الثورة الإريترية وحق تقرير المصير - الجزء الثالث والأخير
بقلم الأستاذ: حلمى شعراوى المصدر: السياسة الدولية
ورغم فشل الحركة الوطنية لطبقتها تلك فى تحقيق الاستقلال فى فترة الصراع الدولى حولها بين 1947ـ1952
استطاعت أن تنجز لإريتريا ما يلى:-
أ) طرح قضية استقلالها على الساحة الدولية فترة تصفية الاستعمار، مثل بقية المستعمرات فى العالم وكما خيبت قوى الحلفاء آمال شعوب مستعمراتها فى أنحاء العالم، فقد امتد ذلك لإريتريا، حين ضربت قضية استقلالها، بضمها لأثيوبيا، ونتيجة نفس المناورة الدولية ب ـ الاعتراف ـ بالهوية الإريترية ـ حتى من خلال قرارات ضمها لأثيوبيا الصادر عن الأمم المتحدة برقم 390/أ/5 فى 2 ديسمبر 1950، حيث ينص على أن ـ إريتريا ـ وحدة تتمتع بالحكم الذاتى فى اتحاد فيدرالى مع أثيوبيا، مع الاحترام الكامل للمؤسسات والتقاليد والأديان واللغات ـ وفى هذا الإطار، يمنحها حياة دستورية كاملة، حيث تستغل سلطتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وشئونها الداخلية، وتكون مع الإمبراطورية، مجل إمبراطورى بالتساوى، وتنتخب جمعيتها الوطنية رئيس مجلسها التنفيذى، وترفع علمها على أرضها، وتتخذ العربية والتجرينية لغتين رسميتين لها.
ج) اشترك ممثل الأمم المتحدة فى وضع دستورها على الأسس الديمقراطية الليبرالية الغربية فى فترة الانتقال بين 1950/ 1952 ومن خلاله دخلت ستة أحزاب سياسية الانتخابات فى مارس 1952، وحصلت فيها الكتلة الاستقلالية (باسم الجبهة الديمقراطية بقيادة الرابطة الإسلامية بعد قبولها قرار الأمم المتحدة) على الأغلبية (36 مقعدا من 68 مقعدا) بقراءة كل ـ أشكال السيادة ـ هذه، والقائمة على مفهوم وواقع عصرى بالغ الوضوح، يمكننا تصور الموقف الأثيوبى من هذا الوضع، حيث يسلمه له ـ المجتمع الدولى ـ وهو يعيش فى ظل دستور إمبراطورى تيوقراطى، يقوم على سلطة ـ البلاط والكنيسة ـ لذا فانه لم يكن متوقعا بأية حال، أن يتطور هذا ـ الاتحاد الفيدرالى ـ إلا بالسلب، وآلا أن تترك فترة الاتحاد تراثا هائلا من التناقضات بين المجتمعين وحتى يتجنب الإمبراطور الصراع المتوقع نتيجة لهذا الواقع، سارع بحل الأحزاب السياسية واتحاد العمال (1953) وإلغاء اللغات الوطنية، ثم إنزال العلم الإريترى (158)، ثم إلغاء الحكومة الإريترية سنة 1960، بل وأعلن إلغاء الفيدرالية نفسها، بكل منطلقاتها الدستورية سنة 1962، وإعلان الإقليم ـ إدارة إريترية ـ دون أية مؤسسات وانطلاقا من ذلك، اقر الإمبراطور نظاما عسكريا لحكم الإقليم، يقوم على حرق القرى، أو تسليح عصابات ـ للشفتا ـ ضد المناطق الخصبة لانتزاع ثرواتها، ثم توصل فى مرحلة إلى تسليح بعض القرى والقبائل لتصفية بعضها من الداخل مقدمات الثورة الإريترية ليست بداية الثورة الإريترية، هى تلك الانتفاضة العفوية التى أطلقت رصاصتها الأولى فى أول سبتمبر 1961، بعد فشل كل المحاولات السياسية مع النظام الإمبراطورى، لكنها تطور ديناميكى لتركيب تراكمى، بدأ بمعطيات العصر الاستعمارى، واتسق مع منجزات عصر التحرر الوطنى، من خلال ـ كيان سياسى ـ أكدته أحداث ما بعد الحرب الثانية على النحو الذى رأينا لذلك فانه من الخطأ معالجة القضية الإريترية، من خلال المحاججة التاريخية وحدها، أو التشبيه بهذه الحالة، أو تلك فى الواقع الأفريقى والعربى، وإنما الذى يجب أن نقف أمامه بموضوعية، هو النظر إلى معطيات الحركة السياسية الحديثة وحركة الثورة الإريترية، من حيث إنجازها لتكوين ـ الشخصية الإريترية ـ كما انه مما يفيد فى تأكيد موضوعية القضية الإريترية، النظر إليها فى مواجهة ذلك الكيان الإمبراطورى القائم على الغزو والضم من يو هامش، إلى مثليك إلى هيلاسلاسى، بمضمون اقطعى، وواقع اقتصادى متخلف، لم يتح لحركة وطنية أو ثورية أن تتبلور فى أثيوبيا لتشكل مركز حوار وحدوى ديمقراطى، يمكن أن يدخل مبكرا جدل ـ الثورة ـ فى هذه المنطقة، استعدادا لسقوط الإمبراطور وبعودة قليلة إلى الوراء قبل قيام الثورة المسلحة عام 1961، فانه يمكننا أن نتابع كيف تعاملت القوى الاجتماعية الإريترية المختلفة مع قضية الاستقلال، حتى وصل بعضها إلى قرار الثورة فالبرجوازية الإريترية التى مثلت الشخصية الوطنية مبكرا، قبلت أن نفوذ التطور الإريترى لبعض الوقت، فى ظل الاتحاد مع أثيوبيا، على أن تضمن لها صيغة الاتحاد الفيدرالى بقاءها على قمة الهرم الاجتماعى فى إريتريا، وهو موقف له أصوله القديمة، حينما قبلت ـ الوطنية الإريترية ـ أن تتعامل مع الإنجليز، أو مع إيطاليا، أو تعامل أجنحة منها مع أثيوبيا، مادامت تضمن نفس المصالح وقد لا يدهش القارئ أن يعرف ـ نقلا عن شخصية إريترية ـ أن الإنجليز هم الذين يسروا لمجموعة من قادة التجار المسلمين وأعيانهم، ظروف انعقاد المؤتمر الشعبى التأسيسى ـ للرابطة الإسلامية ـ فى ديسمبر 1946 وكان ذلك على اثر احتجاج هذه المجموعة الإسلامية على حضور وزير خارجية أثيوبيا أحد اجتماعات جمعية ـ حب الوطن ـ (ذات الأهداف الاستقلالية) واتفاقه مع مجموعة شخصيات مسيحية داخلها لتحويلها إلى ـ الحزب الاتحادى ـ أو ـ الانضمام ـ لصالح أثيوبيا لعل هذه التوجهات على قمة الحركة السياسية، أن تكشف أبعاد صرف القيادات للأهداف الشعبية ورغم الدور السياسى النشط لهذه القيادات، حتى عقد أول برلمان للبلاد سنة 1952، فإنها قبلت بالتسليم فى قضية الاستقلال الكامل، عندما ضمنت البقاء على قمة المجتمع بشروط الديمقراطية الليبرالية التى كفلها دستور الأمم المتحدة لإريتريا لقد كانت الفئات البيروقراطية المسيحية ترى، أن ـ سوق العمل ـ سوف يمتد أمامها فى إريتريا ليشمل أثيوبيا، إدارة وجيشا يحميها جهاز الكنيسة الدينى فى إريتريا وأثيوبيا على السواء وكانت البرجوازية التجارية الإسلامية، ترى أن ـ سوق التجارة ـ يمتد عبر حدود آمنة من أثيوبيا إلى السودان، تحت رعاية الإدارة الإمبراطورية المتخلفة التى تقف على رأسها فئة ذات تركيب إقطاعى عسكرى، لا تشغلها التجارة، ولا تشكل منافسا لها، وكان ذلك عقب حوالى عشر سنوات من الإدارة البريطانية (1941 ـ 1952) والحرب العالمية التى دمرت هيكل الاقتصاد الإريترى، على نحو ما تشهد بذلك تقارير تريكاسكيس ـ القو ميسير ـ السياسى لبريطانيا فى الإقليم طوال تلك الفترة، أن يصف تدهور أوضاع العمال والمهنيين والمثقفين وفقراء الفلاحين، وتوقف الاستثمار والمشروعات التى كانت تقوم بها إيطاليا للتوسع فى إريتريا الآمر الذى يمكن أن نفهم منه، مدى سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قبل الإدارة الأثيوبية، ومن ثم يمكن تصور ما وصلت إليه بعدها، مما وسع دائرة الاحتجاج الشعبى على تلك الإدارات الأجنبية لم تكن كل العناصر البرجوازية قد استسلمت للأوضاع الجديدة بعد تنفيذ قرار الفيدرالية، إنما بقيت هناك العنصر الوطنية الليبرالية الشريفة، التى حاولت أمام ما رأته من إجراءات تعسفية للإمبراطور ضد صيغة الاتحاد، أن يلجأ إلى معاودة الاتصال بالأمم المتحدة طلبا لتدخلتها، ولكن المنظمة لم تكن قادرة على اتخاذ أى موقف جديد، وعندما تجرأ وفد برئاسة محمد قاصى بالخروج سنة 1957 لعرض الآمر مباشرة على الأمم المتحدة فى نيويورك، اعتقلت السلطات أعضاء الوفد عند عودتهم ثم أعقب ذلك قيام عدد من الشخصيات السياسية، وفى مقدمتها إدريس محمد أم، وإبراهيم سلطان، وولد أب، ولد ماريام، بالهروب من إريتريا لعرض القضية على الرأى العام العالمى أوائل عام 1959، حيث حصلوا على حق اللجوء السياسى بالقاهرة ورغم الشعبية التى توفرت لهؤلاء الزعماء، والثقة فى إخلاصهم فى طرح القضية، إلا أن الشعب الإريترى، كان قد فقد الثقة فى أن يؤدى هذا الأسلوب إلى نتيجة لقد أحس بخيانة طبقتهم لمطالبه، خاصة وقد راحت وفود رجال الأعمال فى أسمره، تفاوض الإدارة الأثيوبية أوائل 1958 على إصدار قوانين جديدة للأجور، تضر بمستوى معيشة الطبقة العاملة، فانفجرت فى مارس 1958 الإضرابات العمالية الواسعة فى أسمره ومصوغ، مطالبة، الأولى من نوعها لنفس الغرض ولا يمكن أن نغفل أن ذلك قد طرح لدى الجماهير إمكانيات العمل الثورى، وان لم تكن هناك أية ثقافة سياسية منظمة طوال فترة عمل الإضراب التقليدية، وقد كانت قطاعات كبيرة تحل مشاكلها عن طريق الهجرة الجماعية للسودان، أو هجرة الأيدى العاملة إلى السعودية والكويت واليمن، ورحيل مئات الشباب بحثا عن التعليم فى مصر والمشرق العربى ومع ذلك، فقد كانت الظروف الخارجية حول إريتريا، تتيح لهذه القوى الشعبية أن تتطلع إلى الثورة، من اجل تحررها الوطنى ـ الديمقراطى، كانت ثورة 23 يوليو فى مصر، تصعد موقفها المعادى للاستعمار، وكانت قد أقرت بحق تقرير المصير للشعب السودانى ـ المجاور لإريتريا ـ فحصل على استقلاله أول يناير سنة 1956 وكانت الثورة الجزائرية، تلهب نفوس الشباب العربى من حولها، بل وفى العالم الثالث كله، وكانت الصومال ـ شريكة إريتريا فى الإدارة الاستعمارية الإيطالية من قبل، يؤهل للحكم الذاتى لتحقيق الاستقلال عام 1960، كل هذه العوامل دعمت قوة الرفض الإريترى للإجراءات التعسفية الأثيوبية، وللأساليب السياسية البرجوازية فى مواجهتها، ووضعت شعب إريتريا، وجها لوجه، أمام مطالب الثورة ومضمونها الشامل ولقد حاولت بعض قطاعات البرجوازية الصغيرة، أن تلعب دورا وسطا فى هذا الشأن، فراحت بعض عناصرها التى هاجرت للعمل فى السودان ـ متأثرة بالثقافة اليسارية المطروحة فى ارض الواقع السودانى الليبرالى ـ راحت تعمل على تنظيم حركة معارضة فى إريتريا باسم ـ حركة تحرير إريتريا ـ عام 1958 بقيادة محمد سعيد فاود، ومحمد صالح محمود، وقام تنظيمه للعمل السرى، على أساس خلايا سباعية، تضم بعض الموظفين والعمال والجند الإريتريين فى السودان، كما انتشرت بين رجال الإدارة والبوليس، وبعض قطاعات الشباب والعمال فى العاصمة والمدن الإريترية، إلا أنها انتهجت طريق العمل السياسى السلمى طويل المدى، ولم يتعد أسلوبها المطروح للتغيير، الأساليب الانقلابية، عن طريق النفاذ السرى إلى رجال الإدارة والجيش كما تأثرت ثقافتها السياسية، بالتعقيدات القائمة فى الواقع الإريترى حول وضع المسيحيين والمسلمين وخصائص الأفريقية والعروبة الخ مما لم يتح لهذه الحركة أن تشكل الاستجابة الصحيحة لطموحات الشعب الإريترى، رغم أنها كانت إضافة فعلية فى تاريخ الحركة الوطنية الإريترية، التى كانت تفتقد لفكريات التنظيم وقد ظلت ـ حركة تحرير إريتريا ـ تنحسر تدريجا مع قيام جبهة تحرير إريتريا، حتى انضمت آخر عناصرها إلى أحد أجنحة الجبهة سنة 1970 قيام جبهة تحرير إريتريا:
مع تصاعد إرهاصات الثورة الإرترية بالداخل، ومحاولة السلطات الأثيوبية التعامل مع بعض عناصر الصفوة السياسية من جهة، ونشاط الكنيسة مع الصفوة الثقافية خاصة من أبناء المرتفعات وأسمره من جهة أخرى، وإغراء سوق العمل والتجارة للقطاعات الأخرى من المتعلمين والتجار، اصبح تطلع جماهير إريتريا نحو أبنائها فى العالم الخارجى، للتعبير عن أشواقها للثورة، متسقا مع حقائق الموقف، وكانت العناصر الطليعية فى هذا الصدد، تعيش فى الدول المجاورة وبلاد الشرق الأوسط، حيث يجدون فرص العمل أو التعليم وكانت اكثر الأعداد من هذه العناصر فى مصر والسودان كان طبيعيا إذن أن يجتمع أحد عشر شابا بالقاهرة فى السابع من يوليو 1960 ليتفقوا على تأسيس ـ جبهة تحرير إرتريا ـ ورغم ما يتردد كثيرا عن التوجهات الإسلامية التى حكمت العناصر المؤسسة للجبهة، أو تأثير الشخصيات السياسية الإسلامية القديمة عليها، إلا انه بمراجعتى لهذه النقطة مع بعض من حضروا الاجتماع التأسيسى، أشار معظمهم إلى انه رغم سيادة الاعتبارات الإسلامية على الرأى العام فى مصر، والمنطقة العربية تجاه القضية الارتيرية، ووجود معظم أبناء إريتريا فى الأزهر، وندرة وجود المسيحيين الإريتريين بينهم فى القاهرة، فقد كانوا على وعى بهذه النقطة، مشيرين إلى انه ليس صدفة أن معظم الشبان الأحد عشر كانوا من طلاب أو خريجى الجامعات المصرية وليس الأزهر ـ كما لم يحضر من السياسيين القدامى إلا إدريس محمد آدم، رئيس البرلمان الإريترى السابق وأكثر الزعماء شبابا وليبرالية فى ذلك الوقت، حيث استبعدا هؤلاء الشبان، منذ البداية، إبراهيم سلطان سكرتير عام الرابطة الإسلامية، وان لم ينجحوا فى التأثير على الموقف المتردد لولد آب ولد مريم الذى ارتبط كان له تحفظاته منذ البداية على قيادة إدريس محمد آدم حاولت المجموعة الأولى من مؤسسى الجبهة، أن تتغلب أيضا على الاعتبارات الإقليمية، بتمثيل أبناء الأقاليم المختلفة فى المجموعة التأسيسية إزاء أغلبية أبناء مديرات الغرب ورغم أن التوجه الحاكم فى نشأة الجبهة هذه، هو التغلب على نقص التنظيم السياسى، وغياب الدليل النظرى للثورة، إلا أن أول دستور للجبهة واوجه نشاطاته الأولى، لم تستطع إلا أن تظل حبيسه رد الفعل العفوى لفشل ـ العمل السياسى السلمى ـ الذى استوعب القضية لحوالى عشر سنوات خلت لذا ينص البيان الأول ـ الدستور بقوة على استبعاد ـ الطرق السلمية واعتناق منطق الثورة ـ ، كما انه يتجاوز المطالبة بمراجعة قرارات الأمم المتحدة، وخرق الإمبراطور للصيغة الفيدرالية، إلى تحديد الهدف ـ بتحقيق الاستقلال، وإقامة ـ الجمهورية الإريترية الديمقراطية ـ ثم يعود تحت بند الوسائل لينص على ـ العمل السرى الثورى العنيف ـ وتوعية الشعب الإريترى بذلك، تحت ـ قيادة موحدة ـ أصبح ـ العنف الثورى ـ إذن هو أداة الشخصية الإريترية الجديدة، ولذا أصبح ـ المجلس الأعلى للثورة ـ هو الجهاز الحاكم، والأجهزة التنفيذية الأخرى أدوات ثانوية كما طرحت فكرة التشكيلات الخماسية أو السباعية أساسا قاعديا للتنظيم، وإن سيطر عليها المفهوم العسكرى لفترة طويلة فى تاريخ الجبهة ومع انطلاقه الرصاصة الأولى فى إريتريا فى أول سبتمبر 1961، تكشفت بعض الحقائق الأخرى فى الواقع الإريترى، ظلت تؤثر فيه حتى أوائل السبعينات تقريبا فالعمل العسكرى يتقدم العمل التنظيمى السياسى، والكوادر العسكرية تحتل المقدمة لفترة طويلة، سواء كانت من اتباع حامد إدريس عواتى صاحب الطلقة الأولى وقائد الشفتا المضادة للشفتا الأثيوبية (فرق الهجوم على القرى للسلب والنهب والإرهاب)، أو من الجند الإريتريين فى الجيش السودانى من بقايا ـ أورطه العرب الشرقية ـ أثناء الحرب العالمية الثانية، وهم من لا تتجاوز ثقافتهم العسكرية أو السياسية رتبة صف الضباط وكان النموذج الثورى، هو ثورة الجزائر وعملياتها العسكرية المتصاعدة ضد فرنسا، والتى تلهب خيال الشباب فى المنطقة، والحماس الوطنى كما تلهب ممارسات ثورة يوليو فى مصر الغنية بالثقافة السياسية المعادية للاستعمار، والفقيرة فى تجربة التنظيم الثورى الذى يمكن أن تستفيد منها فئات الإريتريين فى مصر إذن فنحن أمام تنظيم وطنى للثورة، يعتمد على الحركة العفوية للجماهير ضد الوجود الأجنبى الأثيوبى، مع توجه لتحقيق الوحدة الوطنية تحت مظلة الثورة، دون خبرة محددة فى تنظيم العنف الثورى وبرامجه الاجتماعية، وخاصة للكوادر الطليعية المثقفة سياسيا ورغبت فى العمل الوطنى الشامل، لم تتبن الجبهة أسلوب تحرير المناطق تدريجا أن كان ذلك قد تحقق تلقائيا.
لكن على المستوى الوطنى العام وفى ضوء الملاحظات العامة هذه، يمكننا أن نقسم المراحل التى تجاوزتها الثورة الإريترية على النحو التالى:-
1. مرحلة التعبئة العضوية من 1961 - 1965:
وهى مرحلة إثارة المشاعر الوطنية الموحدة ـ إطلاق الرصاصات الأولى، وإعلانا للعنف الثورى فى اتجاه إريتريا، مع تركيز واضح فى المنطقة الغربية قامت الجبهة بتعبئة الإريتريين بالخارج حول نفس الهدف، وجمع التبرعات منهم، لشراء البنادق الأولى مع حملة إعلامية عن بدء الثورة، تركزت فى الدول الصديقة بالشرق الأوسط، واستجابت لها أساسا بعض الدول الإسلامية (السعودية وباكستان)، والعربية (سوريا والعراق ومصر والصومال)، كل من وجهة نظره وقد قاد هذه المرحلة المجلس الأعلى للثورة الأولى ـ دون إتمام التنظيم الهيكلى للجبهة ـ بقيادة إدريس محمد آدم.
2. مرحلة الثورة المسلحة الشاملة 1965-1969:
وهى المرحلة التى شهدت انتقال الثورة من حرب العصابات المحدودة، إلى إنهاء الجماهير الواسعة للكفاح المسلح، ونجاح الجبهة فى تعبئة العناصر العمالية والمثقفة فى الخارج وتأثرت الجبهة فى تنظيم استراتيجية القتال، بالتجربة الجزائرية فى تقسيم ـ الولايات ـ، مع وجود ـ القيادة الثورية ـ العسكرية قرب حدود إريتريا ـ فى كسلا ـ وقسمت إريتريا فى ضوء ذلك إلى خمس مناطق عسكرية ذات قيادات وأنشطة مستقلة، وان كان النضال المسلح قد اتخذ أبعاد أتوسع فى هذه المرحلة، بانتماء مناطق المرتفعات (ذات الأغلبية المسيحية إلى المعركة)، إلا أن هذا التقسيم، كما تكشفت عنه الأمور بعد ذلك، قد كرس بعض الجوانب الإقليمية والطائفية فى تنظيم الجبهة وقد حاولت القيادات الشابة الجديدة فى الكفاح المسلح الإرترى، تجاوز هذه السلبيات، بالدعوة إلى إقامة قيادة عسكرية عامة موحدة للجبهة لكن الروح الإقليمية والطائفية، تعود للتأثير على هذا الاتجاه نفسه بالسلب، فنجد أن ثمة اجتماعات جانبية للمنطقة الأولى والثانية وأخرى للمنطقة الثالثة والرابعة والخامسة (مؤتمر عنسبا للقيادة الثلاثية)، حتى ينعقد مؤتمر ـ ادونجا ـ العسكرى سنة 1969 للقيادات الخمس ورغم أن مؤتمر ـ اونجا ـ نفسه قد استغرقته النشاطات والانقسامات العسكرية، مع جهد اقل لتعميق الدليل النظرى الثورى للحركة، إلا أن ادونجا تبقى فى النهاية رمزا لبدء تحكم قيادات الداخل فى مصير الثورة ورمز الوحدة الوطنية بين قوى الثورة الطائفية والإقليمية والاجتماعية على السواء، وان لم تقض على الصراعات نهائيا وفى هذه الفترة، بدأت الثورة الارتيرية تؤكد وجودها على الساحة الدولية، بالاتصال بالدول الاشتراكية ودول العالم الثالث التقدمية على نحو ما سنرى عند دراسة علاقاتها الخارجية (الحصول على أسلحة من الصين وسوريا والعراق)، بما يخرجها من إطار التوجهات الدينية، أو الانحسار فى عالم الشرق الأوسط وحده.
3. مرحلة تجسيد الثورة 1969-1971:
حيث أصبح التوجه الرئيسى، هو تكريس نهج حرب التحرير الشعبية ذات القواعد الثابتة، والتى لا تقتصر على أعمال حرب العصابات فان الثورة الإريترية أصبحت أمام مفترق طرق رئيسى لاختيار منهج الثورة الثابت من جهة، وتأكيد طبيعة القيادة التى تتفق وهذا النهج من جهة أخرى وبقدر ما أصبح هذا الاتجاه داخل الثورة، هو تجسيدها الحقيقى على الأرض الإريترية، بقدر ما آخذت الانقسامات تتجدد وتشتد، استعدادا للمؤتمر الوطنى العام الذى اقترح اجتماع ـ اودنجا عقده فى اقرب وقت وقد بدأت القوى الثورية بالتخلص من المجلس الأعلى للثورة، الذى يقودها من الخارج، واختارت قيادة عامة من الميدان، تأكيدا لفكرة الوحدة والأعداد للمؤتمر العام المقترح وكانت المنطقتان الأولى والثانية ـ غرب إريتريا ذات نفوذ اكبر داخل القيادة العامة، وفى المقابل، كانت هناك ـ القيادة الثلاثية ـ التى احتفظت بنفسها ـ رغم وجود القيادة العامة، حتى انشقت باسم ـ قوات التحرير الشعبية ـ ولا اتفق هنا مع الذين يرون أن الصراع الديمقراطى كان أفقيا بين القوتين، كما ينمو بعض الباحثين، ليجعلوا القيادة العامة على يمين الثورة، وقوات التحرير الشعبية على يسارها، فقد أتيح لى قدر وافر من الاتصال بعناصر الثورة الإريترية، لابد أن تتوصل إلى أن الصراع كان رأسيا داخل جناجى الجبهة بين الوطنيين من جهة، والديمقراطيين اليساريين من جهة أخرى، ومازال الصراع كذلك حتى الآن وقد أدت هذه الصراعات إلى تعطيل المؤتمر الوطنى العام حتى آخر سنة 1971، وهى فترة تبلورت فيها الانقسامات على نحو لا يتسق مع كثير من الادعاءات المطروحة لتحقيق وحدة الثورة وتقدمها الثورى فى نفس الوقت فالقيادة العامة تمسكت بمقررات ـ ادوبحا ـ ، واللجنة التحضيرية المشكلة عن طريقه للمؤتمر الوطنى العام، متجاهلة متطلبات الحوار مع القيادة الثلاثية، التى اصبح وجودها باسم قوات التحرير الشعبية حقيقة واقعة، بسبب خلافات ليست جوهرية فى النهاية بدليل ما توصل إليه مؤتمر معسكر عواقى فى فبراير 1971 تحت إشراف القيادة العامة نفسها وكانت القيادة الثلاثية، أو قوات التحرير الشعبية، تكرس الانشقاق من خلال مؤتمرات محدودة لأجنحتها سواء أمانتها العامة التى عقدت فى عمان فى نوفمبر 1969 بقيادة عثمان سبى، أو مؤتمر قوات التحرير العسكرى فى سيدوحا غيلا بدنكاليا فى يونيو 1970 بقيادة رمضان واسياسى وسبى نفسه ومن قبل ذلك، صدرت وثيقة اسياسى افورتى ورفاقه المسيحيين، باسم ـ نضالنا وأهدافه ـ تكشفت عن اتجاه ثالث وخاص داخل قوات التحرير الشعبية ـ والذى يتابع وثائق كل هذه الاجتماعات على جانب قوات ـ الشعبية ـ ، لابد أن يتحفظ على أى تصنيف أفقى لأجنحة الجبهة على نحو ما أشرنا والذى يهمنا فى هذه المرحلة، هو أن الثورة الإريترية قد تجسدت وسط جماهيرها رغم هذه الانقسامات، وحصلت فى هذه الفترة على مساعدات خارجية كبيرة، من ثورة مايو فى السودان 1969 /1970)، وثورة الفاتح من سبتمبر فى ليبيا، واعترفت بها منظمة التضامن الأفريقى الآسيوى، وتوفرت لها كوادر عسكرية مدربه على أعلى مستوى فى بعض البلاد العربية والاشتراكية وبدأ التثقيف السياسى والأيديولوجى بين التنظيمات الجماهيرية فى إريتريا (داخل جناحى الجبهة) كما أسهمت الحركة الطلابية الإريترية فى هذه الفترة بجهد ملحوظ.
4. مرحلة التناقضات والتحديات 1971-1975:
دخلت فصائل الثورة الإرترية السبعينات وهى مهيأة ـ رغم التنوع التنظيمى البين على ساحتها ـ لإنجاز أهداف الثورة الارتيرية، ووضعت كل فصيلة برامجها ومؤسساتها التى تحقق أهدافها ولابد للدارس هنا أيضا، أن يقدر لثورات العالم الثالث الصعوبات الناشئة عن موروثها التاريخى من الصراعات القبلية والطائفية والإقليمية، ومن ثم لا تصبح الثورة الارتيرية شذوذا فى هذا السباق ولكن الذى يطالع البرنامج السياسى، ومنطلقات جبهة التحرير الارتيرية الصادرة عن مؤتمرها الأول أكتوبر/نوفمبر ـ 1971، أو الثانى مايو 1975، أو بيان قوات التحرر الشعبية التأسيسى 1970، ثم برنامجها للتحرر الوطنى الديمقراطى 1972، لا يجد فيها انعكاسا مباشرا لحجم الانقسام الواقع فى الساحة الارتيرية، فهى برامج وطنية ديمقراطية، قد نتعرض لملامحها بعد قليل تبشر بإمكانيات للمستقبل، اكثر مما تعكس ماضى الصراعات المر فى إريتريا لقد بلغت هذه الصراعات حد القطيعة الكاملة بين جناحى الثورة، ليصبحا فى الواقع تنظمين فى الساحة، وهنا يتمسك المجلس الثورى لجبهة تحرير إريتريا بقرارات مؤتمرات الجبهة، عن أن الساحة لا تتحمل سوى تنظيم واحد، يحدد الحوار الديمقراطى داخله، أبعاد الصراع الاجتماعى القائم، وحين لا تقبل قوات التحرر الشعبية هذه المقولة، تشهد الساحة الارتيرية اقتتالا وطنيا دمويا، تحت شعار تصفية الثورة المضادة، التى قصد بها قوات التحرير الشعبية مما كان له بين 1972 و 1974 اثر بالغ على فكرة الوحدة الوطنية نفسها حتى الآن كانت ـ قوات التحرير الشعبية ـ ، بما فيها العناصر الديمقراطية، تتمسك بموقفها الرافض للمجلس الثورى، إلى حد القبول بالتحالف الكامل مع البعثة الخارجية بقيادة عثمان سبى وعناصرها فى الداخل، رغم كل توصيفها اليمينى لديها، مفسرة ذلك بالحاجة إلى المساعدات المادية من الخارج، والاستفادة من اتصالات سبى الواسعة أما فى الداخل فقد طرحت فكرة الوحدة الوطنية فى ظل الجبهة المتحدة لجمع شتات الساحة الإريترية ولعل هذه التناقضات البالغة بين قوى الثورة الإريترية، هى التى أثرت على قدرتها فى مواجهة التحدى التاريخى لها، بسقوط الإمبراطور هيلا سلاسى فى سبتمبر 1974، دون قدرة على حسم الموقف ساعتها، مما اضطر جناحا الثورة، إلى أن يغامرا فى هجوم مشترك على أسمره أوائل 1975، وان حقق للثورة بعض الأهداف الإعلامية والعسكرية، فانه لم يحقق كل أبعاده، وبات على الثورة بعد ذلك أن تبقى جسما صلبا فى المناطق الريفية المحررة، يواجه تحدى النظام الجديد له فى أثيوبيا ولأن الثورة أصبحت فى إرتريا، كما سبق القول، فإنها شهدت لدى مختلف الفصائل، إنجازات أهم من العمل العسكرى وحده لقد كان للتأثير المتزايد للعناصر الديمقراطية الثورية فى هذه الفترة، نتائجه الإيجابية الملموسة، فقد تأسست على الجانبين مدارس الكوادر ذات المناهج الثورية العلمية، كما اتجهت فصائل الثورة للعناية بالتنظيمات الجماهيرية، فنجح المجلس الثورى فى إقامة اتحاد عام ديمقراطى لعمال إرتريا، وكذا الاتحاد النسائى، ويشرع حاليا فى إقامة اتحاد الفلاحين، وفى نفس الوقت، تبدى القوات الشعبية، اهتماما بهذه التنظيمات فى إطارها السياسى الداخلى، وكذلك أصبحت ثمة إدارة ثورية بالمناطق المحررة، تعكس البرامج الاجتماعية المطروحة ورغم إنجازات الثورة فى هذه الفترة على صعيد الجماهير الارتيرية، وحرب التحرر الشعبية الشاملة، إلا أن الصراعات الداخلية آثرت كثيرا على علاقتها الخارجية، فقد حاولت ـ البعثة الخارجية ـ لقوات التحرير الشعبية بقيادة سبى، محاصرة المجلس الثورى بجهازها الإعلامى الضخم وبقدرتها على الحديث ـ بلغات سياسية ـ متعددة بتعدد العواصم العربية والإسلامية التى تعاونها، مما أساء كثيرا لتنظيم الجبهة عامة، والى قوات التحرير الشعبية المتحالفة معها على وجه الخصوص، حيث كانت عناصرها الثورية ـ تضمر ـ لغة راديكالية مختلفة تماما بقيادة عناصر الداخل (رمضان/اسياسى) حتى انشقت عليها مؤخرا.
5. مرحلة المواجهة المصيرية 1976-1977:
تواجه الثورة الإريترية مصيرها الحقيقى فى هذه الفترة فنحن أمام محاولات مجهدة من جانب بعض عناصر الثورة أو أصدقائها، لحسم الخلاف داخلها، مع أمل فى أن يحسم الخلاف لعصب الثورة الحقيقى، وتوجهاتها الثورية الأصيلة، ولكن الحوار الديمقراطى، لم يؤد إلا لمزيد من الانقسام فقد راحت بعض قيادات قوات التحرير الشعبية، تتحاور مع المجلس الثورى فى مارس 1976 بالخرطوم، بهدف تحقيق الوحدة، وتشكل وفد مشترك بالفعل من احمد ناصر وعثمان سبى، ليقوم بجولة فى الدول الصديقة، ولكن قيادات قوات التحرير الشعبية بالداخل، اعتبرت أن الحوار لا يمثل وجهة نظرها، وأسقطت البعثة الخارجية كلها من حسابات الثورة، وقرر الفيصل الراديكالى إعلان نفسه جبهة مستقلة باسم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بقيادة رمضان محمد نور واسياس افورقى وقد أوقف هذا الانشقاق الجديد، أى حوار على الساحة الارتيرية منذ ذلك الحين، واحتاج الآمر لمرور عام كامل، حتى عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها فى يناير 1977، وحددت برنامجها، كما عقدت قوات التحرير الشعبية بقيادة سبى، مؤتمرها فى مارس 1977وحددت برنامجها وفى هذه الفترة، يضغط النظام الجديد فى أثيوبيا لطرحه القضية كمشكلة قومية داخلية، وتزايد الصراع الدولى حول أثيوبيا نفسها فيتعقد الموقف أمام الثورة الارتيرية، التى ترفض الطرح الأثيوبى رفضا مطلقا وبتناقض السياسات العربية كذلك تجاه إرتريا ـ وهى حلفها الأساسى حتى الآن ـ فإنها تعرض الثورة الارتيرية لمأزق بالغ الخطورة ومع ذلكن ففى هذه الفترة، حققت الثورة أنجزت تقدمية هامة فالمجلس الثورى يضاعف من عمليات بناء الميلشيا الشعبية، ويدعم المنظمات الجماهيرية، ثم يدفع بقواته لتحتل ـ تسيبنى ـ بمشروعاتها الزراعية الغنية، وتكسر معسكر ـ على قدر ـ الحصين فى غرب إرتريا، والجبهة الشعبية تتقدم إلى ـ نقفة ـ فى مديرية الساحل، ثم إلى كرن وسط البلاد وهنا تتحرك قوات التحرير الشعبية ـ كقوة ثالثة ـ تحاول أن تكون فى الساحة بما لديها من ثروة فى السلاح، فتكثف هجماتها قرب اغوردات (غرب) وان كانت هذه المنطقة هى منطقة نفوذ تقليدية لجبهة تحرير إرتريا الملامح الرئيسية لفصائل الثورة الإريترية عام 1977 لابد ـ بداءة ـ من التأكيد على نقاط الاتفاق، حتى نأتى إلى نقاط الاختلاف بين هذه الفصائل ولابد من الاعتراف هنا، أن الاتفاق تام حول.
أن مطلب الاستقلال الكامل مطلب أساسى، وأن المواجهة مع أثيوبيا موجهة مع استعمار أجنبى ـ ليست مجرد صراع من اجل حقوق قومية تنشد الثورة نيلها، وأن حرب التحرير الشعبية، هى الأسلوب الوحيد للتحرير الشامل، وأن اختلفوا فى صيغة متطلباتها الاجتماعية، وان الوحدة الوطنية على الساحة الارتيرية، مطلب جماهيرى ملح، ينبغى أن يعمل له الجميع، وان اختلفت وسائل تحقيقها ولابد ـ ثانيا ـ من القول أن القوة الأساسية للثورة الارتيرية الآن، هى جبهة تحرير إرتريا بقيادة المجلس الثورى والجبهة الشعبية لتحرير ارتيريا، وانهما يعترفان لبعضهما بعضا بهذا الوضع أما قوات التحرير الشعبية، فإنها فى وضع الورقة الثالثة التى تجرى الحوار من حولها داخل الجبهات الأخرى لتحديد وضعها فى مشروع الوحدة الوطنية ولابد ـ ثالثا ـ من تفهم الخلاف من خلال طرح هذه الفصائل لآرائها، ومن خلال ممارساتها أيضا إزاء القضايا المختلفة، حتى نستخلص تلقائيا نقاط الخلاف وفى هذا الطرح، لابد أن نقرأ جيدا توجهاتهم الاجتماعية وبرنامجهم للأراضى المحررة، وفكرهم عن شكل الدولة المقبل، والرأى فى شكل الوحدة الوطنية وطبيعة العلاقات الخارجية للتنظيم بالكتل الدولية ولنقترب فى ضوء ذلك من الفصائل الثلاث للثورة:-
1. جبهة تحرير إريتريا ـ المجلس الثورى:
جسم الثورة الرئيسى وجبهتها الوطنية الشعبية العريضة، حيث تمثل استمرارية الجبهة التى نشأت منذ 1960 يقود مجلسها الثورى حاليا احمد محمد ناصر (30 سنة) ونائبه إبراهيم توتيل وقد شكل المجلس الثورى المنتخب بعد المؤتمر الوطنى الثانى عام 1975 والمكون من 41 عضوا، لجنته التنفيذية من 9 أعضاء، من العناصر الوطنية والديمقراطية وتتمتع الجبهة باستقرار ملحوظ، وتقاليد ديمقراطية استقرت من خلال عقد مؤتمريها فى 1971ـ1975 ونشأ فى ظلها اتحاد العمال الإريترى والاتحاد النسائى والطلابى وتولى أهمية كبيرة حاليا لتنشيط المنظمات الجماهيرية، وتكوين الميليشيا الشعبية، وتعتمد أسلوب التحرر الشامل، ولذا تنتشر قواها فى معظم أنحاء إريتريا وقد نجحت خلال عام 1977 فى تحرير مدينة نسينى فى أقصى الغرب، وهى ذات أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة وهى تركز على بناء الوحدة الوطنية، وتقر التجريبية والعربية، باعتبارهما لغتان رسميتان لإريتريا وتركز الجبهة فى تحليلها السياسى، على عدائها للاستعمار الأثيوبى وكانت تعى جيدا علاقة النظام الإمبراطورى بالإمبريالية الأمريكية، كما تقدر الجبهة، الخطوات الاجتماعية التقدمية التى يقوم بها النظام الحالى، لكنها تتهمه بالفاشستية فى موقفه من القوميات وقضية إريتريا، وتسمى العمال والفلاحين ـ القوى الأساسية للثورة، وتقيم اللجان الشعبية فى المناطق المحررة من ممثلى الفلاحين والميليشيا والمجلس الثورى والمنظمات الجماهيرية، وتبين برنامجها الاقتصادى للدولة الإريترية المستقبلة، خط التطور اللارأسمالى، بعد إزالة هيكل الدولة القديم وترى الجبهة أنها الممثل الوحيد للثورة، مع استعداد للحوار مع الفصائل الأخرى (الجبهة الشعبية وقوات التحرير) لتحقيق الاندماج إذ ترى أن التناقضات ثانوية بين القوى الثائرة فى الساحة وتلقى الجبهة تأييدا متزايدا من العمال والطلاب الإريتريين فى المنطقة العربية، رغم النشاطات المعدية لخطها بينهم من ـ القوات الشعبية، وتقيم علاقاتها الخارجية كحركة تحرير وطنية ذات صلة عضوية وحضارية وثقافية وتاريخية وسياسية بالأمة العربية، تأكيدا للنضال المشترك معها ضد الإمبريالية والصهيونية وعلى ذلك، فإنها ـ تزيد التحامها مع الدول العربية والأفريقية التقدمية ـ وتلتزم قيادتها جيدا بهذا الخط حتى الآن، رغم كل التطورات المعاكسة لذلك من حولها وتعمل الجبهة من منتصف الستينات، على الاقتراب من الدول الاشتراكية، وتضع دعم الصلة مع المنظومة الاشتراكية والديمقراطية فى العالم، من أهدافها الرئيسية واجهت الجبهة، لفترة، ضغط التيار الإسلامى والعروبى، نتيجة مزايدات أطراف أخرى فى الساحة، ولكن التطور الذى شهدته فى السبعينات، نتيجة تنشيط تنظيماتها فى منطقة المرتفعات وبين الشباب الإريترى الثورى الذى عبر إليها من السحرة وأديس أبابا كما أن زخم التثقيف السياسى الثورى يعمق التيار الديمقراطى داخلها بشكل واضح، ويجعل لهذا التيار ثقله الحقيقى، بعد أن كان ـ صفويا ـ لفترة طويلة من قبل ويسقط اغردات (غرب) وسراى (المرتفعات) فى يد قوات الجبهة فى منتصف 1977 فإنها تصبح فى مركز قوة لا يستهان به.
2. الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا:
تكونت عبر مجموعة من الإنشقاقات داخل جبهة تحرير إريتريا منذ عام 1969، وحملت اسم ـ قوات التحرير الشعبية ـ منذ عام ـ 1970، حيث كانت تضم مجموعة المسيحيين اليساريين، بقياده اسياسى افورقى، ومجموعة عوبل الوطنية المنشقة عن القيادة العامة سنة ـ 1969، والمجموعات العروبية والإسلامية التابعة للبعثة الخارجية بقيادة عثمان سبى، فضلا عن بقايا ـ حركة تحرير إريتريا ـ التى وأعلنت قيادتها الانضمام إلى قوات التحرير، باتفاق مع عثمان سبى سنة 1970 ونتيجة اختلاف النهج السياسى والفكرى بين هذه القوى، انفصلت القوة الأساسية فيها من العناصر المسيحية والإسلامية الديمقراطية، عن جماعات عوبل والبعثة الخارجية سنة 1976، وأعلنت قيام الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، بعد عقد مؤتمر عام فى يناير 1977، نظم أجهزة الجبهة الجديدة بقيادة رمضان محمد نور واسياسى افورقى وقد انتخب مؤتمرها الأول لجنة مركزية من 37 عضوا، ومكتبا سياسيا من 11 عضوا، انتخب الآمين العام (رمضان محمد نور) والأمين المساعد (اسياسى افورقى) وتبرر الجبهة الشعبية تحالفاتها السابقة مع ما اسماهم مؤتمرها الأخير ـ ممثلى الاتجاه الرجعى اللاوطنى ـ يقصد البعثة الخارجية ممن كانوا يتولون تمثيلها الخارجى كله، ويحتلون نصف مقاعد مجلس قيادتها فى الداخل تقريبا لمدة ست سنوات، بأنه كان بهدف الحصول على المساعدات الخارجية، والخروج من حصار جبهة تحرير إريتريا وإجراءاتها التصفوية ضدهم ويتفق برنامجها مع جبهة التحرير، فى العداء للنظام الأثيوبى والإمبريالية، وتنزع إلى إقامة حكم ديمقراطى شعبى، يمثل مصالح الجماهير من العمال والفلاحين والقوى الديمقراطية وتؤكد الجبهة الشعبية على احترام القوميات التسعة القائمة فى إريتريا ثقافيا ولغويا، ولا تتفق مع جبهة التحرير فى إقرار اللغة العربية والتجرينية وحدهما كلغتين رسميتين لإريتريا وتنتهج أسلوب حرب التحرر الشعبية التدريجية ليمكنها إقامة قواعد ثابتة للعمل الاجتماعى المكثف وقد أتاح لها ذلك، التركز فى مديرية الساحل الشمالية وبعض مناطق المرتفعات، وإسقاط نقفة فى الساحل وكرن فى الوسط وتوجد بين التنظيمات الجماهيرية والسياسية، أعداد لإقامة سلطة شعبية ديمقراطية فى المناطق المحررة أو إريتريا المستقلة وهى تفصل هنا بين السلطة السياسية الشعبية والتنظيم الاقتصادى، إذ ينص برنامجها على السماح للإريتريين غير المعادين للتحرر الوطنى، بامتلاك الشركات والمصانع الصغيرة وتركز الجبهة على أهمية الوحدة الوطنية، ولكن من خلال الحوار مع ـ جبهة التحرير ـ فقط، وليس القوات الشعبية، وفى إطار ـ الجبهة المتحدة ـ التى تمهد للوحدة الاندماجية، وهو ما يجعل جبهة التحرير متحفظة على هذه ـ المرحلة الانتقالية ـ ما دام انه لا تناقض فى الهدف النهائى وتلقى الجبهة الشعبية تأييدا مكثفا فى عدن والكويت، كما تؤيدها مجموعات كبيرة من الطلبة الإريتريين فى أوروبا الغربية، خاصة من يحملون اسم مجموعة ـ إريتريا للتحرير ـ أما برنامجها، فيعتبر النضال الإريترى ـ جزءا لا يتجزأ ـ من نضال آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ضد الإمبريالية والعنصرية، دون تحديد لأية دائرة معينة بذاتها، وتحاول الجبهة على هذا الأساس أن تقدم نفسها باعتبارها القوة التقدمية الوحيدة على الساحة التى يمكنها اللقاء بالقوى التقدمية الأفريقية والعربية، وقد كانت إشارات النظام الأثيوبى عن لقائه مع ـ فصائل ثورية فى إريتريا ـ لحل المسألة القومية، أن تعنى اتجاهه للتفاهم مع الجبهة الشعبية حول حل سلمى للمشكلة، إلا أن مؤتمرها الأخير رفض الطرح الأثيوبى تماما قوات التحرير الشعبية.
كان ذلك هو الاسم الذى يجمع القوى المتنوعة خارج جبهة إريتريا حتى أوائل سنة 1976 إلا انه بانفصال قوى أساسية منها لتكوين الجبهة الشعبية، بقيت مجموعة عوبل العسكرية القديمة، وعناصر عروبية وإسلامية أخرى تحت قيادة ـ البعثة الخارجية، أو الأمانة العامة القديمة بزعامة عثمان صالح سبى، ومحمد سعيد ناود وإذ لم تكن قوات التحرير الشعبية تقوم على هيكل هرمى مركزى أساسا، اعتمادا على حركة القيادات الداخلية والخارجية غير الموحدة فى خطها الفكرى أو الإعلامى أو السياسى الخارجى، فقد واجهت ـ قوات التحرير الشعبية ـ اضطرابا شديدا بهذا الانقسام، حتى استطاعت عقد مؤتمر تنظيمى لها قرب حدود السودان شمال إريتريا فى مارس 1977 وقد اختار المؤتمر مجلسا مركزيا من 27 عضوا، ولجنة تنفيذية من 9 أعضاء، برئاسة عثمان صالح سبى، وتتبنى قيادة قوات التحرير نهج الحصول على اكبر مساعدات خارجية من ـ جميع الأصدقاء ـ لمقاومة أثيوبيا، وهو نهج يجعل سلوكها الداخلى عسكريا فقط إلى حد كبير ولعل ذلك أيضا هو سبب قيام برنامجها الاجتماعى على أساس ـ توفير الخدمات ـ للمناطق المحررة أو اللاجئين الإريتريين، بإقامة الجمعيات التعاونية، لأن ـ التعاون هو شعار اليوم ـ كما جاء بنص قرارات وتوصيات مؤتمرها الأول ويرى عثمان سبى، أن العداء لأثيوبيا فى إريتريا، عداء رئيسى يقتضى مهاجمة الدول الاشتراكية وكوبا التى تساعده وقد كتب بذلك للدول العربية الإسلامية جميعا، كما كتب بذلك للرئيس كارتر، وقام بزيارة إيران مؤخرا، لتنظيم مواجهة هذا الخطر وهو يقيم علاقات وثيقة مع السعودية، ودول الخليج التى ترى أهمية مساعداتها المادية للثورة، لمواجهة مأزقها الحالى وهو يرفع شعار الوحدة الاندماجية الفورية مع كل القوى فى الساحة، ولكن الحملات الطائفية والأيديولوجية التى تثيرها قوات التحرير الشعبية تعرقل اتفاق جبهة التحرير والجبهة الشعبية، على طبيعة الحوار، معه بهدف كسب قواعده ومن المثير أن بعض الدول العربية ذات الصلة الحيوية بالثورة الإريترية، أصبحت تضع ـ الوحدة الفورية ـ هذه مع قوات التحرير الشعبية، فى مقدمة تعاملاتها مع الجبهات الأخرى، إذ أصبحت ـ قوات التحرير ـ هى الصوت المسموع حاليا والذى يتحدث عن عروبة إريتريا، كما يتحدث فى عواصم أخرى عن إسلامها ويوجه كثير من اللوم للبعثة الخارجية لأنها، وهى ذات الإمكانيات الكبيرة ماديا وإعلاميا وذات الاتجاهات الخاصة أيضا، تتحدث دائما باعتبارها البعثة الخارجية لجبهة تحرير إريتريا، حيث لا تنته وسائل الأعلام لأهمية الإشارة إلى قوات ـ التحرير الشعبية ـ ، وهو ما يحدث اكبر اضطراب لأعلام جبهة التحرير نفسها، وعلاقاتها الخارجية، مما اضطرت معه الجبهة، أى أن تصدر عدة بيانات تنص بتمثيل عثمان سبى لها، خاصة عندما بدأت حملته على الدول الاشتراكية، باعتباره ـ رئيس البعثة الخارجية ـ للجبهة ـ قوات التحرير الشعبية ولعل وجود بعض العناصر الليبرالية والراديكالية القديمة التى تعمل مع عثمان سبى، أن يوقف هذا الاتجاه، ويجعل من قوات التحرير، بإمكانياتها الكبيرة السابقة، دعما للثورة لا عبئا عليها وحدة الثورة الإرترية.
الحوار دائر ونشط فى الساحة الارتيرية من اجل الوحدة، إذ يتحدث عنها الجميع، ولن برؤى مختلفة كما رأينا إلا أن الجبهة الشعبية التى كانت تضع ـ الجبهة المتحدة ـ هى الأساس، قد عادت واعتبرتها فقط خطوة ضرورية لتصفية آثار الماضى، فى طريق وحدة اندماجية أما قوات التحرير الشعبية، فقد ضغطت عناصرها بشدة على عثمان سبى فى مؤتمر مارس 1977 ابتغاء الوحدة الفورية وكان سبى أحيانا يرى فى نموذج منظمة التحرير الفلسطينية مثلا يمكن تطبيقه فى إرتريا، ولكن جبهة تحرير إرتريا ترى أن الساحة مؤهلة لوحدة تنظيمية، وان النضال الديمقراطى، هو الكفيل بحسم الموقف، وتصفية الخلافات القيادية نفسها وقد بدأت المباحثات الجادة بين جبهة التحرير والجبهة الشعبية من اجل التنسيق العسكرى فى مايو الماضى، على أن يعودا لمناقشة بقايا القضايا السياسية فى أعقاب ذلك مباشرة ورغم أن الجبهة الشعبية كانت تستبعد إمكانية أى حوار مع قوات التحرير، إلا أنها عادت فارتأت إمكان ذلك، على أن تقوم جبهة التحرير وحدها، بالحوار مع هذه ـ القوة الثالثة ـ على النحو الذى تراه ولعل كل ذلك يؤكد سابق قولنا بأن التمايز الفكرى ليس أفقيا بين قوى الثورة، ولكنه داخل كل قوة على حدة، مما يجعل الوحدة الوطنية الديمقراطية، طريقها الأكيد وقتوم سوريا والسودان وعدن بجهد فى هذا الصدد، سوف تكشف الأيام القريبة عن نتائجه الموقف الإثيوبى من الثورة الإرترية.
لا تخفى الأهمية الاستراتيجية لموقع إرتريا بالنسبة لأثيوبيا، التى تبقى بدون إرتريا إقليما داخليا محاصرا تماما، وخاصة من الناحية الاقتصادية، مع وجود التيارات الدينية التى حكمت الإمبراطورية والنظم المجاورة على السواء لأطول فترة فى التاريخ الحديث فقد بدت أثيوبيا ـ من الناحية الحضارية أيضا ـ جزيرة مسيحية وسط بحر إسلامى ـ من هنا أصبح مطلبا استراتيجيا تاريخيا لأثيوبيا، أن يتوفر لها منفذ إلى البحر الأحمر ولم تخف المذكرات الأثيوبية للجان الأمم المتحدة وجمعيتها العمومية بعد الحرب العالمية الثانية، فزع أثيوبيا من استقلال إرتريا، مما جعلها تتحدث عن تبعية إرتريا والصومال للإمبراطورية تاريخيا، مطالبة بهما معا، للإسهام على الأقل، كما تحدثت عن أمنها الذى هدد اكثر من مرة عن طريق إرتريا وقد جعل ذلك بعض الدول التى أيدت استقلال إرتريا، تشترط ضرورة توفير ممر لأثيوبيا إلى ميناء عصب الإرترى، والمنفذ الحيوى لاقتصاديات أثيوبيا وعندما أقرت الأمم المتحدة صيغة الفيدرالية بين إرتريا وأثيوبيا عام 1950، اعتبر الإمبراطور قبوله هذه ـ الصيغة ـ تنازلا عن حقوقه التاريخية فى ضم إرتريا تماما، ولذا ظل يتصرف بشكل مضاد لها، حتى ألغى الشكل الفيدرالى كلية سنة 1962 والواقع أن النظام الإمبراطورى لم تكن تقلقه من ـ الفيدرالية ـ تناقضها مع الحقوق التاريخية فقط، أو الاستراتيجية الاقتصادية، وعوامل الأمن السابق إثارتها، لن ذلك كله قد توفر ـ عمليا ـ أثناء الاتحاد الفيدرالية، وإنما كان هناك ما هو اكثر اقلاقا للنظام أل إمبراطورى، وهو الفارق فى التقدم السياسى والاجتماعى فى إرتريا والتقاليد الديمقراطية الليبرالية التى تكتسبها الحياة السياسية الإرترية مقارنة بالنظام السياسى للإمبراطورية الذى يقوم على السلطة الدينية، والنمط الإقطاعى ورغم إلغاء الإمبراطور لهذه التقاليد فى إرتريا، فقد كان معدل التطور الثورى فيه، يتقدم كثيرا ما شهده الواقع الأثيوبى للأسباب السابق ذكرها ولعل هذا الوضع المختلف فى أثيوبيا، أهل لان تكون هى نفسها اكبر قواعد الاستعمار الجديد فى القارة بعد الحرب الثانية، مما جعل التناقض الرئيسى للثورة الأرتيرية ليس فقط النظام الإقطاعى، ولكن مع إحدى دول الاستعمار الجديد الذى تعانى منه أفريقيا كلها وليس مصادفة أن تكون إحدى اكبر القواعد الأمريكية فى العالم فى أسمره، وان تكون اكبر نسبة من المساعدات الأمريكية لأفريقيا مخصصة لأثيوبيا طوال حكم الإمبراطور ولقد ساعدت الظروف التاريخية التى جعلت أثيوبيا من أوائل الدول المستقلة بالقارة، وكذلك توفر الإمكانيات الدعائية، فى أن ينجح الإمبراطور فى محاصرة الثورة الإرترية على صعيد العالم الثالث وعدم الانحياز، بل والدول الاشتراكية نفسها، وأسهم وجود الأغلبية فى منظمة الوحدة لنظم مماثلة، فى محاصرة مثل هذه القضايا وقد أدى ذلك إلى مضاعفة قوة قبضة النظام الأثيوبى ضد القوميات الخاضعة له، مما عمق التناقضات معها، كما عمق أبعاد المقاومة التى أرهقت الجيش الأثيوبى، وهو من اقوى الجيوش الأفريقية، ووصل بالموقف الداخلى إلى الانفجار اكثر من مرة، حتى سقط الإمبراطور نفسه صريع نظامه ورث النظام الجديد فى أثيوبيا منذ سيطرة الجيش على الموقف فى سبتمبر 1974، تركيبة اجتماعية وسياسية معقدة تماما، ولا اتفق مع القائلين بأنها شبيهة بكل موروثات الدول الأفريقية الأخرى عند الاستقلال، فثمة تنظيمات سياسية أو إدارة مجيدة، أو قهر استعمارى مباشر، بحكم الموقف فى معظم الدول الأخرى، خلافا للواقع الأثيوبى الذى حكمته قومية مركزية معينة، تتناقض مع العديد من القوميات الأخرى المقهورة لذلك واجه النظام الجديد هذا الانفجار فى أنحاء أثيوبيا ومع ذلك فقد أدى سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالنظام، إلى أن يبدأ بالإصلاحات الاجتماعية، كمقدمة لحل قضايا القوميات، خلافا لمعظم الثورات التاريخية، وقد ساعد على رفض هذا الاتجاه فى الحل، افتقار الواقع الأثيوبى إلى تنظيمات سياسية ثورية ذات جذور، وذات علاقات سابقة بهذه القوميات، ولم تعد إريتريا وحدها تدريجا ـ هى المنطقة الثائرة وقد اصدر النظام الجديد إعلانه السياسى الأول فى 20 ديسمبر 1974، متحدثا إلى جانب البرنامج الاجتماعى ـ عن ـ الحل السلمى ـ لمشاكل القوميات، عن طريق توفير ـ الاستقلال الذاتى الإدارى ـ للقوميات والثقافات المتنوعة ثم تكرر هذا الطرح فى برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية للمجلس العسكرى فى 20 إبريل 1976، ثم عاد وخص ارتيريا ببرنامج خاص من تسع نقاط ففى مايو 1976، اعترف فيه بحقوق تقرير المصير للقوميات، عن طريق توفير ـ الحكم الذاتى الإقليمى ـ كما ذكر انه سوف ينتظر بالنسبة للإقليم الإرترى فى ـ إعادة تقسيمه وفقا لحقائق التاريخ ـ وتفاءل القوميات فيه ـ ثم ابدى استعداده للالتقاء مع الفصائل الثورية ـ التى ستقبل ذلك البرنامج لحل القضية وقد بدأ هذا البرنامج اقل من طموحات الإرتريين كثيرا، بل واستفزازيا فى كثير من جوانبه ولابد أن يلاحظ القارئ، أن الوثيقة الأولى صدرت تحت شعار أثيوبيا تيكديم أى أثيوبيا أولا، وصاحبتها ممارسات وطنية سوفيتية، بلغت حد تكرار نفس ادعاءات الإمبراطور التاريخية التقليدية، والحديث عن الفيدرالية كقرار ـ فرض على أثيوبيا ـ ورغم انه لم يكن متوقعا أن ينجح أى طرح اجتماعى أثيوبى فى أثناء الإرتريين عن مطلب الاستقلال الكامل إلا انه مما صعب فرص الحوار كذلك، التناول الأثيوبى لواقع القضية الإريترية من خلال ترديد مقولات غير موضوعية، بالنسبة للثورة الإريترية وذلك على النحو الآتى:-
أ) أن فى إريتريا قوميات متعددة سيعاد تقسيمها داخل أثيوبيا، متجاهلين حركة الواقع السياسى الإريترى فترة التحرر الوطنى كلها ب ـ أن ما يسمى بالثوار الإريتريين، ليسوا إلا جماعات انفصالية ـ تستعمل أداة فى يد الدول العربية الرجعية ـ وهو يتجاهل بذلك النضال الطويل لجبهة تحرير إريتريا ضد ـ الرجعية الأثيوبية ـ والمساعدات التى حصل عليها النظام الأثيوبى نفسه من الولايات المتحدة سنة 1974 وسنة 1975 لمواجهة ـ الثورة المتطرفين ـ فى إريتريا وقد قررت الولايات المتحدة تقديم صفقات سلاح للنظام الجديد، عندما كادت تثق به، بلغت حوالى 70 مليون دور، ونقل عن المسئولين الأمريكيين فى 5 فبراير 1975 أنهم يخشون من أن تأتى الثورة الإريترية بالشيوعية إلى المنطقة.
ج) رفض النظام الأثيوبى مبادرة للحوار غير المشروط، طرحتها القيادة السودانية مبكرا، قبل أن تسود العلاقات بينهما وقد قبلته مبدئيا فصائل الثورة الإريترية، لكن الأثيوبيين ـ مع صمتهم عن المبادرة ـ راحوا يتحدثون عن اتصالات خاصة مع بعض ـ العناصر الثورية ـ بهدف شق وحدة الجبهة، إلا أن ما حدث كن عكس ذلك، بزيادة التشدد على كل الجبهات وكان الملفت لمن يتابعون الأمور، انه كلما اتجه النظام الأثيوبى يسارا، كلما اشتد ثقله فى ـ المنهج القومى ـ ، خوفا على سمعته الداخلية من تهمة تفتيت الإمبراطورية، أو إغراقا فى تصوراته، عن ـ عمالة الثورة الارتيرية ـ للرجعية العالمية ويباعد ذلك تماما بين النظام وأصحاب قضايا القوميات كما انه لا يتفق مع منطق الفكر الاشتراكى العلمى، الذى يعلن عن تمسكه به وقد أدى ذلك بالثورة الأثيوبية، إلى الانتقال لمرحلة تنظيم حملات شعبية مضادة ـ للتمرد فى الإقليم الإرترى ـ باسم المسيرات الحمراء أو غير ذلك، وهى كما أنها ترتبط فى الذهن الإرترى، بفترة تسليح الإمبراطور لبعض القرى والباندا المضادة للثورة، أو نظام الشفتا فى العصر الإقطاعى الموغل فى تخلفه وقد كانت الوثائق الأولى للثورة الأثيوبية، تتحدث عن إمكان إقامة تجمع كونفدرالى فى القرن الأفريقى، يمكن أن يضم الصومال بل والسودان، بهدف حل المشكلات القومية ولكن تصميم الصومال وإريتريا على تأكيد مبدأ الاستقلال أولا لهذه القوميات، لضمان حقوقهم مستقبلا، جعل النظام الأثيوبى يتراجع عن طرح الفكرة فى الوثائق التالية ثم جرى الحديث بعد زيارة الرئيس كاسترو للصومال وأثيوبيا وعدن أوائل 1977، عن تجمع تقدمى فى مدخل البحر الأحمر، تحمل فى إطاره أيضا قضية القوميات ويبدو أن الموقف الصومالى مرة أخرى، فضلا عن تجاهل الحل للثورة الإريترية، جعله غير قابل للتنفيذ، بل وتحول الموقف إلى قتال على كل الجبهات ضد النظام الأثيوبى خلال صيف 1977، مما جعل التناقضات كلها اليوم فى شبكة القوى الثورية إن قوى المعارضة اليسارية فى أثيوبيا تقدم اعترافا بحق إريتريا فى الاستقلال، مما خلق تعاونا وثيقا مع الثورة الارتيرية واليمين المعارض بأخذ موقف ـ الريرج ـ ويخلق ذلك تناقضا غريبا آخر على الساحة الأثيوبية العلاقات الدولية للثورة الإريترية:
بخروج القضية الإريترية من دائرة الأمم المتحدة، مع آخر تقرير لمندوب الهيئة الدولية فى إريتريا عام 1952 عند انتهاء مهمته هناك، وفشل الوفد السياسى الإريترى فى إعادة طرحها على المنظمة، سنة 1957، بل واعتقاله فور عودته، خرجت القضية من إطارها الدولى الرسمى، بل وسقطت مع هذا الخروج صيغة ـ العمل السياسى السلمى ـ كله، وراح الوطنيون يبحثون عن الدعم ـ المادى ـ من الدوائر ذات الاهتمام الاستراتيجى بالقضية وقد سبقت الإشارة إلى أن موقع إريتريا على مدخل البحر الأحمر والمحيط الهندى على السواء، بساحل يبلغ ألف كيلو متر تقريبا جعلها دائما ضمن خطط الهجوم الاستعمارى على المنطقة العربية، وكذا خطط الدفاع الوطنى عنها وفى التاريخ الحديث، كان الأمر كذلك مع البرتغاليين والأتراك، كما كان كذلك مع ـ الدولة الوطنية ـ فى مصر فى عهد محمد على، وأصبح كذلك فى عصر القوى الاستعمارية الغربية، طوال القرن العشرين ولا يمكن أن نعزل وجود إسرائيل كأداة للاستعمار الغربى لتأمين قناة السويس والبترول، عن الاهتمام الأمريكى بالوجود العسكرى فى إثيوبيا، وحرص إسرائيل عن تطوير علاقاتها هناك مع الإمبراطور، فتشرف على الأمن، وتسيطر على الجزر، وتقوم بالتدريب العسكرى الخ، كما أن الوجود الأمريكى فى قاعدة كانيو ستيشن والظهران، لا ينفصل فى إطار الاستراتيجية الغربية عن خطة وجود فرنسا فى جيبوتى، والوجود المشترك لأمريكا وبريطانيا فى ديبجو حارسيا، والوجود البريطانى فى عمان الخ وهى كلها دائرة الاستراتيجية الغربية للبحر الأحمر والشرق الأوسط، ومن هنا يصبح الوضع فى إريتريا ذا أهمية بالغة بالنسبة لهذه القوى، لعل ذلك هو ما يجعلنا نقول، بأن إريتريا كانت دائما ـ شأنا شرق أوسطى ـ سواء فى اتجاه احتوائها، أو فى اتجاه تحريرها، ويظل على الثورة الإريترية عبء الخروج من هذا الإطار، لتطرح نفسها كحركة تحرر وطنى، وإن بقيت ذات صلة عضوية بحركة التحرر الوطنى العربية، فان عليها أن تتحرك كذلك من حركة التحرر فى العالم الثالث، بكل الاعتبارات التى تحكم علاقاتها الخارجية وليس هذا الموقف مثاليا ـ يمكن تجاوزه، ولكن بقاءها فى شئون الشرق الأوسط، قد أخضعها لسياسات ـ وطنية محلية ـ بالغة الخطورة، رغم الأطر العامة التى تبدو فيها هذه السياسات فدولة كالسعودية، حينما تعاملت مع القضية الإريترية منذ الستينات، لم تتعامل معها كثورة وطنية أو إسلامية، وإنما من واقع استراتيجيتها الوطنية الخاصة، فاقتربت من الإريتريين فى ظل الفكرة الإسلامية لبعض الوقت، ولكنها عندما واجهت تهديدا يساريا من عدن، ـ ونفوذا شيوعيا ـ تبعا لذلك فى تقديرها، وثقت علاقاتها بأثيوبيا الإمبراطورية، وتحفظت عمليا على الاتجاهات اليسارية فى الثورة الإريترية، بل وكفت عن أية صلة بها ولم تعهد الرؤية الإسلامية نشطة فى السياسة السعودية تجاه إريتريا إلا مؤخرا، لاعتبارات استراتيجية ـ وطنية ـ مرة أخرى، بالنسبة للنظام الأثيوبى ولعل ارتباطا حركة التحرر الوطنى العربية العضوى، بقضية فلسطين، وبالتالى بالعداء للاستعمار والاستعمار الجديد، هو الذى اكسب الثورة الإريترية تأييدا متصاعدا منذ الستينات، من جانب الدول العربية ذات التوجه التقدمى بالنسبة للقضية الفلسطينية، مثل مصر وسوريا والعراق واليمن الشعبية والفلسطينيين، إلى جانب التأييد الخاص من جانب السودان والصومال ولكن ذلك كله فى النهاية، قد ابقى المسألة فى إطار ـ هموم الشرق الأوسط ـ ، مما أضفى على القضية الإريترية، أعباء على الساحة الدولية، كان يمكن أن تتجاوزها فى ظروف أخرى ومع ذلك فكثيرا ما استطاعت الثورة الإريترية، أن تخرج من هذا الاسار، وكان لذلك اكبر الأثر فى توجهاتها الفكرية القضية على المستوى الإقليمى.
والمقصود هنا علاقات الجوار، والاعتبارات التى تحكمها خاصة مع السودان والصومال واليمن بشطرين وهى اعتبارات ـ وطنية ـ بالضرورة ـ فالسودان تحكمه مشكلة الجنوب تارة، فيوقف مساعداته للثورة الإريترية ـ بعد 1972 ـ ثم تحكمه خلافاته مع النظام الأثيوبى الجديد، فيفتح الحدود للإريتريين ويتم هذا التأييد المرحلى، رغم تأييد التنظيمات السياسية السودانية جميعا ـ بدرجات مختلفة، وطول الوقت ـ للثورة الإريترية ـ والصومال تطرد الإريترية سنة 1961، كأول وجود لجبهة تحرير إريتريا بالخارج، رغم اختلاف نظم الحكم الصومالية من شر ماركى لمحمد عجال لزياد برى وذلك بسبب القوميات الصومالية داخل أثيوبيا والصومال متعاطف معظم الوقت مع جناح عثمان سبى ـ واليمن بشطريه.
يحكم مصالح التجار اليمنيين موقف صنعاء مع الإمبراطور من مثل، وضد مانجستو حاليا أما عدن، فيحكمها إلى جانب فكرها الثورى، أمنها الخاص على باب المندب، ضد احتمالات الوجود الإسرائيلى، فضلا عن التهديد الأمريكى الذى يقف خلف إسرائيل، ويسبب تأمينها من هذا الحظر فكريا وماديا فى الوقت الحالى، فأنها تحاول الموازنة بين موقفها من الثورة الإريترية والأثيوبية على السواء وعدن اكثر ميلا للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا إريتريا على المستوى العربى:
لم تعالجها الجامعة العربية ـ كمسالة قومية ـ منذ البداية، بل تعاملت معه باعتبار الجامعة ـ منظمة دولية، وليست تجسيد الالتزامات القومية ورغم أن ذلك قد حرم الإريتريين من بعض المساعدات إلا انه خفف عنهم عبء ـ الالتزام العربى ـ بالقضية الإريترية، ولكن أعلنت أن ذلك لم يكن بسبب نظرة موضوعية من الجامعة على هذا النحو، فقرر مجلس الجامعة فى 1949/3/17 عن تأييد حق تقرير المصير لإريتريا على ضوء ما يظهر من الحقائق فى الأمم المتحدة ـ إنما كان يعنى انتظار دراسة التأثيرات الغالبة فى دوائر الأمم المتحدة أما قرار وزراء الأعلام العرب فى 1975/2/16 لضرورة ـ ممارسة الحكومات العربية للضغط على أثيوبيا للاعتراف بحق الاستقلال وتقرير المصير للشعب الإريترى ـ ، فإنما كان يعبر عن ضغوط الدبلوماسية العربية الجديدة للدول صاحبة النفوذ حاليا فى الجامعة، وذات السياسات الخاصة تجاه النظام الأثيوبى ومع قوة هذا القرار، فان تصاعد دور الجامعة فى تنسيق عملية التعاون العربى الأفريقى، سوف تحد بالضرورة من دورها فى القضية، رغم استمرار السياسات ـ الوطنية ـ الخاصة فى غير استمرار السياسات ـ الوطنية ـ الخاصة فى غير هذا الاتجاه لذلك تظل معالجات القضية برؤية عربية قومية، هى ابرز تناول للقضية على المستوى العربى حتى الآن فسوريا والعراق، تلتزمان بتأييد القضية منذ سنة 1963 تقريبا على هذا الأساس، وتقدمان مساعدات مادية ملموسة فى هذا الصدد ويوجد جهاز الأعلام الخارجى الأساسى لجبهة تحرير إريتريا فى دمشق، كما تخرج عدد كبير من العسكريين الإريتريين فى الكليات الحربية فى البلدين ويتطور الموقف السورى بشكل متزايد مع فهم حركة الثورة الإريترية كحركة تحرر وطنى، وتلعب الدبلوماسية السورية دورا بارزا فى محاولات التوفيق بين أجنحة الثورة أما فى العراق، فان تأثير القيادة القومية لحزب البعث على العلاقات مع حركات التحرر الوطنى، يتبقى القضية فى إطار كون إريتريا جزءا من الوطن العربى، وهو ما لا يلقى ترحيبا كبيرا على الساحة الإريترية وقد استفادت قوات التحرر الشعبية كثيرا من هذه المعالجة، دون أن يقدر عثمان سبى مخاطرها داخل الساحة ـ أما المعالجة الليبية، فقد بدأت فى عهد السنوسى، تتناول القضية كمسألة دينية إسلامية، ثم تطورت إلى الاعتبار القومى والإسلامى معا، فى عهد ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 ورغم المساعدات الكبيرة التى حصلت عليها قوات التحرير الشعبية منذ قيامها سنة 1970 من ليبيا، وإسهام الرئيس القذافى بطرح القضية فى أديس أبابا نفسها فى اجتماعات القمة الأفريقية سنة 1973، إلا أن الاعتبار الإسلامى، اصبح يأخذ صيغة جديدة، بعد تصور نجاح تجربة الفلبين، حيث أصبحت ليبيا ترى أمكن مساعدة كل مسلمى أثيوبيا الذين يشكلون الأغلبية هناك بالتعاون مع الحكم الأثيوبى، ولكن المشكلة، تأتى من صعوبة اخذ ثوار إريتريا بهذا التصور، رغم تجديد دعوته لهم لهذا الحل فى المؤتمر الإسلامى الأخير بطربلس، ودعوته لأحمد ناصر ورمضان محمد نور فى يوليو 1977 للمناقشة حول هذا الطرح ويجمع الموقف الفلسطينى بين الاعتبار العربى القومى، وبين اعتبار الثورة الإرترية كثورة تحرر وطنى، تتخذ موقفا ثوريا من الإمبريالية والصهيونية التى تواجههما الثورة الفلسطينية وفى هذا الإطار، تقدم منظمة التحرير، وفتح خاصة، مساعدات كبيرة لجبهة تحرير إرتريا، كان ينفرد بها سبى لبعض الوقت، عن طريق صلته الوثيقة بدوائر فتح يبقى الموقف المصرى والجزائرى وقد كانت مصر تلتزم بدبلوماسيتها الأفريقية أساسا، نحو عدم التدخل فى الشئون الداخلية بما فى ذلك إثيوبيا ورغم المساعدات غير المباشرة للثورة الإرترية طوال الستينات خاصة فى المجال الثقافى، ورغم معركة مصر ضد القوى الاستعمارية فى مدخل البحر الأحمر، إلا جانب ثوار الجنوب العربى، ومتطلبات ذلك من التعامل مع الوضع فى أثيوبيا، إلا أنها ظلت متحفظة تجاه القضية الإرترية لكن دبلوماسية مصر الجديدة تجاه البحر الأحمر، بالتنسيق مع بعض دوله، أثرت على الموقف تجاه النظام الأثيوبى، وبالتالى فى الموقف من القضية الإرترية، وإن كان التصريح الرسمى الأساسى تجاه إرتريا، هو الذى صدر عن الرئيس السادات فى مايو 1976 عن حق إرتريا فى الحكم الذاتى، وكان بادرة تناول مصر للقضية الإريترية رسميا إلا أن الأحداث بعد ذلك، دفعت الدبلوماسية المصرية لأبعد من ذلك إلى جانب الثورة الإريترية أما الجزائر، فقد كانت تتحفظ أيضا بسبب دبلوماسيتها الأفريقية من جهة، وميلها إلى التعامل مع الحركة الثورية الأثيوبية نفسها من جهة أخرى كما أنها كانت بعيدة عن التعاملات العربية القومية مع هذه القضية ورغم وجود تمثيل للجبهة ـ غير رسمى ـ فى الجزائر، مما زال تحفظها العام قائما ولعل حرصها على طرح قضية تقرير المصير بالنسبة ـ للصحراء العربية ـ يجعلها اكثر ميلا للتعامل مع الإرتريين، إلا أن تأييد النظم اليسارية الأفريقية، بما فيها أثيوبيا للموقف الجزائرى فى هذه القضية، يفرض عليها التحفظ موقف دول العالم الثالث.
ليست قضية إرتريا وحدها، التى عانت من عزلتها على الساحة الأفريقية كقضية تحرر وطنى، وحصرتها فى العالم العربى، كشأن شرق أوسطى بل أن قضية فلسطين، والصراع العربى الإسرائيلى، وقضية احتلال الأراضى المصرية عام 1967 كلها عانت هذه العزلة لبعض الوقت ذلك أن ميراثا استعماريا طويلا، جعل كلمة ـ العروبة ـ معنى متناقضا تناقضا حسيا ومعنويا مع ـ الأفريقية ـ ومرتبطا فقط بالإسلام، ومن ثم بمخاوف بعيدة خلفتها الدوائر الاستعمارية ويذكر الجميع كيف وقفت الدول الأفريقية سنة 1967 موقفا سلبيا من العدوان الإسرائيلى على مصر، لأنه ليس مسألة أفريقية، ناهيك عن معالجة قضية فلسطين فإذا ما نجحت الدعاية الأثيوبية لوقت طويل، ومن ورائها أجهزة الدعاية الغربية، فى أن تصور ـ المسألة الإرترية ـ كمسألة عربية فقط، فإننا يمكن أن نتوقع ما يعنيه ذلك بالنسبة للقضية، إلى أن يدرك الثوريون الأفريقيون أهمية التخلص من هذا التراث الاستعمارى، المعادى لكل ما يتصل بالعرب فى القارة ومن سوء الحظ، أن الحركة الشعبية الأفريقية الجامعية التى كانت مؤهلة لأن تدرك مثل هذه الحقائق، قد حجبتها التنظيمات الحكومية منذ توقف انعقاد مؤتمر الشعوب الأفريقية بعد اجتماع القاهرة 1961، وكان ذلك قبل أن تطرح القضية الإرترية طرحا سياسيا عن طريق جهاز ثوراتها لقد كان ممثلو التنظيمات الجماهيرية الذين اجتمعوا فى أكرا عام 1958 على وعلى بأهمية حق تقرير المصير، والمشاكل التى خلقها الاستعمار لون من وراء تخطيط الحدود والمشاريع الاتحادية الخ ورغم الاتجاه الوحدوى للاجتماع، فقد أكد على أهمية إلا تفرض القوى الاستعمارية مسألة الاتحادات الفيدرالية ضد الشعوب، وألا صارت أدوات فى يد القوى الاستعماريةالخ وقد كانت ـ المشكلة الاتحادية ـ خاصة بشرق أفريقيا فى ذلك الوقت وعندما حاولت الصومال نفسها طرح موضوعاتها، كانت أحاديث الاستعمار الأبيض والاستعمار الأسود، قد بدأت مثيرة للحساسية، واستفادت أثيوبيا من ذلك لم تكن إرتريا قضية وحيدة على الساحة الأفريقية عندما طرح الشعب الإرترى مسألة إعادة النظر فى الاتحاد، وتكاد تكون إرتريا المشكلة الدولية الأفريقية الوحيدة، التى لم يجر بشأنها استفتاء عام للتعرف على رغبات شعبه لذلك فان صدور القرار رقم 16 عن أول اجتماع لرؤساء منظمة الوحدة الأفريقية بالقاهرة فى يوليو 1964، باحترام الحدود القائمة وعدم المساس بها تحت أى ظروف، وسريان ذلك مسرى القداسة، مرتبطا بقضية التدخل فى الشئون الداخلية، لا يفسره إلا طبيعة التردى فى الحركة الثورية الأفريقية منذ قيام منظمة الوحدة، وسيطرة ما سمى ـ بالاتجاه المعتدل ـ لشيوخ مجموعة منروفيا على المنظمة، وعلى رأسهم الإمبراطور هيلاسلاسى، بتأثيره الروحى الخاص، الذى استفاد منه كثيرا فى ضرب الحركة الثورية فى بلاده نفسها، فلم يقم لتنظيم شعبى ثورى أو ديمقراطى قائمة على يده، فضلا عن أن يسمح لشعب إرتريا أو ثورتها بالتعبير عن نفسها والملفت للنظر، أن ممثلى النظام الأثيوبى الجديد، حاولوا إقرار مبدأ مشابه فى اجتماع القمة العربى الأفريقى بالقاهرة ـ مارس 1977 بمحاولة إدخالها ضمن نص إعلان القاهرة السياسى الصادر عن الاجتماع، مدينا الحركات الانفصالية ومساعدتها ولكن المحاولة لم تنجح، إذ اقتصر تأكيد إعلان برنامج العمل (فقرة 13) على ـ احترام وحدة الأراضى والاستقلال السياسى ـ لذلك فانه عندما تحاول بعض الدول، لاعتبارات خاصة، وليس فى إطار تحول أساسى فى المنظمة، أن تثير القضية الإرترية فى إطار هذا التنظيم، مثل محاولة ليبيا سنة 1973 أو تونس 1975، أو بعض مناشدات من الرئيس عيدى أمين لحكام أثيوبيا ودوائر المنظمة أو جولة بعض الشخصيات الإرترية فى السنغال وبعض دول التعبير الفرنسى، فإننا لا نتوقع لها الكثير ولا يبقى إلا أن تقوم تنظيمات الثورة الإرترية بتوصيل صوتها بشكل فعال لمجموعة الدول الثورية، وتنظيماتها الجماهيرية، لتعيد دراسة موقفها، وطرح الأمر كله من جديد وفى هذا الإطار، فان ثمة ردود فعل إيجابية لها مظاهرها المحدودة فى غينيا والكونغو برازافيل كما أن ثمة خبرات فى تاريخ القضية لمحاولة طرحها على تنظيمات ذات طابع شعبى وراديكالى، تمثل قبولا إيجابيا للثورة الإرترية.
ومن ذلك ـ أن منظمة تضامن شعوب القارات الثلاث مثلا، وأن لم تدع جبهة تحرير إرتريا فى مؤتمرها الأول الذى تم عقده بكوبا عام ـ 1966، إلا أنها دعت ممثليها للمؤتمر الثقافى العالمى الذى نظمته السكرتارية فى هافانا فى يناير 1968، وافردت مجلتها (تريكو ننتال) تحقيقا عن ثورة إرتريا، وحديثا مع ممثلى الجبهة فى 14 صفحة وعدد يناير/إبريل 1968 وعادت ففعلت ذلك فى يونيو 1969 ـ دعا المجلس التنفيذى لمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية، ممثلى جبهة تحرير إرتريا، لإلغاء خطاب أمامه فى اجتماعه التاسع بطرابلس فى نوفمبر 1970، طالب المجلس على آثره الأمم المتحدة، بمراجعة مسألة الاتحاد، على ضوء مصالح شعب إرتريا وبعد ذلك اعترف المؤتمر الرابع للمنظمة، بعضوية لجنة التضامن لجبهة تحرير ارتيريا فى المنظمة كعضو لجنة التضامن لجبهة تحرير إرتريا فى المنظمة كعضو كامل، فى اجتماع المؤتمر بالقاهرة فى يناير 1972، وان كان النظام الأثيوبى الجديد، قد اقترب مؤخرا بقوة من المنظمة، ورشح ممثلى أثيوبيا فيها، ودعا الاجتماع بأديس أبابا، حول جنوب أفريقيا، لمصادرة وجود إرتريا فيها إلا أن ذلك لا ينفى أن الحركة الشعبية، على مستوى العالم الثالث، هى التى مازالت مؤهلة للاستماع لصوت الثورة الإرترية، والاعتراف بشرعيتها، كلما تم الطرح المناسب فى ساحات العالم الثالث الشعبية، على نطاق واسع وان وثائق القوى الثورية الارتيرية، لغنية بالتأكيد على أهمية التلاحم مع قوى التحرر الوطنى، وثورتها العالمية ولعل ذلك كان مصدر قبول اتحاد الطلاب العالمى (براغ) ـ لعضوية جبهة اتحاد الطلاب الإرترى فيها موقف الدول الاشتراكية.
كان موقف الدول الاشتراكية واضحا تماما، عندما عرضت قضية إرتريا ـ المستعمرة الإيطالية ـ على الأمم المتحدة 1958/1950 فقد أيدت الدول الاشتراكية التى شاركت فى المناقشات، أو فى تقديم المقترحات (الاتحاد السوفييتى ـ بولندا ـ تشيكوسلوفاكيا) مبدأ استقلال إرتريا أو الصياغات التى تدور حول ذلك، مثل ـ الوصاية الجماعية ـ لبعض الوقت، ويعقبها الحصول على الاستقلال، مع ضمان مصر لإثيوبيا عن طريق عصب وقدم الاتحاد السوفييتى نفسه مشروعا رئيسيا للجنة السياسية، يطالب بمنح الاستقلال فورا لإرتريا، وانسحاب القوات البريطانية، وحصل هذا المشروع على 36 صوتا ضد 8 وامتناع 14 عن التصويت ويتفق ذلك بالطبع، مع السياسة المعلنة للدول الاشتراكية، بشأن موقفها إلى جانب دول التحرر الوطنى، فى نضالها ضد الاستعمار ومعركتها ضد سيطرة قوة جديدة متصاعدة مثل الولايات المتحدة كما أن التراث النظرى للاشتراكية العملية، والتراث العملى لمجموعة الدول الاشتراكية، عدم قبول فكرة حق تقرير المصير للمجموعات القومية، ولكن مع تصاعد دور الإمبراطور هيلاسلاسى فى أفريقيا، بدأت الدبلوماسية الأفريقية لمعظم دول العالم، وخاصة الكبرى منها، تضع ثقل الإمبراطور الأفريقى فى الاعتبار، مما فرض تحفظا تلقائيا على العلاقة مع الثورة الارتيرية ومع ذلك فانه بالنسبة للاتحاد السوفييتى، فان وجود ممثلى الحزب الشيوعى السوفييتى فى حركة التضامن الأفريقى الآسيوى، وحركة تضامن القارات الثلاث، إلى حوار ممثلى الثورة الارتيرية،
لم يكن يخلو من معنى وتبدأ المشكلة بالنسبة لإرتريا، تتخذ بعدا جديدا، عندما يدعم الاتحاد السوفييتى علاقاته مع النظام الأثيوبى الجديد (1977/1976) على أساس اتجاهاته اليسارية المعلنة ـ والواعدة ـ من وجهة النظر السوفييتية، بان تقدم حلولا ـ عادلة ـ لعدد من القضايا المطروحة أمامه، وخاصة قضية القوميات وهنا ينعكس هذا الموقف على تحفظ السوفييت مرة أخرى تجاه التعامل مع الثورة الارتيرية، بل ووضعها ضمن القضايا التى يستفيد منها أعداء أثيوبيا الجديدة، على نحو ما جاء فى خطاب بودجورنى عند استقباله لمانجستو فى موسكو فى مايو 1977، وان كان قد طالبه بوضع حل ديمقراطى لجميع القوميات فى أثيوبيا وان كان النظام السوفييتى، قد تحفظ على هذا النحو، لأنه دولة كبرى، فان ذلك لم يحل دون اتصال الثورة الارتيرية فى فترات مختلفة، بدول اشتراكية عبرت عند اتصالها، عند منطلق اشتراكى أساسا، وذلك مثل كوبا والصين الشعبية ...الخ.
بالنسبة لكوبا:
استقبلت كوبا ـ كما سبقت الإشارة ـ أحد أعضاء المجلس الأعلى لجبهة تحرير إرتريا فى يناير 1968، من خلال دعوته للمؤتمر الثقافى العالمى لدول القارات الثلاث وقدمت قضية إرتريا فى أجهزة الأعلام الثورية، تقديما طبيا ثم قامت بتأكيد موقفها، بقبول تدريب عدد من الشبان الإرتريين تدريبا عسكريا عام 1968، وعادوا بعد ذلك إلى الميدان، وبعضهم فى مواقع قيادية معروفة، وذلك وفق رواية بعض قادة الجبهة وبناء على هذه العلاقات الوثيقة بين كوبا والجبهة، اتخذ المؤتمر الأول لجبهة تحرير إرتريا 1971 قرارا بإيفاد أحد الشخصيات القيادية القديمة ممثلا له فى كوبا وان كان لم يتم فتح مكتب رسمى فى كوبا، فإنما يرجع ذلك ـ وفق الرواية الارتيرية ـ إلى محاولة كوبا تجنب اثر الانقسام الذى وقع فى الجبهة 1970، وليس بسبب موقفه من القضية ولذا راقب الإرتريون بعناية، ذلك التقارب الكوبى الأثيوبى الجديد، فى ضوء فهم كوبا للقضية الارتيرية، وفى نفس الوقت، فانهم لم يتوقعوا نتيجة إيجابية من أثارتها لقضية الوساطة وقد كان طرح الرئيس كاسترو الذى كشف عنه الرئيس فرنياد لصحيفة الأهرام فى مايو 1977، بتكوين تجمع تقدمى فى هذه المنطقة يستوعب القوميات البارزة، هو آخر التصورات الكوبية، لكن التطورات التى أعقبت ذلك فى الصومال وإرتريا على السواء، تعنى فشل المشروع بالنسبة للصين الشعبية وكوريا.
كانت من أوائل الدول الاشتراكية التى تعاطفت مع الثورة، ووجهت الصين الدعوة لادريس آدم رئيس الجبهة، وبعض أعضاء المجلس الأعلى لزيارة الصين سنة 1966 وتم ذلك بالفعل، بل وأعقبه وفد على مستوى عال آخر سنة 1965، ونقلت بعض الأسلحة إلى الثورة الارتيرية منذ ذلك الحين، ودرب عدد من الكوادر تدريبا عسكريا بها وكان كشف بعض أسلحة لإرتريا فى موانئ السعودية سنة 1967 بسبب انحراف بعض القوارب الصغيرة فى البحر الأحمر، فى اتجاه السعودية، أحد أسباب انقطاع التعاون السعودى المحدود مع الجبهة خاصة مع شكوكها فى الاتجاهات اليسارية لبعض قياداتها وقد زار وفد آخر جمهورية كوريا لحضور أحد مؤتمراتها الشعبية سنة 1968 وبقى شهرا هناك، يجول فى أقاليمها إلا أن مسارعة الإمبراطور هيلاسلاسى بزيارة الصين (1970) ومحاصرة القضية الارتيرية فى الدول الاشتراكية أيضا، بنفس الأسلوب الذى اتبع مع الدول الأفريقية، قد أوقف العلاقة القائمة بين الثورة الارتيرية وهذه الدول، وزاد النظام الأثيوبى الجديد الموقف تعقيدا ولابد للمراقب هنا من أن يربط بين تطورات علاقة الثورة الارتيرية بالدول الاشتراكية، وبين الموقف الثابت لفصائل الثورة الارتيرية من معسكر الاشتراكية وقد جاءت قرارات المؤتمر الأول والثانى، وبرنامج جبهة تحرير إرتريا (1975/1971) مؤكدة للفهم الثورى لهذه العلاقة، وكذا علت قرارات وبرنامج الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا (1977) ففى وثائق جبهة تحرير ارتيريا ـ أنها تؤكد على أهمية تنمية وتوطيد علاقات الثورة الارتيرية مع المنظومة الاشتراكية بحسبانها رأس الحربة، فى مواجهة الإمبريالية كما تنص وثائق الجبهة الشعبية، على خلق العلاقات الوثيقة مع القوى التقدمية والثورية، وخاصة مع البلدان الاشتراكية الدول الغربية.
لا تحكم المصالح المباشرة بالمعنى الاقتصادى، وحدة سياسة الدول الغربية تجاه أثيوبيا والمسألة الارتيرية بالتالى، إذ يتعلق الأمر بالاستراتيجيات المستقبلية، اكثر من أى اعتبار آخر أن أثيوبيا أو إرتريا، ليست مصادر لثروة حيوية، وإنما كلاهما موقع جيوبولتيبكى بالغ الأهمية، فى وقت أصبحت فيه البحار والمحيطات تحمل القواعد العسكرية المتحركة، ومن هنا تكتسب الدول المطلة عليها أهمية خاصة والتحرك تجاه أثيوبيا وإرتريا، اتخذ مبكرا نمط الاستعمار الجديد، حيث بعدت القوى الاستعمارية التقليدية منها، منذ انتهى دور إيطاليا وبريطانيا بالخروج من إرتريا والسودان على التوالى وقد راهنت الولايات المتحدة، منذ وقت مبكر على بقائها فى أثيوبيا، فأيدت ضم إرتريا إليها، دعما لنفوذ الإمبراطور، وترضية له وبغرض توسيع نطاق وجودها العسكرى على مساحة اكبر فى الأراضى الارتيرية الاستراتيجية ويلاحظ القارئ لاتفاقية استخدام المنشآت الدفاعية داخل الإمبراطورية الأثيوبية والموقعة بواشنطن فى 23 مايو 1953، أى بعد قيام الاتحاد رسميا ببضعة شهور، أنها تقول فى ديباجتها.
انه بالنظر للعلاقات الوطيدة بين الحكومتين، إلى وجود عدد منم المنشآت العسكرية الأمريكية داخل الإمبراطورية الأثيوبية فان:
مادة (1):
تمنح الحكومة الإمبراطورية للولايات المتحدة، حق الاستمرار فى شغل واستخدام التسهيلات والمنشآت التى تديرها حاليا حكومة الولايات المتحدة داخل الإمبراطورية ويتفاوض الطرفان حول تحويل أو توسيع أو إلغاء بعض هذه التسهيلات أو المنشآت أو شغل منشآت إضافية، قد تدعو إليها الضرورة ومعنى ذلك أن المعاهدة قد وقعت تأكيدا لشىء قام قبل 1953، وانه قصد بالمعاهدة، تحقيق الامتداد الأمريكى على ارض إرتريا رسميا، خوفا من الاحتجاج الشعبى أو الدولى على خرق قواعد الاتحاد أن القلق الشديد الذى يبدو حاليا من تغير وضع أثيوبيا فى القرن الأفريقى، يفسر مدى الاستقرار الذى كانت تتمتع به الاستراتيجية الغربية من قبل، فقد كانت هناك الولايات المتحدة فى أثيوبيا، وفرنسا فى جيبوتى وملاجاش، وبريطانيا فى عما وتشترك بريطانيا والولايات المتحدة فى قاعدة ديبجو جارسيا بالمحيط الهندى، كما كانت الولايات المتحدة فى الظهران وإزاء وجود إسرائيل فى مركز القوة بالشرق الأوسط، فضلا عن علاقاتها القومية بأثيوبيا، كامتداد ـ للوجود الأمريكى ـ بالضرورة فانه من المتصور، كيف يكون كل شئ آمنا، بالنسبة للمصالح الغربية وقد حال نفوذ الدول الموالية للغرب فى الشرق الأوسط، دون إمكانية تغيير هذه الأوضاع أما والصورة آخذه فى التغيير، بعد استقلال عدن، وإبعاد ملاجاش للقاعدة الفرنسية، بل والمخاطر التى تواجهها فرنسا فى جيبوتى من قبل الصومال، رغم الصداقة الفرنسية العربية، وضغط الرأى العام العربى لأبعاد بريطانيا وإيران من عمان، كل ذلك جعل الموقف الأثيوبى الجديد من المنشآت الأمريكية فى أثيوبيا وإرتريا، نتيجة تغير النظام السياسى والاجتماعى بمثل ضربة بمقتل للاستراتيجية الغربية خاصة، وان المادة 25 من المعاهدة الأمريكية الأثيوبية، كانت تشير إلى أن مدة المعاهدة ـ 25 سنة، أى أنها تنتهى سنة 1978، الأمر الذى استفاد منه الحكم الأثيوبى، بطلب إخلاء القاعدة ونقل مصدر التسليح إلى الاتحاد السوفيتى ومن هنا يحاول الغرب أن يغير طبيعة مواقفه من إرتريا، كما يغيرها مع الصومال، منتهزا أية فرصة للنفاذ للمنطقة بشكل أو بأخر، تساعده بعض الاتجاهات فى الساحة الارتيرية على التفكير فى هذا الاتجاه (اتصالات زعماء القوات الشعبية بدوائر السوق المشتركة والمراسلات المتبادلة مع الدوائر الأمريكية) كما تعمل هذه الدوائر الغربية، على الاستفادة إلى أبعد الحدود، من التناقضات القائمة فى المنطقة محليا، فتعمل على تحويل قضية أمن البحر الأحمر المثارة حاليا من كونها قضية ـ إقليمية ـ و ـ وطنية ـ أو قضية تنمية مشتركة، تستطيع الثورة الارتيرية الاستفادة من ظروفها، إلى قضية صراع دولى، تقوم فيها دولة ذات نفوذ، مثل السعودية، بدور بارز، بلغ تأثيره المتعاظم، إلى حد تحويل الموقف الصومالى نفسه عن تحالفاته التقليدية، نتيجة ـ الاعتبارات القومية ـ التى لا تقدرها جيدا معظم الأطراف المعنية بقضايا الثورة حتى الآن ليست لهذا البحث خاتمة، فالصراع دائر على أسده من داخل الثورة الإريترية ومن حولها، ولا تبدو ثمة نتائج سريعة لهذا الصراع، ولكن هناك عدة نقاط، لابد من أن تكون واضحة لمن يتابع القضية عن كثب ولأصدقاء الثورة الإريترية والأثيوبية على وجه الخصوص:-
1. أن الصراع بين الثورة الإريترية وإثيوبيا، لا يبدو حتى الآن انه سينتهى، إلا من خلال المعارك العسكرية ولكن النظام الأثيوبى لابد أن يعى أنه أمام حركة تحرير تخضع لقوانين تاريخية، لا تقول بإمكان استسلامها، ومن ثم فان الاستمرار فى القتال، يشكل خطرا اكبر على النظام الأثيوبى أولا، مثلما كان كذلك على نظام الإمبراطور.
2. أن استمرار القتال، يمكن أن يضع الثورة الإريترية فى مأزق الاختيار بين التحالفات الخارجية، وتحاول بعض الأجنحة فى الثورة، أن تطبق مبدأ عدو عدوى صديقى تطبيقا مطلقا، وتنسى أن ثمة نظاما ذات توجيهات تقدمية معادية للاستعمار فى النهاية فى أثيوبيا ومعنى ذلك أن استمرارية الثورة الإريترية، لا تعنى بالضرورة التحالف مع الشيطان، فقد تكون بعض هذه التحالفات خطرا على مستقبل الثورة الإريترية نفسها، وهى من القوى الثورية بقاعدتها وكوادرها أساسا والثورة لا تبيع مضمونها وإنجازاتها مقابل ـ السلاح ـ وحده.
3. أن قواعد الثورة الإريترية فى الأجنحة الثلاثة، مؤهلة للوحدة الوطنية، ولا تستطيع قوة بعينيها أن تزعم الآن تمثيلها وحدها للخط الثورى، وإنما المستقبل للنضال الديمقراطى داخل هيكل ـ جبهوى ـ ومعنى ذلك أن القيادات الحالية، سوف نفسها أمام حتمية الاستجابة لمطالب جماهيرها فى الوحدة، وان النضال الديمقراطى الداخلى، سوف يفرز نتائجه دعما للقيادات الديمقراطية بالضرورة أما إذا استمر التعنت على مستوى تنظيمات الثورة، فسوف تتعرض الساحة للاقتتال مرة أخرى، خاصة مع مرحلة التقدم الحالية نحو المدن الرئيسية، وسعى كل فيصل لتأكيد وجوده، فى جو يخشى معه سيطرة العقلية العسكرية مرة أخرى على الثورة، مضحين بالإنجاز الاجتماعى الذى يجب أن يرتبط بذلك.
4. أن إريتريا سوف تظل عنصرا هاما فى استراتيجية أمن البحر الأحمر واقتصادياته، وكذلك بالنسبة لتأمين حركة التحرر الوطنى العربية ضد الصهيونية والاستعمار، ما بقيت القضية الفلسطينية دون توصل لحلها التاريخى، ومعنى ذلك، أن الشعوب العربية لابد أن تكون شديدة الاهتمام بالقضية الإريترية، وبإسهام ثورة إريتريا مع القوى الوطنية العربية فى تأمين ظهيرها من جميع التدخلات الأجنبية ولاشك أن الأمن فى هذه المنطقة من العالم، لن يكون حقيقيا إلا عندما توجد مجموعة دول متحررة تماما من أى نفوذ أجنبى فيها، وإريتريا مثل كل دول المنطقة، جزء من هذه المقولة.
5. أن إريتريا المستقلة المتحررة، سوف يكون لها دور بارز فى المنطقة بالضرورة، باعتبار موقعها الاستراتيجى عند إحدى نقاط الالتقاء بين الشعوب العربية والأفريقية من الناحية الاجتماعية والالتقاء بين استراتيجيات البحر الأحمر والمحيط الهندى كذلك، وإذا كانت القضية تشكل الآن نوعا من مصادر التوتر فى علاقات التضامن العربية الأفريقية، فإنها يمكن أن تشكل دفعا حقيقيا لها التضامن الاجتماعى والاستراتيجى فى المستقبل القريب بحكم ما تسفر عنه من تغيرات فى القرن إن فهما تقدميا للعلاقات الإقليمية فى المنطقة لابد وان يطرح نفسه فى اقرب وقت ولكن تفاقم العلاقات بين الثورة الصومالية والنظام الأثيوبى يعرقل التقدم فى هذا الاتجاه وتأتى المشكلة من أن ثورة ذات جذور فى الصومال تطالب نظاما جديدا فى أثيوبيا أن يملك الشجاعة وهو فى مرحلة الصياغة لنفسه للاعتراف بحقوق ـ القوميات ـ فى الاستقلال بأمل أن يؤدى قيام مجموعة ـ وحدات ـ وطنية تقدمية إلى تخطيط جديد فى المنطقة يتجنبون فيه تدخلات القوى الخارجية جميعا ولكن عدم حل التناقضات بين ـ الوطنى ـ و ـ القومى ـ و ـ الأممى ـ فى المنطقة نتيجة الموروثات التاريخية الثقيلة ـ وليست التدخلات الأجنبية وحدها ـ اصبح بالغ التأثير أمام هذا المطلب الصومالى والذى نتوقعه أن تؤدى تدخلات أفريقية أو غير أفريقية مخلصة إلى إخراج التناقضات من معسكر التقدم فى أفريقيا دون خسائر كبيرة، وعندها يصبح قرن أفريقيا المتحرر إحدى بؤر الإشعاع الهامة فى الثورة الأفريقية بموقعه الاستراتيجى على المحيط الهندى والبحر الأحمر على السواء.