ذكريات شاهد عيان على مذبحة أغردات الرهيبة
بقلم الأستاذ: محمد نور فايد من كتاب: ارتريا قبسات من ذاكرة وتراث الوطن
عزيزي القارئ يصادف يوم 9 مارس يوم ذكرى مذبحة أغردات الأليمة، تلك المذبحة التي حدثت
يوم الأحد 9 مارس 1975 وهي احدى عشرات ان لم اقل مئات المذابح التي مورست بحق شعبنا المسالم من قبل قوات الاحتلال الاثيوبي، فأنا بحكم تواجدي آنذاك في مدينة أغردات حيث كنت أزاول مهنة التدريس في مدرسة أغردات الثانوية قد عايشتها وذقت مراراتها وآلامها وبشاعتها. فعندما اكتب عنها اليوم لذكر ما تعرض له سكان تلك المدينة الأبرياء، فلأني أرمي الى اخذ الدروس والعبر التي تكمن فيها، فمن ناحية تكشف عن مدى حماقة وتخلف وهمجية عقلية حكام اثيوبيا، ومن جانب آخر تبرهن تلك المذابح على معدن واصالة وبسالة شعبنا الارتري الصبور الذي تحمل المحن والشدائد بروح المثابرة والصمود الأسطوري والارادة الفولاذية التي لا تلين في سبيل عزته وكرامته للدفاع عن وطنه مهما واجهته الصعاب والمحن من كل الأعداء.
واليك عزيزي القارئ تسلسل الأحداث في تلك المذبحة الهمجية الشنيعة حيث شهدت اواخر عام 1974م سقوط نظام الامبراطور هيلاسلاسي الكهنوتي وظهور نظام الدرق الشيوعي الديكتاتوري، فنتيجة لذلك الوضع السياسي المتأزم بين نظام ملكي متخلف وظهور نظام شيوعي متخبط، كانت تعيش الشعوبية الاثيوبية وحتى الجيش في حالة من البؤس والهبوط المعنوي والحيرة، كانت الحيرة والاحباط تسيطر عليهم، لما آل اليه حال الذي كان يدعي انه ملك ملوك اثيوبيا المختار من الله ومن السلالة اليهودية التي ادعى بها كذبا وبهتانا، وظهور نظام جديد غريب حتى في اسمه (الدرق) ومشكوك في نظام حكمه ومستقبله.
ومن جانب آخر فان تلك الجيوش وخاصة التي كانت في ارتريا تعيش في حالة هيستريا من اليأس والقنوط من مواصلة الحرب ضد ثورتنا المجيدة التي انهكتها بالانتصارات الكبيرة بعد معارك طاحنة واعمال فدائية جبارة كانت السبب الرئيسي لسقوط نظام هيلاسلاسي.
انتهز ثوارنا الأشاوس هذا الضعف وذلك التراخي الذي الم بالعدو فقطعوا الطرق البرية المواصلات والاتصالات وحاصروا المدن الرئيسية وقاموا بهجمات رادعة على تلك الجيوش في ثكناتها ومعسكراتها في داخل العاصمة اسمرا وضواحيها مما نتج عنه خسائر مادية وبشرية وفي العتاد.
تلك الضربات الموجعة والخسائر البشرية أثارت في نفس العدو حالة من الغضب والغليان وتوتر الاعصاب وروحاً شريرة للثأر والانتقام من الشعب المسالم الأعزل.
الانتقام من المسالمين والأبرياء لاغتيال جاسوس مجرم:
في يوم الأحد 1975/3/9م عندما كان الجنرال المعتوه الملقب "ورقو" في زيارة تفقدية لجيوشه في مدينة بارنتو نصب ثوارنا كمينا محكما لقافلة من جيش العدو بالقرب من المدينة حيث ابادوها عن بكرة ابيها، هذه العملية مزقت امعاء الجنرال المعتوه وافقدته وعيه وصوابه وتوازنه، وجاء في عصر نفس اليوم الى اغردات على طائرة مروحية وهو فاقد الوعي ومتوتر الأعصاب فعند لقائه بالمسئولين والضباط، سمع طلقة رنت في اذنه وأُبلغ بان فدائيي جيش التحرير اعدموا احد الجواسيس والعملاء في واد بركة بجوار حلة سودان. أصدر اوامره بحرق الأخضر واليابس فورا وقتل كل ذي روح في المدينة وطار باتجاه مدينة كرن.
لقد وجد البرابرة غايتهم وضالتهم المنشودة لإشباع غريزتهم الشريرة ففي الساعة الرابعة والربع عند العصر بدؤوا باطلاق نيران رشاشاتهم عشوائيا وقاموا بحرق البيوت في حلة "عد سودان" وزحفوا باتجاه السوق وداهموا البارات والمقاهي والحوانيت والمنازل وأطلقوا النار على كل من وجدوه أمامهم دون تمييز حتى الحيوانات لم تسلم من اذاهم اذ نفقت اعداد من الحمير والبغال والكلاب وداهموا حرم الجامع ورشوا مجموعة من المصلين بالرصاص وهم في حلقة ذكر وعلم في داخل المسجد فلم يسلم منهم الا من كانت نوافذ وابواب منزله من حديد وقد اغلقه عليه واوهمهم بان المنزل غير مسكون. استمر الحال هكذا اضافة الى اطلاق المدفعية لنيرانها من قلعة "فورتو" في وسط المدينة حيث كانت تصطاد الفارين من الحرائق والمشتتين في الوديان والسهول خارج المدينة. وأحالوا المدينة التي كانت عامرة بالحياة والحركة الى سكوت الموتى، اذ استمرت المذبحة حتى الساعة السابعة مساء. فحين حل ظلام الليل الحالك عادوا الى ثكناتهم وهم ينشدون كلمات تعبر عن وحشيتهم وبربريتهم باللغة الأمهرية (امبي يالو قدلو) اي "اقتل كل من لا يطيعك".
في الساعة السابعة والنصف مساء سمعنا طرق باب الحوش مرات ثم مرات واذا بصوت انثى تصرخ "انا زينب، افتحوا لي الباب بسرعة" فتحنا الباب على عجل فإذا فتاة من اقاربنا تدعى زينب تحمل على كتفيها طفلا رضيعا وثلاثة اطفال من ورائها وهي في حالة من الزهول والخوف وقد خارت قواها وكذلك الرضيع والأطفال الثلاثة ولحسن الحظ كانت زوجتي ترضع طفلها آنذاك فقامت بإرضاع الطفل الضعيف مع ابنها طوال الليل.
اما زينب والاطفال الثلاثة فقد انهكهم الخوف والهلع والارهاق ورقدوا بعد تناول قليل من الطعام. بعد ساعة من الزمن فاقت زينب وحكت لنا ان شقيقتها، ام الاطفال، كانت خارج البيت مع الجيران اثناء بدء اطلاق النار، ولم تعلم ان كان قد حدث لها مكروه اذ لم تعد الى المنزل، وان والد الاطفال رجل شرطة واسمه ادريس سعيد حامد امد الله في اعمارهم، كان في عمله، واضافت ان كل الشوارع التي مرت بها مملوءة بالجثث المتناثرة هنا وهناك في الشوارع والطرقات واتت الينا عند توقف اطلاق النار وهربت من لهيب النار والحرائق التي اشتعلت في البيوت المجاورة لهم خاصة "عد سودان".
انبلاج الفجر على مشاهد تدمي لها القلوب:
لم ننم الليل كله لهول ما حدث وقد تلبدت سماء المدينة بالدخان الأسود ومازلنا على حالة الترقب والخوف بانتظار انبلاج الفجر. في الساعة السابعة صباحا خرجت من بيتنا الذي كان في وسط المدينة وذهبت الى سوق الخضار والملحمة المجاورين لمنزلنا فإذا أعداد كبيرة من الجثث متناثرة هنا وهناك والدماء الطاهرة اختلطت بالفواكه والخضروات وشاهدت في المقهى المجاور لمحل الخضار جثثا كثيرة تقارب الاربعين متناثرة فوق وتحت الكراسي و (الطربيز)، وفي منطقة ساحة جامع الأرواح شاهدت من ضمن الجثث الأخرى رجلا ضريرا كنت اعرفه وبجانبه طفلاه وقد احتضنهم على صدره بيديه وكلهم قد لفظوا انفاسهم وشاهدت بعض الناس يبحثون عن ذويهم وابنائهم واخوانهم بين الجثث، وشاهدت بغال الكارو والكلاب مختلطة مع جثث البشر.
دفن أكثر من ثلاثين جثة في حفرة واحدة:
مجموعة من الاعيان ذهبوا الى الجنرال "رقاسة" لسمح لهم بدفن الجثث وليمنع جيوشه البربرية من الهجوم على الناس اثناء الدفن، فتظاهر لهم المجرم بالتعاطف وتمثل البكاء الذي كان اشبه ببكاء التماسيح قائلا "الا تروني وقد اسودّ وجهي من هذه العملية" وسمح لهم بدفن الموتى.
معظم سكان المدينة فروا ليلا الى الريف والبعض منهم واصل رحيله الى السودان، القلة التي بقيت بدأت بجمع الجثث في مقبرة (اوتيت الصخرية)، بعض الناس كانوا يجمعون في قطع من القماش بعض من اشلاء الذين احترقوا في بيوتهم. وبمساعدة عمال شركة "داناداي" الزراعية تمكنا من انجاز عدة حفر بالجرار على عمق متر واحد، ودفنا اكثر من ثلاثين جثة في حفرة واحدة فقد بلغ عدد الضحايا اكثر من 280 مواطناً.
خبر طائش يشتت البقية:
عند الساعة الثانية والنصف بعد الظهر وقبل دفن كل الجثث اشيع خبر طائش بأن فصيلاً من الثوار تحرك باتجاه المدينة لمهاجمة الأعداء والانتقام لدماء الأبرياء، فأدى هذا الى نزوح اكثر السكان ولم يبقى سوى عدد قليل من الأفراد والأسر في المدينة. نزح معظم الناس الى الريف وكثير منهم واصل رحلة اللجوء الى السودان، كما التحق معظم الشباب بالثورة، وهكذا فقدت أغردات حاضرة اقليم بركة سكانها الأصليين.
"ولا يحيق المكرُ السيئُ الا باهله"... "يا ابن آدم افعل ما شئت.. فكما تدين تدان!"
بعد تحرير بلادنا في 1991/5/24م بأسبوعين وأنا عائد من المهجر من مدينة كسلا السودانية شاهدت على ضفتي الطريق مناظر فظيعة لآلاف من جثث الجيوش الاثيوبية في اكوام تحت الأشجار وفي الوديان والسهول القاحلة، فحتى الطبيعة حاربتهم ولم ترحمهم حرارة شمس الصيف اللاسعة ولم تسعفهم الوديان والأخاديد الجافة من المياه بشربة ماء، ولم تقبل الارض ان يدفنوا فيها فأصبحت الجثث مرتع الوحوش والطيور وجرفتها الريح والسيول في فصل الخريف. فقلت سبحان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. هكذا سوء الخاتمة ومصير كل ظالم ومعتد آثيم. فإلى جنة الخلد يا ضحايا شعبنا وشهداء ثورتنا الأبرار.