الي دبر سالا - الحلقة الثانية والعشرون و الأخيرة
بقلم المناضل الأستاذ: محمد عيسي المصدر: الرمال المتحركة
عبرنا الحدود ووصلنا الي كسلا وبعد ذلك نحت الأمور الي مناحي عدة.. لقد ذهبت الي الخرطوم مواصلا تعليمي وأنا متذكراً وصايا
الشهيد إدريس عمر الذي حمل الناعي خبر استشهاده وهو يؤدي المهمة التي أحبها وصرح بها وهي التحامه بالمواطنين والعمل من أجل رفع المعاناة والظلم عنهم لقد استشهد وهو يحضر للمؤتمر الوطني الثاني يقود اجتماعات للمواطنين ويتم اختيار الممثلين عنهم للمؤتمر وكذلك من وحدات جيش التحرير كان يتابع أعماله من منطقة الي أخري وكان هو ورفاقه يعملون تحت ظروف طبيعية قاصية وهو الدؤوب الصامد لا يود أي تأخير في مهمته والأمطار كانت كثيفة والوديان ممتلئة فائضة وكان ما كان حيث استشهد مجروفاً بقوة السيول العارمة وفقدنا وفقدت فيه أرتريا مقاتلاً جسوراً ومثقفاً مستنيراً ومناضلاً أحب شعبه وبذل كل غالٍ ونفيس من أجله.. كان حلمه لشعبه كبيراً وكان يعلم أن ذلك يتطلب نضالا مريرا.. كان ذا بعد نظر ولا ينظر لصغائر الأشياء والأمور كان ذو عينٍ ثاقبة وبصيرةٍ حاضرة تستشفها في فكره في حديثه وفي تصرفاته كان يؤاثر نفسه دون رفاقه وهو الذي انبرا في دبر سالا للأصلة التي كادت تقتل الشهيد حسن باشميل وقتلها وكان ذلك قبل وصولي للمعسكر وكان ذلك بشهادة وتوثيق المناضل فرج علي نور أطال الله في عمره ومد في صحته.. وبذكر دبر سالا والعيادة المركزية نذكر الشهيد المرحوم أبوبكر حاج علي "أبوقبورة" مسؤول العيادة المركزية في ذلك الوقت وهو الذي كان يَردُ ذكر أسمه ب "ود حاج علي" لقد ورد ذكره مراراً وهو المناضل المرح الذي أكسبه مرحه ذلك اللقب "أبو قبورة" ونعلم أن اللقب كان لملك المرح والفكاهة في السودان وقتها وكان ملك زمانه في المرح والفكاهة. أبوبكر كان من جيل الشهيد إدريس ومن نفس المدرسة ومن نفس عصارة الفكر والتفاني والوطنية والإخلاص أتذكره وهو يلاطف مرضاه ويروح عنهم وكان محبوباً كثيرا.. العيادة المركزية تحت قيادته كانت جسدا واحداً وقالبا ومصيراً واحداً.. أبوبكر حاج علي هو الأخ الأكبر للأخ محمود حاج علي بالأمارات وحامد حاج علي والدكتور كمال حاج علي بأستراليا وبقية الأخوة والأخوات من أسرة حاج علي الممتدة.. أما كداني الذي كان لأبوبكر حاج علي دور أساسي في ارساله الي كسلا للعلاج من الرعاف المزمن لم يقم في كسلا الأ وقتاً قصيراً حيث غادرها الي الخرطوم وكان يقيم في بيت الجنود في الديم حيث قابلته لاحقاً هناك عندما سمعت بخبر مجيئه وكان قد تغير كثيراً في طرحه وفي تناوله للأشياء وقد شممت رائحة التمرد فيه.. لم يعد ذلك الذي كنت أعرفه.. لقد صار يحكي لي عن الرجعية وسيطرتها علي قيادة الجبهة كما صار يحكي لي عن اغتيالات لم أسمع عنها من قبل.. لقد فهمتُ بأنه لا ينوي العودة الي الميدان رغم أنه كان يقيم في بيت الجنود وكانت علاقاته متوترة مع بقية المقيمين في البيت الذي كنت أزوره وأتردد عليه كثيرا.. لقد سافر كداني الي ألمانيا ولم أسمع عنه بعدها.. أما صديقي العزيز صباح الخير فمهمته كانت تقتضي مرافقة كداني الي كسلا ليتم علاجه فيها وعلي ضوء حالته الصحية اما أن ينتظره ويعودا سويا الي الميدان ان كان ذلك ما يراه الطبيب أو يتركه ويعود ان كانت حالته تقتضي بأن يتركه.. لقد اشتم صباح الخير قبلي نفس رائحة التمرد فيه دون أن يعلنها حيث كان يماطل في العودة ويتعذر بأعراض لم يكن يشكي منها عرف صباح الخير ذلك فتركه وعاد الي الميدان.. وعلي ذكر صباح الخير الذي حمل الناعي ذكر وفاته قبل خمسة أعوام تقريباً كان اسمه الحقيقي صالح علي شيخ ومن كثرة ترديده لصباح الخير فقد طغي ذلك اللقب علي اسمه الحقيقي.. لم أكن أعلم أسمه الحقيقي الا لاحقاً عندما أخبرني بذلك المناضل المخضرم حسن صالح (حسنيت) مد الله في صحته وأطال الله في عمره وهو الذي قامت العيادة المركزية علي أكتافه كمسؤول للجهاز الصحي ورفاقه الشهيد حسن باشميل والشهيد ادريس عمر.. باشميل كان في العيادة المركزية بدبر سالا والتي غادرها الي أكلوقزاي قبل وصولي بقليل ولم نلتقي خلال فترة تواجدي بالجبل ولاحقاً وخلال نفس العام حمل الناعي خبر استشهاده في اكلوقزاي.. لقد كان حسن من نفس مدرسة الشهيد إدريس عمر.. لقد كانوا كوكبة من الشباب طموحاتهم الوطنية لا حدود لها فحدودها السماء علواً.. فدوا الوطن وهم في ريعان شبابهم غادروها دون أن يتركوا لا مال ولا بنين لكن تركوا ارثاً وفخراً تتوارثه الأجيال من بعدهم تركوا ارث الفداء من أجل الحرية.. تركو ارث الفداء من أجل وطنٍ أمنوا باستقلاله وكرامته شعبه.. تركوا ارث التضحية من أجل كرامةٍ دُنستْ وحقٍ استباحه الطغاة.. ألهمونا معاني الفداء واستشهدوا لتنال أرتريا لاحقاُ استقلالها ولم يتأتى ذلك الا من خلال تراكمات تلك الجهود من مختلف الأطراف والأطياف وكل مكونات الشعب.. لقد استشهدوا في نفس العام وهم الاصحاب والرفاق في الدرب والمبدأ والمصير.. سوف تظل ذكراهم عالقة في خلد هذا الشعب الأبي.. إدريس عمر هو الشقيق الأكبر للدكتور محمد خير عمر الذي يحمل نفس المشعل الوطني نضالاً وتفانياً وحباً لشعبه ووطنه له التحية والأجلال والتقدير.. تحدثنا عن الكوكبة الشامخة التي كست دبرسالا وعلت سماء نضالاته أما العيادة المركزية نفسها فقد كان ما كان من أمرها حيث خرجت قوات العدو من كرن ومن أغردات مدججة ومهيأة بكل العدة والعتاد في سبيل الوصول الي العيادة المركزية والتحمت معها قوات من جيش التحرير حيث استطاعت من إعاقة وصولهم الي العيادة وخلال ذلك تم نقل المرضي والجرحى الي بركا وهكذا غادرت العيادة دبر سالا نهائيا الي هواشيت وتركت الجبهة الجبل لقرب المكان من المدن الكبرى وانقطعت عني أخبار الجبل منذ ذلك الوقت والذي ربما تكون قد تكاثرت فيه الحيوانات البرية لدرجة كبيرة.. لقد ألتقيت بالمناضل سليمان محمد ابن النهود بعد عام من لقائنا في الجبل.. التقيته بكسلا عندما كان في إجازة وكانتْ المدينة حينها تعج بالشباب المتدفق عبر الحدود من المدن مباشرة أو من اللذين لم تستوعبهم الجبهات فعبروا الحدود الي كسلا.. عام 1975 كان عام فيضان الشباب من المدن فمنهم من التحق بالميدان ومنهم من عبر الحدود الي السودان ثم منها مواصلاً الي البلدان المجاورة.. التقيت بسليمان وجلسنا في المقهى ذو الشجرة الظليلة نحتسي الشاي ويحكي لي عن الأحداث المتسارعة خلال ذلك العام وكيف ان العدو خرج محاولا الوصول الي العيادة وكيف انهم استطاعوا أجلاء كل الجرحى والمرضي دون أن يصيبهم شيء الي هواشيت في بركا وعن الرفاق وعن التغيرات.. يحكي لي عن كل التطورات التي حدثت بعدي وكيف أنه قد تم توجيهه من سرية الحراسة الي وحدات الجيش كقائد فصيلة وأنه ما زال في بركا الا أنه لا يدري ان كان سوف يواصل بنفس الوحدة أم يتم توجيهه الي وحدة أخري.. افترقنا ومنذ ذلك الزمان انقطعت عني أخباره.. حيث تسارعت الأحداث وفاضت المجاري بالمياه وتغيرت الأمور وسوف يظل دبر سالا ذلك الجبل الشامخ منارة للصمود والفداء.. سوف يظل رمزاً عالياً يناطح السماء.. سوف يظل قمةً تربو النفوس اليه باعتزازٍ وفخرٍ واباء.. سوف يظل ذلك الأبيُ المخضب بالدماء.. وسوف تظل الأجيال تذكره محراباً للتضحية والوفاء.. دبر سالا لن أكفيك وصفاً وان سَكًبتُ فيكَ المداد ماءٍ وماء..
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
تجربة طالب أرتري ترك مقاعد الدراسة والتحق بالثورة الأرترية وهي في أوج تألقها وصعودها نحو انتصارات عظيمة.