ذكريات وتجارب - الحلقة الرابعة والخمسون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
رب ضارة نافعة. لم يدرك الشاويش ولد ماريام عندما عاقبني بالعمل في مشغل السجاد اننا كثيرا ما كنا نتمنى ان تتاح لنا فرصة
دخول هذا الوكر المحظور على السياسيين. فقد نقل المشغل ومعظم المساجين العاملين فيه والبالغ عددهم نحو الخمسين الى هذا السجن من سجن عدي خوالا بغية الاستفادة من سعة مساحته وعدد نزلائه المتزايد وقربه من السوق في اسمرا. وكان في هذا الوقت في سباق مع الزمن لتسليم طلبية فندق نيالا الذي كان على وشك الافتتاح لاستقبال الضيوف القادمين للمشاركة في اول اكسبو - مهرجان - يقام في ارتريا. فكانوا يعملون في صمت وتؤدة لا التفاتة ولا حديث كأنهم مجموعة روبوتات. اخذت مكاني بينهم اقوم بما يقومون به الى ان انتهى الدوام الصباحي على ما يرام.
اما في الدوام المسائي وكما يقول المثل ’من يبحث عن مشاكل تأتي اليه‘ جلس بجانبي شخص اعرفه يدعى احمد سجن بسبب نزاع على ارض. همس في اذني انه تعمد الجلوس بالقرب مني ليخبرني انه تنصت في الدوام الصباحي الى حديث جرى بين شخص اشار اليه وشخص يدعى تسفا قابر، اخبر فيه الاول تسفا قابر انه كان يعمل مخبرا لدى الجيش وان الكولونيل الذي كان مرتبطا به كلفه بمهمة مسح منطقة صنعفى، عدى قيح وسقنيتى استخباراتيا لجمع معلومات دقيقة عن العناصر التي تتعامل وتتعاون مع الجبهة وطرق تواصلها ووسائل اتصالاتها في مدة اقصاها ثلاثة اشهر على ان يسلمه التقرير له شخصيا وبالمقابل اعطاه مبلغا من المال مكنه من الزواج للمرة الثانية من فتاة كان يحبها.
وذكر ايضا انه عندما جاء الى اسمرا لمقابلة الكولونيل، تلقفته مجموعة من ابناء هذه المناطق تعمل في المباحث ولفقت ضده تهمة سياسية وقدمته الى محكمة عسكرية مستعجلة حكمت عليه في نفس اليوم بسنة لا تقبل الاستئناف، واضاف انه قام منذ دخوله السجن بعدة محاولات لإقناع ادارة السجن لنقل رسالة منه الى الكولونيل او ابلاغ اهله بمكان وجوده وانها رفضت، وخلاصة القول انه طلب من تسفا قابر مساعدته لحل معضلته لما له من سمعة في هذا الخصوص، وان تسفا قابر وافق على عرض موضوعه على قبري سلاسي ووعده بان يأتيه بالرد في اليوم التالي.
تسفا قابر، كما ذكر في بعض الحلقات السابقة، من قومية تقراي سجن بجريمة قطع الطرق وكان في هذا الوقت رئيس العمال في المشغل ومن ناحية اخرى يعتبر الصاعد الايمن للمخبر قبري سلاسي. فعلا كنا قد سمعنا عن قصة هذا الشخص الذين سميناه فيما بعد ’عريس‘ ولكن على اساس انه سياسي تقدم بطلب العفو بناء على الاشاعة التي انتشرت وان الادارة رفضت طلبه.
لم يكن امامي وقت للتشاور بسبب خطورة الموضوع وضيق الوقت، فأول فكرة طرأت على خاطري كانت كيفية منع اللقاء بين تسفا قابر وعريس في اليوم التالي كإجراء اولي ما لا يمكن تحقيقه الا بمساعدة احمادو، الشاويش المسئول عن المشغل، على امل ان يهمه الامر باعتباره من ابناء تلك المناطق. وكانت المشكلة في هذه عدم وجود اية معرفة بيننا ناهيك ثقة وفي الاخير انه عسكري. والاسوأ من هذا وحسب ما لاحظته خلال الفترة الصباحية، ان احمادو نزق حاد الطبع تسبق يده لسانه لا يميز في ما يقول ويفعل، ضخم الجسم يتحرك ويصرخ هناك وهناك كالثور الهائج بصوت اجش اقرب الى مكبر صوت، ويعتبر من اكثر الحراس جرأة على السياسيين، فالمرة الاولى والاخيرة التي رأيته فيها، على سبيل المثال، كانت عندما جاء الى عنبرنا ضمن فريق تفتيش وكان الوحيد الذي قام بضرب بعض المناضلين بدون سبب منهم الزميل محمد ابراهيم طمبار.
وبالرغم من هذا، لم يكن لي بد من خوض المغامرة أيا كانت النتيجة، وكل ما كنت اريده ان اصل اليه واقول له جملة قصيرة بلغة الساهو اطلب فيها الحديث معه على انفراد لان مجرد رفع الرأس او الوقوف للحظة دعك التحرك من المكان كانت بالنسبة له جريمة لا يمكن التنبؤ بما تكون عليه ردة فعله. ومع هذا توكلت على الله وانتظرت ريثما يلتفت الى جهة معاكسة لعلي اكسب بعض الخطوات.
وبالكاد اصبحت على بعد خطوة منه حتى رأيته ينهال بيده الغليظة على هامة شخص يدعى صالح وقع على اثرها فاقدا وعيه حيث كان عبارة عن هيكل عظمي بسبب قرحة في المعدة، كان صالح من المجموعة الوطنية التي سلبت اسلحة مركز شرطة حرقيقو في اوائل الستينات بقيادة احمد علي. من هول الصدمة طارت الجملة التي كنت قد اعددتها بصعوبة، وبينما افكر في التقهقر بشرف، فاذا به يسألني بنبرته الحادة ’وانت ما بك‘ فقلت له عفويا ’العيادة!‘ مع ان الذهاب الى العيادة في المساء ممنوع. ارتفعت الرؤوس وشخصت الانظار نحونا لتشاهد كيف سيكون نوع العقاب، لطما باليد ام سلخا باللسان.
لم اصدق اذناي عندما سمعته يقول ’مرحبا ممهر‘ - مرحبا استاذ، وحتى تناوله قبعته وتوجهه نحو الباب كنت احسبه يسخر، فتبعته. وبينما اسير خلفه كما تقتضي الحالة كنت اتعجب من تقلبات مزاجه واخيرا تشجعت فحاذيته وعندما لم يمانع سألته لماذا ضرب صالح بهذه القسوة وهو يعرف انه مريض. التفت الي وفي وجهه نظرة تنم عن براءة وقال ’ضربته حتى لا يقال عني انني احابي جماعتي‘، عذر اقبح من ذنب. لم يكن هذا السلوك غريبا علي حيث اعرف كثيرين بعضهم آذى سياسيين بدون مبرر ليرضي الحكومة وبعضهم حتى لا تتهمهم الحكومة بالتعاطف مع السياسيين.
على كل، استغليت كلمة ’جماعتي‘ واخبرته انني لا احتاج العيادة انما التحدث اليه في موضوع يهمه وشرحت له تفاصيل القصة والخطورة التي يمثلها عريس على حياة الكثيرين من الابرياء. انصت الى كلامي باهتمام وكأنني مدرسه حتى بدا عليه التأثر والارتباك، عندئذ اخبرته ان كل ما اطلبه منه ابعاد عريس من المشغل فورا على ان اتولى انا الامور الاخرى. لم يتردد في الموافقة مع ابداء نوعا من التعاطف الاحترام.
بطبيعة الحال، كنا ندرك تماما ان بعد عريس عن المشغل لا يعني استحالة وصول مجموعة قبري سلاسي اليه بشكل واخر او حدوث تطورات اخرى تؤدي الى نفس النتيجة، وان مواجهته بما قام به مباشرة لحسم الامر قد تأتي بنتيجة عكسية، ولهذا كان الخيار الوحيد امامنا ايصال الرسالة اليه عن طريقة زوجته العروس.
برزت هذه القضية، لحسن الحظ، بعيد خروج الزميلين صالح اسماعيل جاسر والشهيد طقاي يوسيف من السجن بعد انهاء مدة حكمهما من ناحية وانتقال قرزقهير تولدي من سجن عدي خوالا الى العنبر الذي كنت فيه. فارسل وكانت بين الثلاثة علاقة تنظيمية وشخصية فارسل لهم اشارة بالمستجدات في السجن بعد خروجهما. وفي غضون نحو اسبوع تمكن احمد - الشخص الذي ابلغني المعلومة - من استيعاب عريس في مجموعته وعرف منه معلومات تتعلق بمسقط رأسه وعنوان اسرته.
فور تلقيهما اشارة قرزقهير، كلف الزميلان صالح اسماعيل وطقاي يوسيف احد الحراس يكنى ب ’الكابلي‘ بالاتصال بقرزقهير وفعلا قام باستلام رسالة تفصيلية بالموضوع، واعتقد ان الكابلي الذي رأيته في السجن في هذه المناسبة هو نفس الكابلي الذي تحدث عنه المناضل عبد الله حسن في سياق ذكرياته عن كيفية الهروب من السجن ونشر صورة تضمهما واسمه الحقيقي حمد ادريس. ومنذ هذه الرسالة دخلنا في سباق ماراثوني مع مجموعة قبري سلاسي التي كانت تسعى للوصول الى عريس بينما نحاول نحن الوصول الى عروسه !
باءت كل المحاولات التي بذلتها مجموعة قبري سلاسي لإعادة عريس الى المشغل، وفي النهاية اضطرت لإلحاقه بالمطبخ لعله يستطيع اثناء مروره على العنابر مقابلة قبري سلاسي، وحتى هذه المحاولة فشلت بعد سربنا الى رئيس المطبخ عريس على علاقة بقبري سلاسي وينقل اليه معلومات تخصهم، وفعلا تم ضبطه وفصله في نفس اليوم. ونتيجة اقتراب موعد زيارة قبري سلاسي الشهرية الى المباحث، لم يبق امام المجموعة سوى انتقال تسفا قابر الى عنبر عريس لعله يحصل على بعض المعلومات ولكنه بشجة على رأسه. ويعود السبب في هذا ان عريس سمع احمد يحكي لمجموعته قصة مختلقة ذكر فيها انه سمع تسفا قابر يخبر شخصا انه سيأتي الى عنبرهم للحصول على معلومات مهمة قد تخرجه فالتقطتها اذن عريس وفهم من هو الشخص المقصود ومنذئذ كان على اهبة الاستعداد لمواجهة تسفا قابر بما يستحق.
وبعد بضعة اسابيع، علمنا ان بعض الزملاء تمكنوا من مقابلة عروس عريس واطلاعها على كل ما قام ويقوم به في السجن وحملوها انذارا بالإعدام فور خروجه من السجن ما لم يتراجع عن موقفه فورا.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.