ذكريات وتجارب - الحلقة الخامسة والخمسون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
في الوقت الذي تمكن فيه بعض الزملاء في المدينة من مقابلة زوجة عريس وتحميلها انذارا له بالإعدام
كما ذكر في الحلقة السابقة، كان قبري سلاسي ومجموعته يستبسلون في السجن للوصول الى عريس لعلهم يعرفون ما يحمل من معلومات واسرار غير مستوعبين مدى العلاقة بين ايقاف عريس من المشغل وفصله من المطبخ والصفعة التي وجهها الى تسفا قابر.
في العادة وفي تمام الساعة العاشرة من صباح يوم السبت كان يتزاحم المساجين بالقرب من الاسلاك الشائكة في الجهة الخلفية من العنبر لمشاهدة المتجهين من كل العنابر الى الصالة التي تلتقي فيها العوائل بذويها من المساجين، على الاقل، من باب التسلية، اما نحن علاوة على هذا فقد كنا نترقب رؤية عريس بينهم. وكم كانت سعادتنا كبيرة عندما رأيناه مارا بصرف النظر عما ستسفر عنه المقابلة، ولقد رأى قبري سلاسي الذي تصادف وقوفه خلفنا ما رأينا ولربما لاحظ تعابير وجوهنا ايضا، ولربما في هذه اللحظة فقط ربط بين الاحداث التي تعرض لها عريس واختفاء بعض الصفحات من دفاتر بعض الطلبة وادرك ان امرا كان يحصل في عنبره وتحت بصره وهذا ما اخرجه عن طوره وتلفظ بعبارات تنم عن حنق بعد ان ظل طوال الوقت كعادته هادئا وديعا، ولكن سرعان ما ابتلي بمن يشغله بنفسه.
ففيما يتعلق بالصفحات المفقودة، فكلما دعت الضرورة لكتابة رسالة كان الشبل صالح الذي ورد اسمه في الحلقة السابقة يقوم بنزع صفحات من دفاتر مختلفة، ولم يكتشف امره الا عندما احصت الادارة صفحات دفتر احد الطلبة لتصرف له بدل المنتهي ووجدته ناقصا بل وعدد من الدفاتر، وفي الاخير سجلت الجريمة ضد مجهول لان الدفاتر كانت عهدة المدرس.
كان هذا قبيل قيام الجنرال كبدي محمد، رئيس السجون الاثيوبية، بأول زيارة للسجون الارترية على هذا المستوى، كان طوال جولته التفقدية مكفهر الوجه متجهما فلم يسأل ولم يسأله احد، وحسب ما تردد عن انطباعاته انه قال ما معناه ’ان هؤلاء لا يعيشون في سجن انما في فندق‘. وهذه حقيقة لا تقبل الجدل اذا ما قارنا بين هذا السجن والسجن المركزي في اديس ابابا الذي عشت فيه فترة من الزمن.
قبل مغادرته السجن استدعى اليه الجنرال سجينا اثيوبيا قابله في احد العنابر عمل معه في الجيش وقيل تربطهما صلة قرابة، وبعد حديث مطول معه على انفراد في المكتب، اصدر تعليمات بإحضاره الجندي في اليوم التالي الى قيادة الجيش، ومن ثم تكررت زياراته على غرار زيارات قبري سلاسي الى المباحث وانتهت بنفس النتيجة حيث تكليف الجندي بتشكيل خلايا استخباراتية مرتبطة بالجيش لجمع وتوثيق معلومات على ان يتم دعمه بعناصر تساعده. وسرعان ما بدأ التحرك بتعاون غير معلن من الادارة التي نقلت اليه بعض العناصر من عنابر اخرى، وتكونت حوله مجموعة في معظمها جنود كانوا في الجيش وبعض الارتريين ممن عملوا في فرقة الكوماندوس وجميعهم سجنوا في جرائم جنائية.
ومن المعلومات التي قدمها الجندي الى الجنرال، على حد زعمه، تمحورت حول اتهام اجهزة المباحث بالعجز في استنطاق السياسيين واطلاق سراحهم بحجة عدم وجود ادلة كافية تدينهم ومن ثم يذهبون الى الميدان مرة اخرى لمقاتلة الجيش او يستمرون في ممارسة السياسية في المدن ما يؤكد ان المباحث لا تقيم مدى الخطورة الامنية التي يمثلها الذين ينهون احكامهم بعد خروجهم، وان الاحكام التي تصدر بحق البعض منهم اقل بكثير مما يستحقون فعلا.
قد يكون الجندي قد قال هذا فعلا، ولكن من المؤكد ان هذه المعلومات لم تكن جديدة على مسامع الجنرال او علمه بها حيث الجيش يعزو هزائمه العسكرية الى ضعف اداء المباحث بينما هي تعتقد ان القتل العشوائي الذي يرتكبه الجيش هو السبب. وفي كلا الحالتين، لقد كانت ادارة السجن المتضرر الاول من هذه المناكفة بين الطرفين حيث جدت نفسها بين المطرقة والسندان. اما نحن فكل ما كان يقلقنا وبشدة الا يؤدي ظهور الجندي الى انتكاسة في موقف عريس ويرى فيه ضالته المنشودة، الا انه لم يفعل، على الاقل، خلال الفترة التي عشتها في هذا السجن، ولا اعرف اذا كانت الرواية التي ذكرها الاخ محمد اسماعيل في مداخلته في الحلقة السابقة حصلت بعد هذا التاريخ أي اواخر عام 1968 ام قبله.
اما المتضرر الثاني من ظهور الجندي فكان قبري سلاسي الذي لم يتأخر كثيرا في نقل المستجدات الى المباحث التي اعتبرت تصرف الجيش تجاوزا لصلاحياته ومساسا بجوهر عملها ولهذا وعدت قبري سلاسي باتخاذ خطوات سريعة لتصحيح الوضع، وبالفعل لم يمض اسبوع واحد على زيارته حتى تم ترحيل الجندي وعدد من اتباعه الى سجن عدى خوالا مقيدي الايدي والارجل بأمر من المباحث مع ان الفترة المتبقية من حكم معظمهم لا تستدعي النقل حسب المعايير المعمول به. وهكذا عزز قبري سلاسي اكثر من ذي قبل فخرجت عناصره من جحورها لتستعيد دورها في اجواء خالية من أية منافسة.
بعد ان اصبحت الكرة في مرماه، اتجهت الانظار نحو الجيش ومعرفة ردة فعله ازاء ما حل بعميله والاهانة التي لحقت بسمعته. لم يزأر الجيش ويثأر لكرامته الا بعد مرور نحو شهر حيث اصدر تعليمات صارمة الى رئاسة السجون تقضي بإحضار الجندي المغدور به وجماعته فورا وفي نفس الوقت تقييد قبري سلاسي واتباعه وترحيلهم الى سجن عدي خوالا في نفس السيارة التي تحضر الجندي.
لم تقم ادارة السجن بتنفيذ الاوامر بحذافيرها فحسب بدل اضافت اليها اسماءنا وتم ترحيلنا الى سجن عدي خوالا في نفس السيارة التي اقلت قبري سلاسي ومجموعته في رفقة اجبارية الى ان افترقنا في سجن عدي خوالا حيث وزعت المجموعة في عدة عنابر بينما اودعنا في عنبر السياسيين. لم التق بقبري سلاسي بعد هذا، ولكنني سمعت انه عاد الى سجن اسمرا بعد عدة اشهر وعاش فيه حتى يوم تحرير المساجين عام 1975 وقيل ان الجبهة الشعبية حكمت عليه بالإعدام، والله اعلم.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.