في العراء خارج الدار وتعود اليه قبيل الشروق.
وتم تكليف الأستاذ محمود سبى بتوفير الطعام لقرب المسافة بيننا حيث لا تزيد عن مائة وخمسين مترا تقريبا، و حتى هذه العملية لم تخل من مغامرة اذ ان كمية الطعام التي تطبخها كل اسرة يوميا محددة ومعروفة لدى كافة افراد الاسرة واية زيادة عن المعتاد تثير الفضول، وخصوصا ان منزله يقع ضمن دار كبير يضم اكثر من عشرين منزلا يعج بالرجال والنساء والأطفال يتواصلون ويتبادلون المنافع بعفوية مطلقة. واسندت مهمة نقل الطعام الى راع امين عمل لديه فترة طويلة، تم توجيهه ان يخرج بالطعام في الساعة الواحدة تماما حين تخف الحركة من الباب الخلفي (طاقة) والدخول الى منزلي أيضا من (الطاقة) التي لا تحتاج منه سوى دفعة خفيفة بعد ان يكون احد القيادات قد قام برفع المزلاج.
هكذا سارت الأمور على ما يرام، يدخل الراعي ويترك الطعام خلف الطاقة ثم يسحبها وينسحب بهدوء فيقوم احد الموجودين بإدخال الطعام وقفل الطاقة الى ان تدخل طرف ثالث. ثارت في احد الأيام وفي نفس التوقيت هبة هواء فتحت الطاقة التي كانت أصلا شبه مفتوحة تصادف مع مرور احد الجيران وهو العم اب حامد فارتاب في الامر ودخل الدار وتجول حوله البيوت للاطمئنان، والقيادة تراقبه من خلال ثقب، واثناء خروجه قابله الراعي حاملا صينية، ارتبك الاثنان فتراجع الراعي متظاهرا انه كان يقصد منزل احد الجيران وسلك طريقا اخرا ثم عاد بما حمل واوصد الجار الطاقة جيدا.
تنفسنا الصعداء بعودة الوالدة من قندع وحدها، فأخبرتها ان لدي ضيوف لا يريدون ان يعرف بوجودهم احد ويحتاجون الى طعام لحين مغادرتهم خلال بضعة ايام وطلبت منها الا تشعر بوجودها احدا، وبهذا تراءى لنا ان امامنا متسعا من الوقت لإيجاد مكان او وسيلة افضل، ولكن حصل ما لم يكن متوقعا، وقفت احدى الجارات على رأس الوالدة في المطبخ وهي تكاد تحمل صينية جاهزة للتقديم بينما لم يكن في الدار غيرها، ذكرت الجارة انها التقطت رائحة طبيخ تنبعث من الدار فعرفت بعودتها ففتحت الطاقة بطريقة اعتادت عليها! اما الوالدة التي اصيبت بفزع شديد أخبرتها انها تتوقع وصول اخوالي من زولا. كانت هذه الجارة فعلا تعاني من حاسة او حساسية شم مفرطة تلتقط الروائح من مسافة بعيدة. ولقد خشينا كثيرا ان تجعل مما رأت مادة للثرثرة وخصوصا انها لم تشر الى رائحة السجائر التي لابد تكون قد التقطتها، الا انها لم تفعل، فنعم الجار هي.
لم يقتصر موضوع السجائر عليها، فقد سمعت مرارا بعض المارة يتساءلون عن مصدر رائحة روثمان (Rothman) ’... مع ان المدخن الوحيد في الحي لا يدخن الا (نمرة اونو - رقم واحد)‘ ذكرت هذا للقيادة التي وعدت بالتخفيف ولكنها لم تفعل، فمثل هذه الملاحظات حتى لو كانت عفوية قد تكون معلومة مهمة اذا وقعت في اذن مخبر فانه يعرف ان امرا قد استجد في هذا الجوار، حتى في الميدان كان العدو يهتدي الى مواقع الجبهة من خلال رائحة السجائر.
تكونت القيادة العسكرية التي اجتمعت مع اللجنة في منزلي من المناضلين محمد على عمرو – قائد المنطقة الرابعة، رمضان محمد نور - المفوض السياسي، محمد حجي حمد شيخ عمر - رئيس جهاز الاستخبارات، عثمان عبد الله حرك - قائد الفدائيين. اما أعضاء اللجنة فكانوا صالح عبد القادر بشير، الأستاذ محمود صالح سبي، الأستاذ إبراهيم جابر حسب الله، الشيخ سليمان شيخ حامد وعبدالله محمد سعيد صايغ.
اطلعت القيادة اللجنة على كافة التطورات والاحداث السياسية والعسكرية التي واجهتها منذ البداية، ثم تقييمها للوضع القائم.، فذكرت، على سبيل المثال، ان عدد الشهداء مبدئيا حوالي الخمسة والعشرين من بينهم قيادات وكوادر اساسية، اما عدد ومصير الاسرى والمفقودين غير محدد. وان مجموع من عبروا لا يتجاوز الخمسين، نسبة الاصابة بينهم عالية جدا وبعضها خطيرة، ومنهم مرضى لا يقوون على الحركة وجميعهم بحاجة ماسة الى ادوية وغذاء، وان القوة بصفة عامة تحتاج الى تموين، ملابس، احذية وبعض الاجهزة والادوات الاساسية من ضمنها المناظر العسكرية وزمزميات ماء، والاسوأ ان القوة لا تملك ذخيرة تدافع بها عن نفسها لأكثر من ساعة، وانها - القيادة - لا تملك الا مبلغا يسيرا وبالعملة السودانية بعد ان صرفت جزء من ميزانيتها اثناء فترة تواجدها في المنطقة الغربية وفقدان جزء اخر اثناء المعارك.
على ضوء هذه الحقائق المؤلمة والمحبطة تماما دار النقاش وتلخص راي اللجنة في ضرورة عودة القوة بسرعة الى المنطقة الغربية لإعادة تنظيم وتسليح نفسها قبل ان يطبق عليها العدو من كل جانب، وأن تأمين الاحتياجات، ان تحقق في ظل الضغوطات الأمنية المتزايدة، فلن يكون الا بعد وقت طويل، وخصوصا انها – اللجنة – ايضا لا تملك المال الكافي وان العملة السودانية لا تصرف الا في اسمرا او اغردات الامر الذي قد يستغرق وقتا طويلا. رفضت القيادة فكرة العودة الى المنطقة الغربية وحتى مناقشتها من حيث المبد، وأخيرا اتفق الطرفان على رفع خلاصة ما دار بينهما من نقاش وما توصلا اليه الى الزعيم عثمان صالح سبي.
وتم تكليف بعض الأشخاص بقيادة الفدائي صالح جابر توكل بالبحث وتقصي اخبار الجنود المفقودين وايواء من وجد منهم في منزل تم اعداده في دار العم إبراهيم بشير في حطملو واخر في عداقة على ان يتولى علاجهم الدكتور إسماعيل احمد (ممرض) والزميل حمدو محمد قعص رعايتهم . بالفعل صادف صالح عددا من الجنود في عداقة وفي اماتري الا انهم تهربوا منه خشية ان يكون قد استسلم للعدو، والتحق بعضهم بالقوة فيما بعد وبطريقته الخاصة، ولعل اخر من وصل من المقاتلين كان المناضلان احمد محمود فاقر وحسن صالح عتر. تسللا الى البلدة مع حلول الظلام وصادف ان وجدا في قهوة طرم احد الزملاء وعرفا منه ان هناك من وصل قبلهما من القيادة والجنود، ومع انهما كانا في حالة سيئة من الاعياء، رفضا تناول او شرب أي شيء قبل ان يشاهدا زملاءهما عيانا اعتقادا انهما الوحيدان من افتتح المنطقة وفيا بالعهد.
وقبل التطرق الى اسباب ومدى وجاهة مبررات القيادة العسكرية في رفضها العودة الى المنطقة الغربية بالرغم من الوضع الدقيق المحيط بها، لابد من اعطاء فكرة مبسطة عما سبق من تداعيات منذ نشوء خطة تقسيم الجيش الى مناطق ادارية وتطبيقها عمليا. تم تقسيم جيش التحرير بموجب هذه الخطة على اربعة مناطق ادارية الاولى بركة، الثانية سنحيت والساحل، الثالثة سرايي والرابعة منطقة البحر الاحمر وعين على كل منطقة احد ابنائها.قائدا لها.
لربما لم يكن العيب في النظرية بقدر ما كان في التنفيذ. فمن الأخطاء التي وقعت فيها القيادة المشرفة، حسب اعتقادي، انها لم تأخذ في الاعتبار الأهمية الاستراتيجية لكل منطقة من منظور العدو، وتفاوت الوعي الوطني بينها، فساوت بين مناطق نشطت فيها الجبهة حتى خلقت فيها حاضنة شعبية ومناطق جديدة لم تطأها على الاطلاق، وقبل ان تعالج بعض النزعات والمنافسات المتزايدة فوقع ما كان يخشى، على سبيل المثال:
أولا: عندما تم فرز القوات عن بعضها استعدادا للانطلاق الى مواقعها الجديدة، رفض معظم أبناء المنطقة الغربية بشكل جماعي وبتحريض من قيادات محددة التوجه الى منطقة البحر الأحمر وقاموا بتسليم اسلحتهم، وبدلا من معاقبتهم نظاما تم استيعابهم في منطقتهم ما احدث صدمة لم تكن في الحسبان وخصوصا من قاتلوا في المنطقة الغربية لسنوات بدون اية اعتبارات إقليمية.
ثانيا: عندما تنامت الى علم قيادة منطقة البحر الأحمر معلومات تفيد قيام العدو ببناء دفاعات متدرجة في طريقها ابتداء من منطقة قرح في منطقة منسع الى قحتيلاي في منطقة البحر الأحمر بحيث لا يمر ولو جندي واحد، طلبت من قيادة المنطقة الأولى امهالها في الموقع لحين وصول مجندين من مصوع. لم تطالبها قيادة المنطقة الاولى بإخلاء مواقعها فورا باعتبارها جزء من سيادتها الإقليمية فحسب، بل واوعزت الى البعض جنودها لاستفزاز جنود المنطقة الرابعة قولا ثم فعلا وبشكل منتظم وعلى مرأى ومسمع منها حتى اوشك الامر ان يصل الى احتكاك عسكري.
ثالثا: توصلت قيادة المنطقة الرابعة الى قناعة كاملة كاشفت بها كافة المقاتلين تتعلق بوجود مخطط لتصفية القوة سواء من خلال استدراجها الى حرب اهلية او دفعها الى الدخول في مواجهة غير متكافئة مع العدو وكاشفت، وكان خيارهم مواجهة العدو أيا كانت النتيجة عوضا عن مقاتلة مناضلين ليس لهم فيما يحصل ناقة ولا جمل وتقاسموا على ان يقوم من كتب الله له منهم النجاة بالعبور الى المنطقة واعلان افتتاحها وهكذا اختلط الحماس الوطني بالعواطف الاقليمية والتحديات الشخصية. وكان هذا سبب تحرك القوات فجأة قبل وصولنا وسبب عودتنا من اغردات كما تمت الاشارة اليه في الحلقة السابقة.
كانت قيادة المنطقة الاولى ومن يساندها او تسانده من سياسيين انه لن ينجو من هذه المعركة احد ولاسيما القيادات التي ستحاول اثبات ذاتها امام قوة متفوقة عليها عدة وعددا ومزودة بمدافع المورتر لأول مرة، على الاقل، بسبب نقص الذخيرة، حيث كان كل ما تخشاه ان تتحول منطقة البحر الاحمر الى مركز ثقل عسكري وسياسي يعزز موقع الزعيم عثمان صالح سبي على حساب خصومه، ومتى ما صفيت هذه القوة بيدها او بيد العدو فلن يكون امامه سوى خدمة مصالحها او التنحي عن المسرح الوطني.
كان من المفترض، بعد مرور اكثر من خمسين عاما، تجاوز هذه الاحداث ما تنطوي عليه من احقاد وضغائن، الا ان ادمان البعض اجترارها بل تلقينها لمن لم يدركها جعلها تتجذر وتتعمق اكثر. شاركت في شهر مارس من عام 2010 في تأبين اقامته الجالية الارترية في ملبورن للزعيم محمد سعيد ناود وكنت احد المدعوين للحديث عنه بحكم العلاقة النضالية والشخصية التي كانت بيننا حضر جمع غفير وهذا اقل الواجبات تجاه شخص افني حياته في العمل الوطني. للأسف سمعت العشرات ممن كانوا حولي يؤكدون ان ناود كان شخصية وطنية و ’ان خطأه انه وقف مع ابناء البحر الاحمر جواسيس اسياس‘ كان يقولون هذا بأريحية بدون حرج وبشكل مستفز جدا.
اكتفيت في حديثي بالترحم على روح الشهيد ناود، ثم تطرقت مباشرة الى التعليقات التي سمعتها ممن كانوا حولي واوضحت دور ومواقف ابناء البحر الاحمر الوطنية عبر التاريخ. ثم تحدثت الشرخ الذي ابناء المنطقة الغربية في الجسم الاسلامي والوطني وفي اول تجربة عندما القوا سلاحهم ورفضوا النضال في منطقة البحر الاحمر، ثم الاعتقالات والاغتيالات التي قاموا بها والحرب الاهلية التي اعلنوها ضد ابناء البحر الاحمر وفي وقت جبنوا ان يتخذوا نفس الموقف من اسياس ومجموعته. وقلت ما معناه ’انكم حاولتم اخراجنا من الساحة ولكنكم خرجتم منها، ودفعتمونا الى التحالف مع اسياس واندفعتم الى احضان العدو سابقا ولاحقا .. فمن منا يا ترى اساء الى الاخر‘.
كان حديثي بنفس اقليمي فج وحاد جدا ولكن ليس اكثر مما يقوله معظمهم ظاهرا وباطنا لعشرات السنوات. بلا شك، من الناحية الادبية مقابلة التعميم بتعميم مثله خطأ وغير مقبول، ولم اكن اقصد الاساءة او الشماتة بأحد بعد ان اصبحت شيمة الجميع النياح على اطلال كان سببا في دمارها، وكل ما كنت اتمناه، وبحق، ان يؤدي ما قلته الى مكاشفة يدلي فيها كل منا بما لديه على الملا وبما يخدم الحقيقة والمصلحة العامة أيا كان المخطئ او المصيب. ثلاثة اشخاص اعتبروا ما قلته صحيحا وصريحا اولهم الدكتور برهان شدي وشخصان اخران. ذكر لي احدهما انه كان حاضر لحظة انزال الجنود اسلحتهم، والاخر سمعته ذات مرة في قهوة وهو يقول لمجموعة من الشباب حوله ’انا قلت للقائد فلان (...) لماذا لا تقتلون قيادات وكوادر ابناء البحر الاحمر بدلا من قتل جنودهم‘ وللاسف، روى لي في اليوم التالي كيفية طرده ومطاردته من قبل الجبهة في اواخر عهدها ووقوف الزعيم عثمان صالح سبي، ما قاله صحيح ولكنه جاء بعد فقد قيمته.
تعمدت التركيز على هذه النقطة بالذات لأنها، في نظري، المدخل الموضوعي لقراءة وفهم دوافع الاحداث التي توالت في الساحة واوصلتنا الى ما نحين فيه، لا من اجل مماحكات سياسية او التراشق بالتهم.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.