افادات شاهد العصر دان كونيل عن بواكير انضمام أسياس أفورقي الى الكفاح المسلح - الجزء الثاني

بقلم المهندس: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري

البذور الأولى لحزب الشعب الثوري:

يقول السيد/ كونيل: كان أسياس أفورقي عندما كان طالباً في مدرسة (الأمير موكنن) الثانوية في أسمرا

دان كونيل و أسياس أفورقي

عضواً فى منظمة وطنية سرية، وعندما ذهب هو وآخرون من هذه المجموعة إلى الجامعة في أديس أبابا عملوا على توسيع وتطوير هذه المنظمة السرية بالاتصال ببعض الثوار الإثيوبيين - لذلك وبمجرد وصوله إلى كسلا، كتب أسياس لرفاقه محذراً مما وجده من قيادات جبهة التحرير، إلاَّ أن الرسالة لم تصل إلى أصدقائه، ثم في ديسمبر عام 1966م، لحق به هيلي ولد تنسائي (دروع) وهو زعيم آخر لتلك المنظمة الطلابية فى أديس أبابا، علماً أن أفورقي كان قد وصل إلى كسلا فى سبتمبر من نفس العام، يقول هيلي ولد تنسائي: فور وصولي الى كسلا سمعت الاخبار السيئة، حيث طلب مني أفورقي إغلاق فمي بشكل نهائي وعدم التصريح بأي ملاحظات، وأن لا أقدم أية مقترحات وسيقوم هو بشرح الموقف لي بشكل مفصل عندما نجد فرصة للحديث على إنفراد، عندها أصبت بصدمة ولم أصدق ما يجري، ثم اصطحبني إلى مطعم وأول شيئ حدثني عنه قال لي إن المشهد عبارة عن فوضى عارمة، لا وجود لبرنامج وطني ولا قيادة وطنية (لا يزال الحديث لـ هيلي ولد تنسائي) لذا كانت فكرة وجود منظمة سرية داخل جبهة التحرير الارترية أمر ملح فى ذلك الوقت، إنها لحظة غاية فى السوداوية بالنسبة لنا، وقد كنا مدركين خطورة هذا المسعى، كنا ثلاثة فقط، أنا وأسياس أفورقي وموسيي تسفاميكائيل، عندما أقسمنا بدمائنا على إعادة بناء حركة وطنية حقيقية، قمنا بنقش الحرف (E) على الكتف والذي لا يزال بارزاً الى يومنا هذا كدلالة على الالتزام، في هذه الأثناء كانت جبهة التحرير الارترية تقسم إريتريا إلى اقطاعيات (نظام المناطق) متحالفة مع بعضها البعض لكنها لا تعمل كجيش وطني واحد (أو حركة سياسية موحدة) يقول هيلي دروع: "لم يتحدث أي من هؤلاء الأشخاص عن إريتريا". أراد الجميع الحصول على إقطاعيته الخاصة، لذلك أطلقنا عليهم "عامة".

ثم يستدرك السيد كونيل قائلاً: إن البذور الأولى لحزب الشعب الثوري نبتت فى تلك البيئة الخطرة من ستينات القرن الماضي عندما كانت جبهة التحرير الارترية هي التنظيم المسلح الوحيد فى الساحة الارترية، وبالرغم من حرص قيادتها (المحافظة) والتي تتمركز فى الخارج على انهاء الاستعمار الاثيوبي لكنها لم تكن لديها رؤية لتغيير المجتمع الارتري، بل بالعكس من ذلك كانت لهم مصالح قوية فى عدم انجاح أي مبادرة نحو التغيير، لذا قاموا بقمع أفورقي وجماعته، وفى نفس الوقت كانوا منقسمين على أنفسهم، لا يثقون ببعضهم البعض، الامر الذي خلق مساحات لمختلف التيارات المعارضة لتنشأ وتنمو فى الساحة، في ذلك الوقت، إن التعبير عن دعمك لنظرة قومية علمانية فقط، ناهيك عن أجندة سياسية يسارية، يمكن أن يعرضك لخطر العزلة أو السجن أو حتى الموت، جلب المقاتلون الذين أرسلوا إلى الخارج للتدريب - سوريا، وكوبا، وفي نهاية المطاف إلى الصين - أفكارًا مستمدة من الماركسية تتعارض مع الوضع في إريتريا، كان من بينهم رمضان محمد نور وأسياس أفورقي وهما مؤسسي حزب الشعب الثوري... انتهى كـــــلام السيد كونيل.

من السرد أعلاه نستخلص ما يلي:

1. نجح أسياس أفورقي مع سبق الاصرار والترصد فى نقل الاحباط الذي لازمه من أول يوم فى كسلا إلى زميليه (موسيي و هيلي) وبعد أن قام بتهيئتهما نفسياً بهذه الطريقة بدأ يسرب لهم برنامجه السياسي السري المستمد من الفكر الماركسي الذي ظل يحمله منذ دراسته فى ثانوية لؤول مكنن ثم جامعة أديس أبابا .

2. لم يكن أسياس أفورقي يرغب فى العمل مع قادة الجبهة حتى لو تم استقباله بتلك الفعاليات الكرنفالية التي كانت فى مخيلته بدليل ما رواه المناضل/ ولدسوس عمار عن الرسائل التي كان يرسلها أسياس أفورقي إلى المسيحيين يحثهم فيها الالتحاق بالثورة وذلك للدفاع عن حقوقهم (الفئوية) ثم يأتي ليتهم قيادة الجبهة بالجهوية والقبلية والدينية .

3. كان أفورقي منذ وصوله الى كسلا يبحث عن ذريعة لحشد مناصرين لفكرة الانشقاق، وأن الحالة الامنية التي ذكر بانها كانت انتقائية ضدهم غير صحيح وانها كانت السلوك الثوري السائد فى تلك الايام بدليل ما ذكره البروفسور/ قايم كبرآب نقلاً عن المؤرخ/ ميكائيل قابر حيث يقول: إن مصطلح الثقة أو حتى التفكير فيه فى الستينات كان يعد نوعاً من الترف لشدة الملاحقة الامنية التي كان يتعرض لها الثوار من قبل العدو الاثيوبي بشتى الوسائل .

4. جاء أفورقي لتغيير الشعب الارتري والدفاع من أجل برنامج فكري (سيتضح ذلك بشكل أوضح خلال الحلقات القادمة بمشيئة الله) وتنادت قيادة الجبهة (بكل سلبياتها التطبيقية) للدفاع عن الأرض والعرض وشتان ما بين الشعارين .

5. الرواية التي ذكرها هيلي ولدتنسائي بأنهم كانوا يسمون قيادة الجبهة (عامة) بسبب اقطاعيات المناطق التي كانوا يمتلكونها تعتبر رواية مهزوزة ومرتبكة وان اسم (عامة) أطلق على القيادة العامة المنبثقة عن (إنقلاب) أدوبحا الذي قامت به القيادات العسكرية الميدانية والذي لم تقم للمناطق قائمة من بعده .

6. يظل أسياس أفورقي أبرز المنقلبين على أصدقاء الأمس دون منازع، فإن الثوار الاثيوبيين الذين كان على اتصال معهم عندما كان فى جامعة أديس أبابا كانوا الخلايا الأولى لحزب الشعب الثوري الاثيوبي الذي تأسس فيما بعد بشكل سري فى 1972م لينقلب عليهم بحجة واهية عندما تحالف مع التقراي (سنتحدث عن بعض تفاصيل حزب الشعب الثوري الاثيوبي وانقلاب أفورقي عليهم لاحقاً) .

انطلاقة الحزب The Launch of The Party

يقول السيد كونيل: تم اتخاذ الخطوة الأولى لإطلاق حزب الشعب الثوري في تجمع سري في تلك الصحراء المحروقة في دنكاليا في عام 1971م، عندما إلتقى النشطاء الثوريون من قوات التحرير الشعبية (أ) وقوات التحرير الشعبية (ب) - أو مجموعة عالا وسدوحا عيلا وفق المصطلحات المتعارف عليها - لأول مرة منذ أن قاموا بالانشقاق من جبهة التحرير الارترية.

فى الرابع من ابريل عام 1971م قام ثوريون - متشابهي التفكير - من جناحي قوات التحرير الشعبية بتأسيس تشكيل سياسي سري لإعادة بناء الحركة الوطنية على أسس اجتماعية وسياسية، حركة وطنية أكثر توحدًا، وكان من بين الحضور الآتية أسماؤهم:-

• أسياس أفورقي،
• أبوبكر محمد حسن،
• عمرو،
• ابراهيم عافه،
• مسفن حقوس،
• على سيد عبدالله،
• محمود شريفو،
• حسن محمد أمير،
• أحمد طه بادوري،
• أحمد القيسي ...وآخرون.

يقول شريفو: لقد التقينا هناك وناقشنا الحاجة إلى تشكيل النواة الأساسية قبل توحيد القوى الجديدة، واطلاق الحملة على أساس قومي وأفكار تقدمية، وتخليص الآخرين من الأحكام المسبقة وضغائن الماضي، حيث قررنا العمل بشكل سري للغاية، واعتبار الماركسية منهجيتنا وايديولوجتنا الرائدة، وسنسمي أنفسنا بأنفسنا (الحزب الثوري للشعب الإريتري) كان أبرز الغائبين عن هذا الاجتماع رمضان محمد نور والأمين محمد سعيد، وأن الأعضاء الذين وضعوا هذا الميثاق سيظهر معظمهم في القيادة العليا للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا طوال فترة النضال التحريري وفي دولة ما بعد الاستقلال، باستثناء إبراهيم عافه وأبو بكر محمد حسن وحسن محمد أمير الذين استشهدوا في حرب التحرير.

كان الجزء الأكبر من العمل المبكر لحزب الشعب يهدف إلى تحويل الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا إلى قوى سياسية واجتماعية متماسكة، قوى تتمثل السلوك الثوري، بالإضافة إلى تعزيز القيم الجديدة (القيم الثورية للماركسية) والتي يمكن أن تطور هوية وطنية قادرة على استيعاب الانقسامات الطائفية التي كانت تعمل حتى ذلك الوقت على تقويض حركة التحرر هذه، يقول هيلي ولدتنسائي "إن الإنجاز الرئيسي للحزب كان الوحدة الوطنية"، يستدرك كونيل قائلاً: حتى الآن يمكننا القول بأن الحزب صنع معجزات، خلق أناساً ملتزمين، لقد جعل كل فرد يفكر في نفسه كجزء من المنظومة بأكملها كي لا يفقد تأثيره في أصعب المواقف، واجه كل مقاتل التحديات دون النظر إلى الوراء، كما عمل الحزب على تغيير المجتمع بمعالجة القضايا الأساسية له، فإن معالجة قضية المرأة كانت إحدى نقاط قوته الرئيسية منذ البداية... انتهى كـــــــــــلام السيد كونيل.

تعقيب: بما أننا وصلنا إلى ميلاد ذاك الجنين الذي حَبَلَ به أفورقي لسنوات منذ أن كان يافعاً فى سني عمره الأولى وميله إلى تطبيق النظرية المحمدية (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) وبالرغم من أن البعض قال بضعف الحديث وبعضهم اعتبره موضوعاً وهناك من أنكر أنه حديث، إلا أن الدلالة التي يحملها قوية وفاعلة بل ومجربة (أسألوا أفورقي إن لم تصدقوني)، لذا وفور انضامه الى الكفاح المسلح قرر أفورقي بأن تضع ذات الحمل حملها، وبما أن مشروع بهذا الحجم كان فى حاجة إلى رفاق وأن الرفاق فى حاجة إلى مبرر بالقوة التي تمكنه من حَمْلِهُم على حَمْلِ أرواحهم على أكفهم، ولن أتردد فى القول بأن قيادة جبهة التحرير وفرت هذا المبرر دون عناء - ومن يقول غير ذلك عليه بالقراءة الثانية للتاريخ - فإن تلك البيئة التي تحدث عنها أفورقي مراراً وتكراراً كانت حاضرة حتى لو لم تكن بنفس القبح، ولكي أزيدكم من الشعر عجز بيت فقط أقول: أنها لا تزال تمشي بيننا على قدمين.

ولكن بما أننا آلينا على أنفسنا بالاجتهاد فى قراءة هذه الأحداث قراءة سوية نقول:

تذرع أفورقي بكلمة حق أراد بها باطل (الاقصاء) طارحاً مشروعه الذي يحارب أسباب الاقصاء المتمثلة (من وجهة نظره) فى القبلية والجهوية والطائفية وبعض النزعات الشخصية، ونحن نؤكد بأن الكثيرين من المناضلين كانوا يدركون وجود هذه الأمراض لكنهم فى نفس الوقت كانوا مدركين بأن خطيئة الإنشاق لا تضاهيها خطيئة، بدليل أنهم بدءوا حراكاً سياسياً داخلياً لمحاربة هذه الظواهر - مجموعة الاصلاح بشقيها نموذجاً - خصوصاً وأن الشق الثاني للاصلاح كانت تقوده مجموعة تحمل نفس النُطَف التي يحملها أفورقي، فحزب العمل الذي تم تأسيسه فى العام 1968م (قبل ثلاثة أعوام وأكثر من حزب الشعب) كان يساري التوجه ماركسي المنهج، لكنه كان يعمل من داخل جبهة التحرير الارترية وله إيجابيات وسلبيات ليس هناك مجال للحديث عنها الآن، ويكفيه شرفاً بأنه لم ينشق، بل قاتل عن رؤيته الثورية من داخل التنظيم الأم، لذا فإن العقل السوى الخالي من الأجندات الخاصة يقول: كان على أفورقي أن ينشط داخل حزب العمل.

يقول كونيل فى احدى مذكراته: إن مجموعة أفورقي كانت ترى حزب العمل ذو توجه سوفياتي معتمداً النظرية الخروشوفية المحرفة والمنحرفة عن أفكار ماركس وانجلز ولينين وستالين - وكل شيوخ الطريقة - وأنهم قاموا باعتماد النظرية الثورية الماركسية اللينينية الماوية، والتي يعتبرها بعض مريدي الطريقة القادرية (عفواً الماركسية) التطور الثالث للنظرية، وبالنسبة لهم كان هذا سبباً كافياً لشق الصف الثوري، وهكذا كان مكتوباً على الشعب الارتري دفع فاتورة اختلاف (أحمد وحاج أحمد) عندما شَقاَّ قلبه (جبهة التحرير) فغسلاه بدماء الشهداء ثم وضعا فيه تلك العَلَقَة السوداء.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

إلى اللقاء... في الجزء القادم بمشيئة الله

Top
X

Right Click

No Right Click