ذكريات وتجارب - الحلقة الرابعة والستون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
لا تأتي المصائب فرادى، كما يقول المثل، فكأن خبر تنفيذ العملية نهارا غير كاف لتحطيم معنوياتنا، تطور الخبران السابقان
بشكل يثير الدهشة حيث اصبح الاول: ’تتقدم الجبهة الى ضواحي عدى خالا- وضمنيا الى سجن عدى خالا‘ والثاني: ’طلبت الرئاسة العامة للسجون ملفات السياسيين لإعدامهم‘. فكان من الطبيعي في ظل الحالة النفسية السيئة التي كنا فيها ان يطغى الخبر الثاني على الاول وان يؤدى الى المزيد من التدهور المعنوي ايمانا أن العدو الذى بقر بطون الحوامل ورمى بالرضع في نيران مشتعلة لن يتورع عن تصفية سياسيين كان بعضهم مقاتلين، فتفتق خيال البعض بالتحليل والتفسير.
فقد كان هناك من زعم ان وفد المجلس العسكري الإداري المؤقت (الدرق) الذى زار السجن قبل فترة وجيزة لاستطلاع حال السياسيين والاستماع الى التماسهم والذى لم يسمع ولو كلمة واحدة تجبر خاطره هو الذى رفع التوصية بالإعدام. واضاف اخرون ان الغاية من تغيير مدير السجن الارتري باخر أثيوبي منذ ما يقارب الشهر لم يكن الا تمهيدا لهذه العملية على هذا المنوال توالت الاشاعات واخذت في التطور والتبلور والانتشار بسرعة النار في الهشيم.
من ايجابية خبر الإعدامات الوشيكة انه خفف عنا نسبيا من الضغوط النفسية التي كنا نعاني منها خشية فشل العملية وتكبد الجبهة خسائر بشرية هائلة لان البديل سيكون الاعدام. فسارعنا بالكتابة الى سعيد صالح نذكر فيها المستجدات مع ترجيح صحتها وامكانية وقوع المذبحة في اية لحظة استباقا مع تقدم الجبهة. وفي غضون بضعة ايام علمنا أن العملية ستتم خلال اسبوع وتحديدا يوم الثلاثاء الموافق الثالث عشر من شهر فبراير من عام 1975 وفي الساعة التاسعة والنصف صباحا بالضبط، وانه تم الاتفاق مع الشاويش المناوب على التواجد في الموقع والتوقيت المحدد والتعاون معنا طبقا لطلبنا.
لقد سعدنا كثيرا بهذا التطور الذي وفر لنا فرصة المشاركة في الحدث التاريخي بدلا من ان نذبح كالنعاج، ولكن كان لنا تحفظ على اكتفاء الشاويش بتعاون شكلي في لحظـات مصيرية حيث كان الاتفاق معه للتمثيل انه تعرض لضربة قوية مفاجئة اسقطته ارضا حتى اغمي عليه وانتزعت منه المفاتيح عنوة، وتنطلي هذا الرواية على الحكومة ويستمر في عمله. على كل حال حددنا دور كل منا على النحو التالي:-
• في تمام الساعة الثامنة والنصف يتوجه كل من ارمياس وقرماى الى المدرسة طبقا لبرنامج حصص التدريس اليومي العادي، ثم يتحركان من المدرسة الى باب العنبر في تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة حيث سيفتح لهما الشاويش المناوب الباب فيعاجله قرماي بضربة (جودو) يقع على اثرها ويبادر ارمياس الى انتزاع المفاتيح ويفتح باب عنبرنا (رقم 4) على مصراعيه امام الجميع.
• في تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة يتأكد يعقوب من خلال شباك في العنبر يطل على فناء المدرسة من الجهة الخلفية من خروج قرماي وارمياس من المدرسة حسب الخطة، خشية ان يعرقلهما الحارس المرابط.
• في تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة يقف برهاني بالقرب من باب عنبرنا من الداخل بجانب الحارس ليلتقط وقع اقدام الشاويش وبمجرد ان يفتح ارمياس الباب يعلن على الملا أن الجبهة تهاجم السجن وعلى الجميع التوجه الى مستودع الاسلحة.
• في تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة اقف انا بجانب الجدار الفاصل بين عنبرنا والعيادة أي مقابل برهاني مباشرة بحيث يكون باب العنبر من حيث سيخرج يعقوب على يساري وشباك حمام المستشفى من حيث سيطل سيوم على يميني وبهذا انقل ايماءات يعقوب وبرهاني الى سيوم حتى يتابع مدى تقدم العملية.
• بمجرد ان يفتح الباب نكرر جميعا نفس المعنى بصوت عال ونندفع الى خارج الباب الثاني ونتسلق جدار الباب الثالث وصولا الى الساحة امام الباب الرابع حيث المواجهة مع الحراس الاحتياطيين.
اما اذا فشلت او الغيت المرحلة الاولى من الخطة لأى سبب كان، ينتظر الجميع في امكانهم لحين اقتحام الجبهة السجن وفتحها الباب ومن ثم تبدأ المرحلة الثانية بالتعاون مع الثوار على النحو التالي:-
• بحكم قرب المستشفى من منطقة الاقتحام، يتولى سيوم ارشاد الثوار الى عنبر السياسيين والمكاتب الادارية والعيادة لنقل الاشياء المهمة.
• فور فتح باب العنبر اتوجه انا الى المستودع لتوزيع الاسلحة وفق كشف تم الاتفاق عليه مسبقا خوفا من ان يقع السلاح في يد عناصر يمكن ان تستغله في غير محله.
• يرشد برهاني وقرماى الثوار الى المستودع لنقل محتوياته.
• يرشد ارمياس ويعقوب الثوار الى موقع جهاز اللاسلكي والمولد الكهربائي.
• يتم التنسيق بين الجميع للتأكد من خلو السجن من أي سجين تماما.
نقلنا هذه التفاصيل الى سعيد صالح وطلبنا منه تزويدنا بأسماء من ننسق معهم. كان هذا الاتصال قبل ثلاثة او اربعة ايام من العملية.
صدق من قال ’انتظار البلية اشد من وقوعها‘. بدأنا في العد التنازلي الذي اخذ منا مأخذا كبيرا تمثل في القلق التوتر والشرود الذهني، ولولا ان جميع من في العنبر كان مصابا بنفس الداء للاحظوا مدى التغيّر الذى طرأ على وجوهنا. لم يكن بسبب اللهفة الى الخروج بل وخوفا من الاعدام ايضا !
عندما زارتني الاخت اسيا يوم السبت أي يومين قبل العملية طلبت منها استلام كرتون كتب على اساس انها هدية لأبنائها مع الاحتفاظ بالمدونات ريثما اطلبها، وهذا الاجراء روتيني جدا حيث يسمح النظام للسجين تسليم ما شاء من مقتنياته الى عائلته متى شاء. لم تسألني آسيا عن السبب ولكنني شعرت انها فهمت اكثر مما قلت. يالها من امرأة عظيمة.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.