فى الذكرى الخمسين لصبايا قرية إختفى ظلّها من تحت الشّمس عونا قرية محْدرْ صديق طفولتى
بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب ومؤرخ إرتري، المملكة المتّحدة
عرفت (عونا) من يوم معرفتى بصديق طفولتى (محدر)... كان (محدر) صاحب الكل فى المدرسة
وعرفه الجميع فى المدرسة الإبتدائية للبنين بيد وعين واحدة لم أسأله أخلق هكذا؟ أم حدث له ذالك بفعل فاعل؟.. ولكنّى كنت أأسف لحاله وقلّة حيلته.. وبعد تمام اليوم الدراسى يذهب (محدر) ويعلو تبّة (واليكو) مرورا بحدائق وبساتين (هداد) ثمّ بعد دقائق نراه وقد خرج على قمّة التّبة يلتفت ليرانا خلفه قبل الهبوط على (عونا).. و يلوّح لنا بيده الواحدة والمتبقّية.. لنلتقى فى صباح اليوم التّالى فى نفس المدرسة ولكن فى فصل آخر مع (ممهر عقبازقى).. ليبدأ يوما دراسيّا كالمعتاد.. وفى الإستراحة يذهب الكلّ إلى عمّ (يسين) لتناول وجبة الفطور وهى عبارة عن كأس شاى وخبزة يأتى بها عمّ (يسين) من مخبز (سنيوركموسّى) ولكن (محدر) ينزوى وراء الشّجر ومعه رفاقه.. يتناولون الخبز البلدى (قشّـا) بلا كأس شاى ثمّ يجبر (القشّا) لتبحر فى أعماق معدته بشربة ماء من (صمبار) المدرسة فى الجهة المقابلة للـ (فورتو) القلعة وكر القتلة.. المسافة بين مدينة كرن وعونا هى كيلو متر واحد لا غير... ولكن الأطفال والصّبيان هم فى كرن غير الأطفال والصّبية فى (عونا)... فصبيان (عونا) كانو يتميّزون بالصبر وعدم البوح بالسر وقلّة الكلام والتأنّى فيما يريدون قوله.. ولا يحفظون الحكاوى المسلسلة (لحامد جيواى).. ولا نكات المخضرم (عبّى عبدالله) ولا تعليقات (ود بخيتاى) ولا (يسين جون) ولا (يسن أمًّ) ولا (عبده قرّت) كلّ الرموز و الشّخوص يعرفونها من القرب البعيد.
وعدم تأثّر صبية عونا (بتراث أبناء التانتروا) يرجع لقدوم الأغلبية منهم من أرياف الدّوائر الأبعد من محيط (عونا) و (محدر) هو نموزج لذالك الصّنف من الصبيان، وتلك إلتقت فيها (إرادة الله) وإرادة الملك وصهره (أسراتا كاسا) لأنهم أرادوهم قريب من اللهيب، وتحت السّيطرة وعلى مرآ من عيون الملك و مرمى المدافع إن إقتضى الأمر... أمّا (محدر) فقد حلّ فيها وأسرته من قرية (عد حشل) التى تقع شمال غرب المدينة، مرّة تجرّأ طالبا سائلا (محدر): محدر حوى.. عنكا وإديكا إشّى قيساىّ.... كان سؤال مفاجئ وغير متوقّع أحسّ البعض بالحرج.. والبعض الآخر إنتبه لإشباع غريزة حبّ الإستطلاع.. أرادوا أن يعرفوا أين فقد (محدر ودْ عونا) يده وعينه اليسرى.
ولكن يظهر أنّ (محدر) لم يكن من ذالك النوع الخجول أو الذى يصاب بالعقدة من نقص أصابه بإرادة الله...
فقال فقدت الإثينين فى جبل (لالمبا)!!!
وللإجابة على السؤال كيف قال:
عندما كنّا فى قريتنا (عد حشل) قبل الرحول منها إلى (عونا).. كان يوما طقسه جميل وكانت كلّ المنطقة خضراء لأننا كنّا فى فصل الربيع... وفى ذالك اليوم كان عمّى الصّغير (حجّاى) خارجا إلى إتجاه (لالمبا) و (قبسى) لرعى الأغنام فقلت له خذنى معك.. قال: أنت لا زلت صغيرا وسوف لن تقوى قدميك الصّغيرتين على تحمّل طلوع وهبوط الجبال والوديان.
قلت له أجرّب والتجربة لا تقتل... إستعدّ عمّى (حجّاى) فأخذ (خبزه) القشّة.. ( والبلاى) والسّنفاى)(2) وسعن الماء.. والـ (قدب)(3) وأنا بدورى لبست حذائى الـ (شمبركيت)(4) الوحيد الّذى أملك وتأبطت ثوبى والعصى الّتى نهشّ بها الغنم... وعندما بدأ الصبيان فى (عد حشل) يتجمّعون خارج القرية وتحت الشّجرة الّتى يقف تحتها أىّ مغادر أو مسافر وقفت هناك معهم إستعدادا للرّحيل.
وبدأت جدّتى (تكّا ولت ناير) تعطى الأوامر والتعليمات والتّوجيهات.. وتدعو لنا ببركة (القديس قرقيس) قائلة لاتبتعدوا من بعضكم كثيرا اذكرو: (قرقيس) تقول بالبلين (قرقيس حمبلاى أدرا شافا دهبوخ وقمبير فدّتخ).. هكذا تتفائل جدّتى دائما بالقديس (قرقيس) ساكن مقارح وتقول بالبلين ما معناه بالعربية: (قرقيس صاحب الفرس الجاوى... والحذاء الفضّى وعصا الذّهب).. هكذا تصوّره لنا دائما رجلا أبيض اللون والملبس واللحية مثل بياض لبن معازنا وحصانه الأبيض... ولتتمم ندرها تذهب إليه فى المقام حاملة كميّة من الذرة وبعضا من الشّمع.. علّها تتبرك به... وكما تفعل شيئا مشابها فى حولية السيّد جعفر الميرغنى وعند زيارتها لشيخ (سروا) كانت جدّتى تحبّ القدّيسين والمشائخ والتمائم.
بدأنا المسير و أخذنى (عمّى الصّغير) (حجّاى) إلى (قبسى) و(لالمبا) نرعى الغنم وعندما إنتصف النّهار جلسنا تحت ظلّ شجرة ال (شقلا) (شجرة تفّاح القرود) الظّليلة نتزوّق (قشّة) والدتى الّتى حملتنا إياها لنتغذّى بها ثمّ نروى الظّمأ من (سعن) الماء الّذى كان بحوزتنا.
ونحن فى تلك الحالة.. والأغنام تعلو جبل (لالمبا) رويدا رويدا بحثا عن الكلأ.. ونحن نرقب تحركاتها وسكناتها... رآ عمّى الصغير (حجّـاى) كتلة من الحديد مصنّعة وفيها شريط من النّحاس يشبه الحزام... إقترب منها رويدا.. رويدا... وبدأ بعصاه الـ(سنّفاى) يقلبها.. وظنّ أنّها لا تؤذى... وحينها لمسها بيده... وحينها فقط... لحقت به أنا ولمستها باليد... وأخذناها إلى ظلّنا فى الشّجرة نتمنظر فيها.. ولكن بعد حين من الوقت.. قال لى: (أن جدّتك اليوم سوف تفرح لأنّنا وجدنا لها (مدقّا) لقهوتها.. سوف تفرح وتدعو لنا... ولكن يجب أن نخرج (الحشوة) الّتى بداخل الكتلة حتّى تكون فارغة وتكون صالحة للإستعمال... قلت: له نعم ما فعلت... وأخذ عمّى (حجّاى) الكتلة حطّها فى صخرة.. قلت فى نفسى يجب أن تفرح الحبّوبة اليوم بهذا (المدقّ) اليوم ويجب أن ننظّفه لها... فأحضرت لعمّى حجاى حجرا أكبر وأقوى.
فبدأ يضرب على الكتلة بقوّة.. وأساعده أنا بدورى وعلى حسب قوّتى... لحظات وبعدها لم أرى ما حصل... إلاّ أن وجدت نفسى طريح الفراش فى مستشفى كرن... وعندما سألت عن (عمّى حجّاى) قيل لى أنّه طريح فراش المرض فى (مشفى إبتقمننْ) فى العاصمة (أسمرا) واليوم التّالى... قرّرو نقلى إلى نفس المستشفى فى أسمرا... فى الصّباح الباكر بسيارة الإسعاف (الأمبلانسا) وهناك قرّر الطبيب (بتر يدى اليسرى من المرفق)... وأجريت لى عمليّة فى العين اليسرى و ضمّضت كلّ الجروح فى جسدى... ولكن بعد عدّة أشهر وعند المراجعة قرّر الدكتور إزالة العين لأنّ وجودها هكذا ربّما أضعف الأخرى ويفقدنى البصر... سألت عن عمّى وصديقى (حجّاى) ولم يجبنى أحد.. كنت قد إشتقت لعمّى (حجّاى) فقد لعبت معه ورعيت معه الغنم فى (قبسى) وجبل (لالمبا) وسقيت معه البهائم فى (مسقى القرية) وحوالى البئر و تبعته مرة إلى وادى بالقرب من (ألاى كليب) فى (رورا بيت قبرو) ومرة إلى الأودية والطريق الجبلى المؤدّى إلى (موساو).
ولكنّى طال الزّمن ولم أرى عمّى (حجّاى) وفى صباح يوم قلت لأمّى أريد أن أرى عمّى حضنتنى أمّى وقالت لى لم يعد بعد من أسمرا!!! قلت لها (أمّى قولى لى الحقيقة!!! وحينها لم تتمالك أمّى نفسها وإنهمرت الدّموع من عينيها وحينها فقط عرفتُ أنّ عمّمى الصّغير (جحّاى) قد غادر الدّنيا يوم إنفجار القنبلة فى جبل (لالمبا) التّى اردناها أن تكون (مدقّا) لبون (جدّتى) فكانت تلك الفاجعة الثانية بعد فقد يدى وعينى ومن ثمّ (عمّى حجّاى). ومن يومها تيقّنت أنّ ليس كلّ شيئ جميل لا يأذى ولا يأتى منه شر... وعشت لسنين طالت الموقف والحدث وفقد (عمّى) الذى أحببت ولعبت معه ورعيت... ولأن العمر مكتوب ومسجّل كنت أطنّ أنّنى ولدت من جديد والحمد لله والشكر لقد فاتنى قطار الموت ونجوت منه بقدرة الله.. وسوف لن يعود.
ولكن جدّتى (تكّـا ولتْ نـاير)... لم تجفّ دموعها لزمن طال ظانّة بأنها السّبب فيما حصل لى ولعمّى الصّغير (حجّاى)... لأنّها لم تمنعنى فى ذالك اليوم من الذّهاب لرعى الغنم فى (قبسى) لأنى كنت صغيرا.
عرفت (محدر ود عونا) ونحن فى الصفّ الثالث من الأوّلية إرتبطتُ به عندما عرفـتُ أنّه يحبُّ الرّيف أكثر من المدينة، وثقتُ علاقتى بـ (محدر) لأنّه يحبّ التنزّه مثلى فى الضواحى وأطراف المدينة لأنّى تعودتُ وأحببتُ الرّيف منذ الصّغر.. مرة أقترح علىّ (محدر ودْ عونا) الخروج مع طلاب الفصل الرّابع والخامس عندما يخرجوا لنزهة بالأرجل إلى ضاحية المدينة (عريب سرّا) يصحبهم أبناء غفير المدرسة (أبوى رتّان) الذى كان له إبنين معاقين.. يتحدّثون التقرى أو (التقرنية) إن أرادوا وحين الغضب والعصبية يخلطون اللغتين بلغة الـ (بلِين) فيخرج النصّ من جنس كلّ اللغات التى تعرفها إرتريا ويختلط علينا كلّ شيئ ويصعب التفاهم ويتفرّق الجمع فى غير (سمر).
كان الفصل حينما يخرج للنزهة ينشد مع الأخوين (رتّان) نشيد مصدره المعلّمون السّودانيون فى إرتريا، يحكى عن جزء من تأريخ اللغة العربية وبصمات السّودانين فى المدينة وكلّ المدن... كان مطلع النّشيد على ما أذكر يقول:
عمّى عميرة: هوهو
ضرب الصفيرة: هوهو
صفيرة حربى: هوهو
(جاردين) (5) (مكلاسى) هوهو
نأكل ونمشى: هوهو
حبّة (أرانشى) (6) هو هو
لم يكن ذالك ممكنا لى ولمحدر لأن المعلّمون لا يسمحون بذالك، ولذالك كنّا ننزّه لوحدنا بالمرور على عونا فأصبحنا أصدقاء حتّى عندما غادرت المدرسة إلى المعهد الدينى الإسلامى و (محدر) أصبح وسيلة معرفتى بكثيرين من أبناء عونا ومنهم من لحق بى فى المعهد الدينى الإسلامى بعد ترك المدرسة الحكومية.
كنّتُ أرافقه ومعى شلة الفصل أحيانا حتّى أطراف (عونا) ونودّعه ونعود أدراجنا إلى المنازل قبيل بدأ ساعة حظر التجوّل.
فى يوم الخميس آخر يوم دراسى فى المعهد الدينى، إقترح (محدر ود عونا) فى ثانى يوم العيد أن نستأجر (درّاجتان) أو واحدة على حسب ما نجد من نقود، لنهبط بها إلى (عونا) ومنها نحاول الوصول إلى قرية ( شمليخ) التى قد لا تبعد من عونا أكثر من ثلاث كيلومترات، كنتُ أعترض على إستئجار الدرّاجات فى داخل المدينة لأن المجنّدون الجدد فى (قوات الكماندوس) كرّهونا إستئجار الدرّاجات لاننا نتعلم ركوب الدّراجات فى ملعب الكرة (جوكو) وهم يأتون إلى هناك ليتعلمّوا ويسوقونها بعنجهية خطيرة، ويصلون من مؤجّرى الدراجات (بشرا) أو (ودّى فيتو) أو (قرى مسقل) وفى طريقهم يكونوا قد أحدثوا دمارا وحوادث.
وعلى حسب الموعد يوم الإثنين ثانى يوم العيد من عام 1970 إستئجارنا درّاجتان وإذا سهل الأمر لنعبر النّهر الموسمى (عنسبا) إلى قرية (موشى -بيجوك).
كانت أحلامنا صغيرة وحلم (محدر) كان تعلّم الدّراجة ثمّ التّباهى بها أمام أقرانه من صبايا القرى المجاورة، الذين حرموا من التعليم بسبب (العوز) واللذين يعملون فى البساتين حوالى القرى والنهر الخالد... أمّا حلمى كان نزهة على ضفاف النّهر فوقع الإختيار على مؤجّر الدراجات (ودّى فيتو)... خوفا من إكتشاف أمرنا سحبنا الداجات سحبا على طريق جانبى فى المدينة.. الطّريق الذى يؤدّى إلى نقطة العبور إلى (دعارى) وإلى (عونا) وإلى الشمال من المدينة.. وصلنا السّهل المكشوف أمام (مركز الشّرطة) وعلى شمالنا حى (كامبو بوليس) وحىّ (بتّريت) ومجمّع المدارس (الإبتدائى والمتوسّط، والثانوى... لاحظ (محدر ود عونا) قوات تزحف بالقرب منّا متّجهة صوب الشمال جنود القوات الإثيوبية تزحف كالنّمل فى رتل (أحادى) وفى صفوف متوازية طويلة وهم فى حالة إستنفار قصوى وإستعداد للهجوم... وقفتُ وتوقّف (محدر) عن السّير مرّ الرتل الأول بالطريق العام إلى (دعارى) وآخر رأيناه يعلو (تبّة واليكو) المطلّة على ضاحية (عونا) من جهته الشّمالية.. ولأنّى قد شاهدت منظرا مثل هذا لم أتوقّع الأسوأ.. وكنت قد بدأت حينها بالعراك مع (درّاجتى) علّها تطاوعنى وتساعدنى على الركوب والمسير لأنّى كنت حديث عهد فى إستعمال الدّرّاجات أمّا (محدر) صمت طويلا دون أن ينطق بكلمة وحينها راودنى الشك فى أنّنا ربّما قد لا تستمتع بالرّحلة ولا بالعيد قد يسرق فرحتنا هؤلاء أكلة لحوم البشر ولكنّى طردت وساويس الشّيطان وعدت إلى صوابى وإلى طبيعتى المتفاءلة دوما وقلت: محدر ميتو أزى لتيلل) أعنى ماذا نحن فاعلون؟؟
ردّ محدر: نأصبر حنكتو!!! والمعنى: أتركنا نصبر قليلا!!
عشنا لحظات فاصلة بين السلم والحرب، وبين الرّعب والأمان، لحظات توقعنا فيها كلّ شيئ إلا إعلان حالة حرب على النّساء والأطفال، عشنا ونحن وقوف فى تلك البقعة من المدينة لحظات فاصلة فى تأريخ إرتريا.. وتأريخ المدينة عشنا لحظات فاصلة بين أن نكون أو لا نكون ولحظات بين يدىّ الله وقبل أن تسرق بقايا طفولتنا بوحشية هؤلاء حاولنا العودة إلى قلب المدينة، والقتلة كان لا يزال عقب أرتالهم يمرّ بالقرب منّا.. أمّا (محدر) غاب لزمن حسبته دقائقا معدودة من عمره وفى رهبته كان سنينا.. صمت وكأنّه يتذكّر حادثة فقد عينه ويده فى جبل (لالمبا).
أمّا أنا فى كلّ سانحة أرى فيها أناسا يمارسون حياتهم المعتادة تعود إلىّ أ فراح العيد وأطرد كلّ خيال الأتراح من وجدانى.
كان حينها (محدر) ممسكا بيده الواحدة على الدراجة.. وعينه الوحيدة التى يملك لا ترمش وهو ينظر إلى هضبة (واليكو) المطلة على (عونا)... وحينها إنفجر القتل... إيذانا بالظلم وتسجيل التأريخ السيئ ونقطة البداية لإضمحلال إمبراطورية الظلم.
دوى مدفع وفرقعت أسلحة.. وهرول كثير من الجنود الذين لم يكونو فى مهمة وفى أوقات الرّاحة... نحو مراكز الجيش والشرطة وطبق الصمت على الشوارع والأزقّة... هرولنا يمينا وشمالا فى حالة فزع وخوف وأبت ارجلنا أن تحملنا والدراجات أصبحت عائقا للتحرّك... همّ (محدر) أن يتوجه إلى (عونا) ليتفقّد أسرته، وأراد أن يرمى بالدراجة على قارعة الطريق وهاج وماج وبدأ جسده يرتجف رعبا... قلت: إيمان دى محدر!!! والمعنى: (قوّى إيمانك) وكأنّى أردت أن أعطى شيئا لا أملك.
قلت: أتركنا نسحب العجلات الآن لأنّنا لا نقوى على ركوبها لنوصلها إلى صاحبها (ودّى فيتو)... طاوعنى (محدر) بعد عراك طويل وشد وجذب وأنا أسحب (دراجتى) وهو ينظر للخلف قطعنا كثير من الطرق والعسكر يهرولون نجو معسكرهم (فورتو)... وصلنا ال(جيرا فيورى).. وفى أمام (مقهى وبار عد ديبونتى) نده نحونا أحد الرّجال قائلا.. (يا ولد نعنو إنسر!!! (يقصد تعالوا هنا).
لم نعرف المنادى ولكن إقتربنا من البار رويدا فإذا به جارى (يبا جاناى) قال: تعالو أدخلو أ ألم ترو ما الذى يحصل.. والإيطالى صاحب البار كان ممسكا بطرف الباب الآلى يريد أن يقلق البار بمن فيه... وقال بالإيطالية (إنديامو.. ألورا) قلنا: العجلة العجلة يجب أن نوصلها إلى صاحبها فأقفل الرّجل الباب بسرعة وتركنا خارجه، هرولنا بسرعة فائقة إلى الركن الشمالى من الشارع لنجد العجلاتى (ودّى فيتو) قد أغلق المكان وأحكم قفله.
قلت لمحدر: نرميها هنا أمام الباب نتركها لمصيرها... قبل أن يكون مصيرنا فى خطر... ولا أدرى ما الّذى حصل مع تلك الدرّاجات حتّى اليوم ولم أعد إلى (ودّى فيتو) مؤجّر لدّراجات بعدها أبدا حتّى بعد أن تعلّمتُ قيادتها بإتقان.
عدنا إلى بار عد ( ديبونتى) ووجدناه قد قفل وأحكم قفله... فمان كان منّا إلا ونادينا على (يبا جاناى) الذى لم نشك لحظة أنه فى الداخل.. ولا حياة لمن تنادى... قرعنا الباب بكلتا يدينا علّهم يسمعوا... وفى لحظات قررنا أن نترك البار ونهرول نحو منزلى إلى الجبل إلى (إيتعبّر)... هى لحظات قليلة لم نحسبها فى عصبية ذالك اليوم وبسرعة أسرع جواد وصلنا الدار.. وهناك وجدنا الأهل فى حالة إستنفار فى كلّ غرفة جزء من الأسرة مرصوصون خلف الباب والباب نصف مغلق حتّى يعود من هو فى الخارج.
جلسنا وأعدنا شريط الذكريات.. ولا زلنا كنّا لم نستوعب ما الذى حصل ولماذا كان الضرب ومن قتل وإين حصل ذالك!!!
(محدر) بدأت عيناه تدمع وجسمه يرتجف.
قال (محدر): وعينه تدمع القتلة عبروا المدينة وأكيد يكون الضرب فى الضاحية أنا متأكّد... تهدأت الأمهات والإخوات لم تساعد (محدر) على الهدوء والصبر، قالت إحدى الأمّهات أنا أيضا خالتى وبنت خالى بزوجها وأطفالها هناك فى القرية لست أنت الوحيد يا (محدر) إن حصل سوء لا قدّر الله سوف يُنْكب الكل فى المدينة أصبر يا محدر والله فرّاج... (محدر) كان قد ماتت فيه كلّ رغبة فى الحياة هجم عليه إحساس قاتل بحدوث شر فى الضاحية (عونا) ولكن أردف قائلا: أنتم قلقون على أقارب أمّا أنا فقلق على بيتى ومرقدى ومأواى وأسرتى.. إخوانى الصّغار وأمّى وأبى و(تكا ولت ناير جدّتى) قال كلّ ذالك وهو يتأّوح مع بكاء صاحبه نحيب.
قلت بسذاجتى: (محدر إيمان دى... عدكا إنشاء الله حتّى إيقبؤنى إيتفرهنى) قلت له: يا محدر لا تخف إصبر بإذن الله سوف لن يمسّ أهلك إىّ شر.
وأضفت: إن أردت تعال معى نخرج إلى المسجد ونصعد عتبات المؤذن لنرى من علوها (عونا) سوف نجدها فى سلام.. وذهل الكبار من إقتراحى ولم يعلّق أحدا بشيئ مخالفا أو موفقا ولم يمنعنا أحد من الخروج.
طلعنا هناك ومن (عتبات المؤذن) شخصت بنظرى إلى المدينة (علّى أجد سحرا يساعدنى لأعرف أنّ أبى لا زال فى حانوته قافلا عليه الباب... من ذالك العلو لا تستطيع إلاّ رؤوية سقوف منازل ومتاجر ولكنك ترى جزء من الطريق المسفلت فى الجزء الذى يوازى محطّة أجب البترول لمالكها (أبرها ويندرياس) أبعدتُ النّظر فوق سقوف المنازل علّى ألاحظ شيئا فى سماء (عونا).
يا للهول كان يخرج وقتها دخّانا كثيفا يشبه الغيم قبل المطر... وحينها بطلت حجّتى ونفذت كلّ ذخيرتى لتهدأت (محدر ود عونا)... وبدأت الدموع تنهمر من (محدر) بغزارة... قلب محدر المنقبض وفمه الصامت وعينه تجرى أنهارا من الدموع.. حينها إنفجرت باكيا من الجوّ المكهرب حولى.
قال (محدر): أنا إقل إتكرّييتو (عونا) تلّينى: يعنى أريد أن أهبط على (عونا) هل تتبعنى... لم اقل شيا ولم أقوى على الكلام أحسست وكأنه يدعونى أن أموت معه.. وعلت فى رأسى حينها فكرة: أنه يريد أن ينتقم من أىّ شيئ حتّى منّى صديقه فى تلك المحنىة ولكنى إستعذت بالله من الشياطين وعدت إليه بفكرة مهدّأة.
قلت: (محدر حوى.. أبياتو ندّد هلا دئى كون.. آدام بديير هربا قبئى.. منت إقل موت لتقسّى محدر حوى) قلت: أخى محدر ما نراه هو حريق فى البيوت أما البشر يكونوا قد نجوا بأنفسهم ونؤو عن القتل.. من ذا الذى ينتظر الموت جالسا حتّى يأتيه.
نظر إلىّ (محدر) بتهكم وبسم بسمة يأس وقال: أتريد أن تقنعنى بأنّ (جدّتى تكا ولت ناير) التى لا تقوى حتّى على المشى قد هرولت وهربت!!! أصمت يا صديقى ولا تبرّر لى خوفك!!! وهنا جاءتنى حمية الجاهلية لأنّى دائما أفتخر أمام صبايا المدينة بأنّى (إبن ريف) رأيت الحية ورأيت المرفعين يقضم عضام الغنم.
قلت لمحدر متحديا: يلا بقى نيقيس .. هيا بنا إذن فلنذهب... وهبطنا من المئذنة... ومع رفع رجلى الأولى للهبوط أحسست بأنّى ذاهب إلى الجحيم... وعند مرورنا بالقرب من مسجد المدينة لنهبط للطريق العام الّذى يؤدّى إلى (عونا) وإلى شمال المدينة خرج علينا عم (ودْ بكتْ) من منزله الكائن قرب المسجد صدفة ليسألنا أين نحن ذاهبون قلت: كنت أريد أن أعرف ما الذى حصل لجدّتى وخالتى و (محدر) يريد أن يعرف مصير والده ووالدته وإخوته وحاولت إقناعه بأن الوضع خطير ولا نستطيع أن نغامر ولكنه أبى حينها نظر العم (ودْ بكتْ) إلى محدر وقال له بالبلين: (عونا ما فرتو جبررخن)؟؟ يعنى: هل تريد الذهاب إلى (عونا) حينها ردّ (محدر) وهو يتنحّب بالبكاء بكلمات متقاطعة: (عونا حوْ يتى قالدخملا) يعنى: عونا إحترقت هل رأيتها تحترق !!!.
نهره ونهرنى عمّو (ود بكتْ) قائلا: أتريدوا أن تموتوا أنتم أيضا، لا ندرى شيئا عن الوضع هناك فطلب منّى العودة إلى أهلى وقال لمحدر أمّا أنت فأبقى معى هنا هناك محاولات للنزول إلى (عونا) إذا سمحت الحكومة أبقى معى فى المنزل تركتُ محدر حيث هو وعدت إلى منزلى.
وفى صباح اليوم التالى ثالث أيّام العيد سمعتّ بخبر السّماح بدفن الموتى فهرولت نحو (عونا) لمعرفة خبر جدّتى (ستّل أمحراى) التى فارقت منزلنا مساء العيد إلى منزلها فى (قزا باندا) ولكن ربّما قد تكون عادت إلى إبنتها (فاطمة) فى (عونا) عرجْتُ فى طريقى على منزل العم (ودْ بكتْ) فلم يكن أحدا فى المنزل فواصلت طريقى إلى (عونا) وعندما وصلت الكبرى الذى يفصل (عونا) من المدينة بالقرب من بستان الإيطالى (أورتلا) جاءت ناقلة (لاندروفر) مسرعة هى ملك للمستر (هيو) الكاثيوليكى الأمريكى و صاحب دار الأيتا م الكائين بالقرب من بيت (حاكم المديرية) وقلعة العسكر الـ (فورتو) لمحتُ خالتى (فاطمة محمّد إدريس أدقوى) فى السيارة ويدها اليسرى تنزف دما ملفوفة بقطعة قماش وتحمل فى حجرها بنتها ذات الثمانية أشهر وأخرى يحملها أحد الجالسين من جماعة (مستر هيو) أعتقد هو المعلم حينها وساكن النرويج الآن (تكئى على بخيت) أمدّ الله فى عمره، كان (مستر هيو) وناقلته ينقلون الجرحى الذين فقد بعضهم الوعى بسبب النّريف وبعضهم من شدّة الألم كنّا نشاهد ناقلته الـ (لاندروفر) تخيّط الطريق من المستشفى وإلى (عونا) جيئا وذهابا لقد رأيناها وهى تنزف دما من جوانبها مثل الضحايا عرفناها لأنها مألوفة فى المدينة عرفنا السّائق وعرفنا المعلمون الذى يصاحبون السيارة ويواسون الجرحى... وفى الزّاوية التى منها ترى (عونا) من الطريق رأيتُ جزءا من الدمار الذى حصل فى البيوت التى تفحّمت.
وهبطتُ على أول (حى) في الضاحية بحثا عن دار صديق طفولتى (محدر) لم أجده لا أدرى ربّما لهول الموقف تراه عيناى ولكنّى لا أرى شيئا وقلبى إنقبض وعينى تدمع يومها لم يكن أحدا يواسى الآخر، الكل كان أمام مأساة، تجولتُ فى الضاحية لأجد منزل خالتى بلا جدوى سألت بعضا من الرّجال: هل تعرفون منزل زوج خالتى جاء من (موشى بيجوك) ليسكن فى (عونا) قبل بضعة أشهر إسمه ( محمود زاقراى) وزوجته إسمها (فاطمة محمّد إدريس أدقوى) لا أحد يعرف والبعض لا يرد حتّى على سؤالى، حينها ظنّيتُ أنّ القوم يبكون بصمت ولا أحد يريد أن يفتح فاه لئلا يصرخ، والبعض منهمك فى البحث عن جثث والبعض الأخر جاء من القرى المجاورة (موشى، جوفا، بامبى، وسبنسريخ، أجرْببْ، فرْحين، فلاداربْ، شمْليوخْ) للبحث عن أهله وأقاربه ولا يعرف الكثير عن الضاحية.
هرولت لأبحث عن والدى لأخبره بما رأيت فى سيّارة (مستر هيو) الأمريكى.. وجدته وسط الجموع ولكنه يسمع ولا يفهم.. سمعته يردّد هو (باشاى محمد على) نعم عرفناه أدفنوه ويسجّل فى ورقة ما وجدوه فى جيبه من ممتلكات... سألت بفضولى أحد الآباء عندما لم يسمع أبى... قائلا: ومن يكون (باشاى محمّد على هذا؟؟ قال العم زاجرا لا تسأل كثيرا أترك النأس فى حالها ثمّ أردف: إنّه (باشاى محمد على) المينيشيبيو) الذى يجمع الضرائب من الحطابة فى سوق الحطب... وعندما عرفت مصير خالتى صرت أبحث عن جدّتى (ستّل أمحراى) لم أستطع التعرف على المنازل لأنها وقبل معركة الدمار هذه أيضا كانت تشبه قرية صنعت خصيصا لتصوير فلم حربى... أصبحت لا أرى إلاّ بيوتا محروقة ولم يبقى منها إلاّ (تراس) وبقايا (شعب) كان يستند عليها سقوف المنازل...فعدت أبحث عن صديقى (محدر ود عونا)... وأانا أقف بجانبه سألته أين أمّه وأين هى جدّته وأين هى التومة (توأمة) (محدر) كان إسمها (محْدريتْ) قال لا يعرف... ولكنّى عندما إلتفت خلفى لاحظت كوخا صغيرا محترق بالكامل لم يبقى منه إلا أعمدة وتكّالات خشب نصفها محترق ولكنّى لاحظت شيئا كان هناك إبريقا مصنوع من الطين أو الخشب ملبّس بالجلد وقطاءه من عظم العيش الرّيفى) (الذرة الشامية) الإبريق واقف كما هو لحكمة يعلمها الخالق ولكن محترق... إعتقد لو لمسته بأىّ شيئ لتحوّل إلى رماد.
قلت لمحدر: ألم يكن هذا إبريق جدُّك الذى زرناه يوم الوقفة فى المستشفى... إلتقت (محدر) إلى الإبريق ولم تتوقف عينيه من الدموع ولكنه لا يتكلم.. حينها كان (محدر) فى غيبوبة من هول الأحداث التى لا هو ولا أنا كانت لنا القدرة على تشخيصها وإيستيعاب ما جرى ويجرى. نظرت مرة أخرى إلى الكوخ المخترق، وكانت حينها قشعريرة تعلو جسدى وأحسست بحمة تهجم على كاهلى وشعرت بالحرارة ترتفع فى جسدى... أحس قلبى بأنّ هناك شيئا ما فى ذالك الكوخ المحترق ولكن عيناى لا ترى شيئا... لأنّ ما رآه قلبى وأحسّ به أعمى عيونى رافة بى وبصديقى (محدر).
كان بالقرب من الإبريق المخترق ثمانية أعوادا على شكل بقايا سرير محترق بالكامل ولكنها لم تسقط أرضا وكأنها تقول لا زلت أشهد على الحدث.. ولكن الطامة الكبرى عندما رأيت جسدا نحيفا محترق بالكامل يشبه دمية أو بقايا إنسان... صرت حينها أتصبب عرقا وكأنّى شاهدتُ قيام السّاعة... وبعد برهة لا أدرى كم هى فى عمر الزمن نطقت كلمات مبهمة.
كرّرت الحديث ثانية: قائلا: محدر أخاف الذى أراه من بقايا إنسان الذى أمامى هو جدّك (عثمان مسمر) الذى زرناه فى المشفى الرّأيسى فى المدينة يوم الوقفة... طلب منّى فى ذالك اليوم صاحبى (محدر ود عونا) أن أرافقه إلى المشفى لزيارة جدّه المريض لأنه يريد أن يبلّغه رسالة من بنته (أم محدر) والرسالة تقول لأنّك مريض حتى تشفى تماما أبقى حيث أنت فى المستشفى... ولكن الجِد عثمان مسمر) بعناد الكبار خالف كلام بنته (أم محدر) وصلى صلاة العيد بصعوبة وهبط إلى (عونا) حيث بنته وأحفاده... لأن أجله المحتوم والمكتوب كان فى (عونا)... وأنا أتجوّل فى البيوت كانت فى الصفحة الشمالية والمقابلة لضاحية (عونا) من (تبّة واليكو) أكواخ جديدة بنيت فى (عونا) لمهاجرين جدد هجروا قراهم وإستوطنوا الضاحية إمتثالا لأمر الحاكم بأمر الشّيطان (أسرات كاسا) ولأن جزء كبير منها كان نصف محروق هرولت نحوها بدافع حبّ الإستطلاع تاركا (محدر ود عونا) يكمل مشاهد الدمار والخراب بمفرده.
وجدت فى إحدى الأكواخ النصف محترقة نصف جسد مغطّى بفستان (نايلون) محتْ النّار لونه وشكله ومن الأرجل فقط عرفت أنّه جسد إمرأة كبيرة السّن.. و قلائد السّوميت لا زالت فى أرجلها وصلت حينها إلى نتيجة إنّ الجسد هو لإمرأة كبيرة سرق (الأوباش) روحها وأحرقوا نصف جسدها قاتلهم الله... ولكن شغلنى عنها ضحايا آخرون فلم أتمعّن فى الجسد الذى يجلب الإشمئزاز والقشعريرة.. فالوادى السّحيق بين الضاحية والتبّة كان مليئا بضحايا حمير وسخلان (عونا) حتّى الحمير التى لا تنطق ولم تقتل ولم يكن لها إشتراك فى مظاهرة ولا فى أىّ عمل فدائى أحرقوها بالبارود ربّما فقط لأنّها إرترية... ولكن لأنّ رؤية حيوان مقتول أرحم من جسد بشرى محروق وجدت روحى قسطا من الهدوء النّفسى من الإختناق الذى أحسست به وأنا أشاهد الحريق والدّمار وكتل من الأجساد البشرية مكوّمة فوق بعضها البعض ثمّ تجرأت وعدت لمشاهدة منظر الجسد النصف محروق وعلى مسافة منه إبريق الوضوء علّها كانت على وشك الإستعداد للصلاة... تجمّدت لحظات أمام المنظر لم تمرّ لحظات وإسودّة الدنيا فى غينىّ وفقدت نفسى التوازن والإتّزان وإنهارت الدموع دون وعى ومن دواعى إحساس داخلى غير مفهوم... هرولت نحو الكبار نحو عمّى نحو أبّى وقلت صارخا هنا إمرأة نصف محروق تشبه جدّتى ( ستّل أمحراى) هرولة الآباء نحو الجثّة والأكواخ وصرخ أحدهم نعم هى ياجماعة من موجود من (عد كلال ألبو) أو (عد أمحراى)... إنّها كانت حقّا جدّتى (ستّل أمحراى) دفنت لاحقا مع حفيدتها مع من إستشهدوا مجموعة فى حفرة واحدة رحمها الله رحمة الأبرار.
فى تمام السنة الخمسين لمحرقة ومذبحة (عونا)....أقول لصديقى (محدر ودِ عونا) كلّ شهداء (عونا) هم شهداء إرتريا وفى صحائف الحقّ وإن والدتك (أم محدر) وتوأمتك (محدريت) وجدّتك (تكّا ولت ناير) هم فى الصفحة الأولى من شهداء معركة (عونا) المشؤومة دفعوا ضريبة الوطن ولكن ما يؤسفنى هو هؤلاء الشهداء الأحياء الذين لا يجرأ أحدا أن يعلن شهادتهم وهم بيننا وأنت منهم صديقى (محدر) فقد علمت بأنّك فى السّنين الأولى كنت تصحوا مفزوعا ومفجوعا من نومك وأنت ترى كلّ الضحايا فى تلك المحرقة فتصرخ وتبكى.. ولكنك لا زلت شامخا واقفا داعيا العفو والغفران لكلّ شهداء المحرقة... بل أنّك لا تحكى عنهم للآخرين و لأطفالك لتمسح صور الشؤم من مخيلتك، وأعرف أنّك لا تريد أن تنقل تلك الذاكرة إلى أبناءك حتّى لا يفجعوا وينفروا من صورة (الوطن الجميل) الذى تعيش فيه حتّى اليوم حتى بعد تلك الفواجع إيمانا به... أمّا صديقى وصديقك(عمراى) الذى بقى وحيدا عندما إحترق وقتل كل أفراد أسرته عاش صامتا لزمن طال دون أن ينطق بكلمة فقد قابلته فى نجائل كسلا يطلب من المغتربين من أقرانه (ناى شاهى) ومرّة يقضى ليله فى مسجد الأنصار يفترش حصير المصلّين.. وفى بداية الثمانينيات فقد سرقت الفواجع والمواجع عقله لأنّه كان لا يزال يحسّ بالألم منذ (ديسمبر 1970) ولم يستطع أحدا أن يحسّ بمكامن الوجع والألم فى وجدانه وجسده وعقله فقد سلبت مناظر الرّعب والقتل والدّمار فى الضاحية فى تلك السنين الغابرة إنسانيته، ولا أدرى إن كان حيّا يرزق حتّى اليوم.. ولكنه مما لا شك فيه قد فقد إنسانيته وحضوره منذ زمن ومن يوم المحرقة الرّجسة فى (عونا) و (عمراى) هو نموزج لكثيرين لا زالوا يعشونا بيننا ولا نسألهم عن تفاصيل الحادثة لأنّنا عشناها معهم، ولكن الشيئ الذى لا نعرفه هو ماذا بقى فى ذاكرتهم من مشاهدها، ولا نجرأ على السؤال فالسؤال نفسه ينشّط الذاكرة المؤلمة أتركها تموت لأنها قاتلة.
عزيزى (محدر) لا تقرأ هذا المقال حتّى لا تتسلّل إليك تلك الذاكرة وتتجدد، ولا تنقل ذاكرة ذاك اليوم الأسود إلى أبناءك، حتّى تأخذ (عونا) وأخواتها حقّهنّ من ظلم الزّمن، لا تقرأهذا المقال أرجوك، لأنّى أكتبه فى لحظة إكتئاب ولا أضمن أكماله، سوف أكتب لك لاحقا لأردّ على سؤالك القائم والدّائم والمفتوح فى صحائف تأريخ إرتريا: مِن منْ سوف نثأر لـ (عونا) الشّرف، هل لكلّ المقتولين والمقتولات أم المقتصبات فى فراش (النّفاث)...؟؟؟
هامش:
أدرى أن القارئ اليوم لا يميل لقراءة المقالات الطويلة، بل يفضّل المقالات التلغرافية، ولكّنّى مع زحمة الأشياء كان علىّ أن أساهم ولو باليسير فى ذكرى المحرقة فعذرا للقارئ ليس بإرادتى وولكن الذاكرة هى التى إسترسلت.
1. عونا: قيل كان إسمها (شاكت) وكانت هى المركز الأكبر فى المنطقة قبل مدينة كرن كان يجتمع فيها كل الأقوام لتجارة البهائم وخاصة السودانيون ومنها كان ينتقل البهم للتجارة إلى مصوع، أحرقها الرّأس القوجامى (وبى) عام 1846 ثم أحرقها وعذب شعبها الرأس التقراوى (ألولا أبا نقا) عام 1870 وأخيرا وبعد مائة عام حفيدهم العقيد (ولالا) عام 1970.
2. سنّفاى: هى تلك العصى فى شكلها تشبه السّيف الحبشى النصف هلالى.
3. قَدب: هو الفأس ذو الرّأس الصغير يستعمله الرعاة والمزارعون للمهام الصغيرة التى لا تحتاج لفأس كبير.
4. شمبرْكيت: هو الحذاء الخلوى مدعسه غالبا من بقايا إطار السيارات وجزأه العلوى من الجلد يصنعه الفلاحون يدويّا.
5. جاردين: هى كلمة إيطالية محوّرة ومعناه البستان ومكلاسى هو إيطالى كان يملك بستانا على ضفاف عنسبا.
6. أرانشى: كلمة أيطالية وتعنى (برتقال) ويظهر أن الأهزوجة مع أن كلماتها عربية إستعمل صاحبها كلمات محلية أضافت عليها رائحة المكان.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.