أيام لاتنسى من ذكريات المناضل محمد علي إدريس ابو رجيلا - الحلقة الثانية عشر
إعداد: جبهة التحرير الإرترية
الميدان سنة 1967م المجازر البشعة و إتساع رقعة وتكوين السرايا: عدت الى قيادة الوحدات المقاتلة في الميدان في مطلع
عام 1967م حيث بدأت الثورة تدخل في هذا العام بداية مرحلة الانتقال من طور الفصائل والمجموعات الصغيرة الى مرحلة تشكيل السرايا المقاتلة وفي المنطقة التي وجهت إليها (الأولى) شكلت أربع سرايا متكاملة العدد كانت السرية الأولى بقيادة المناضل عثمان محمد إدريس أبو شنب وموقع عملها يمتد في كامل منطقة سيتيت حتى تخوم هيكوتا والى جنوب تكمبيا ثم السرية الثانية بقيادة المناضل دنقس أري ومنطقة عملها من تخوم هيكوتا الى مقرايب وحتى تخوم ملقي تقابلها سرايا المنطقة الخامسة وبمحاذاتها وحتى تخوم حماسين السرية الرابعة التي كلفت بقيادتها ثم السرية الثالثة بقيادة المناضل حاج موسى على سمرة ثم المناضل صالح أبو بكر آدم وما بين هذه السرايا فصائل مستقلة للهندسة والمالية والفدائيين والإستخبارات والمراسلين الحربين والرجال الذين عملوا في مستودعات الأسلحة، النقل والتخزين ثم أطواف القيادة والعمل الجماهيري في قرى الريف والمدن وهؤلاء لعبوا دوراً نضالياً مشرفاً في كل الصعد وكان ذات التركيب في المناطق الأخرى مع إختلاف أعداد السرايا والفصائل ونظراً للدور الكبير لأبناء الشعب الإرتري في الريف والمدن والتي أغلقت العدو الاستعماري وعملائه بعد أن إنطلقت مبادراتها الخلاقة في دعم الثورة وتقاسم قوت أطفالها مع المناضلين بل وتفضيل المناضلين في كثير من الأوقات جن جنون العدو وراح يدبر بليل المؤامرات والدسائس وتفتق ذهنه عن الإعداد لحملة إبادة واسعة النطاق جند لها ألوف العملاء من قوات الكوماندوس والباندا الإرتريين بدأت المذابح في النصف الثاني من شهر فبراير 1967م ابتداء بقرية عد أبرهيم إذ حاصر القرية وأباد كل من كان فيها في ذلك الوقت من الرجال والنساء والأطفال أحرقت البيوت وبقرت بطون النساء الحوامل وألقى القتلة بالأطفال في النيران المشتعلة أما من تمكن من النجاة فقد خرج تحت ضربات الرصاص سقط من سقط ونجى من نجى وإمتدت المذابح في كامل المديرية الغربية وعنسبا وسنحيت وسمهر والساحل ولم تتوقف حملات الإبادة لأبناء شعبنا الإرتري في والمدن طوال سنوات النضال الثلاثين وطالت كل أرجاء الوطن الإرتري وكان أكثرها بشاعة إبادة سكان ومساكن قرية عونا، لم تكتف القوات الاستعمارية الإثيوبية وعملائها بذلك بل صاروا يعدمون كل من يصادفونه في الطريق من المواطنين الإرتريين إذ فقد في تلك السنة والسنوات التالية المئات من المواطنين الذين لم يعرف مصيرهم بشكل يقيني حتى الآن ولم تعرف لهم قبور وإن كانت القناعة العامة أنهم أعدموا وخلال هذا العام ساقت الأجهزة الاستخبارية العشرات من المدن الإرترية وخاصة مدن المنخفضات وقد أدت كل تلك المذابح الى موجة لجوء واسعة النطاق من قرى الريف الإرتري التي تدفقت جموعها الى السودان عبر بوابتي قلسا وعواض وإمتلأت المنطقة الممتدة من قلسا وحتى ود شريفي بالألوف من النساء والأطفال والشيوخ الذين فروا من الإبادة وهم لا يملكون ماءا أو زادا وقد أصابهم الإعياء من المشي على الأقدام عبر دروب وعرة ورغم الجهود الكبيرة لأهالي وشيوخ وأعيان مدينة كسلا وقرى ريفها إلا أن الأعداد كانت فوق طاقة وقدرة الأهالي وللأسف الشديد لم يلتفت المجتمع الدولي لمعاناة أبناء شعبنا وحتى حكومة الأحزاب (السودانية) ووزارة داخليتها فقد همت بإعادة تلك الجموع من حيث أتت غير عابئة لما ستتعرض له من إبادة إلا أن اللاجئين ومعهم أبناء كسلا الأوفياء واجهوا ذلك الأمر بقوة وحزم رافضين العودة ليبيدهم نظام الإمبراطورالاثيوبي الاستعماري وقالوا أنهم يفضلون أن تبيدهم السلطات السودانية من أن يعودوا للنظام الاستعماري ليلاقوا مصيرهم وساهمت الصحافة السودانية وقواعد الأحزاب ولعبت دوراً كبيراً في تسليط الأضواء على مشكلة اللاجئين الإرتريين ومعاناتهم وكشف نوايا البعض لإعادتهم وبفضل نضال اللاجئين والثورة والمواقف الشعبية السودانية المساندة إنتهت تلك المحنة ببقاء اللاجئين وحتى لا ننسى فقد جعل العدو رأس رمح تنفيذ تلك المذابح الكوماندوس والباندا الإرتريين لربط تلك المذابح البشعة بالشرائح والفئات الاجتماعية التي ينتمي إليها منسوبي تلك القوات وكانت مواقف غالبيتهم إمتداداً للمواقف التاريخية المعروفة لدى أبناء شعبنا تلك المواقف التي عادت حق شعبنا في تقرير المصير وشوشت عليه بتبني خيار الاتحاد مع إثيوبيا في مواجهة مطلب الاستقلال وكان الاستعمار يأمل في إشعال حرب أهلية على خلفية هذه المذابح وإشراك تلك القوات فيها (من مسيحي كبسا) مصحوبة بدعاية سوداء أن المسلمين وهم غالبية رجال الثورة في ذلك الوقت سوف ينتقمون من المسيحيين وهذا دفع القرى دفعا للتسلح مخدوعة بهذه الأكاذيب إلا أننا كمناضلين كنا نعرف مخططات العدو وعملائه الذين يئسوا من القضاء على الثورة فإتجهوا للأبرياء العزل من أبناء الشعب لإثارة حرب أهلية على أسس دينية وعرقية ليتفتت مجتمع الثورة والشعب الإرتري ولتدعي أمام المسيحيين أنها المدافع عنهم وضمانة لوجودهم ولتقول للعالم أنها ضامن الأمن والاستقرار وأن هذه البلاد وشعبها لايمكن أن يتعايشوا بعدالة ومشاركة واحترام وتسامح وهي مشروع دولة مستحيلة الاستقرار ولهذا فإن ضمها هو الحل الأمثل وقد أدركنا نحن المناضلين أبعاد هذا المخطط الرهيب فعملنا على إفشاله وقاومنا مروجيه في ميدان المعركة وعلى العكس من ذلك عملنا على توعية أبناء شعبنا ومناضلينا بأبعاد المخطط ولسوء حظ الاستعمار فان تلك المذابح التي إغترفت بحق الأبرياء العزل من جماهير شعبنا زادت من كراهية الاستعمار الإثيوبي وتدفق ألوف الشباب الغاضب والمشحون بروح الانتقام من قتلة الأطفال والنساء والشيوخ وإنضموا لصفوف الثورة إلا أننا فقدنا بفعل تلك المجازر عشرات القرى التي كانت من بين أهم مراكز تمويل الثورة وألوف الأعضاء الأساسين في جبهة التحرير الإرترية الذين أستشهدوا جراء المذابح الواسعة النطاق ومرت الثورة بفترة عصيبة بكل المقاييس ليس بسبب حرب الإبادة في إرتريا ولكن بسبب الوضع الإقليمي بسبب حرب حزيران 1967م بين العرب وإسرائيل وإمتد هذا الظرف العصيب لسنوات تالية.
أما اللاجئين بظروف قاسية للغاية وضعت حياتهم في كف عفرت إذ مات في تلك السنة الألوف من الأطفال والنساء والشيوخ جراء تفشي الكوليرا والاسهالات والملاريا وأمراض الجوع وإنتشرت القبور على مد البصر بين أكواخ اللاجئين والطرق المؤدية إليها ومات في تلك السنة سواء في قلسا ود شريفي أو في معسكرات سمسم المئات من الأطفال وفقد شعبنا جيل كامل من أطفاله إلا أن إرادة الحياة إستمرت وخفف من آلام شعبنا الدعم الكبير الذي قدمه أبناء شرق السودان وعموم السودان في تلك المذابح أبيدت تشكيلات تنظيمية كاملة وفقدنا رجال عملوا في دعم إستعلامات الثورة وخاصة في مدن أغردات كرن قندع مصوع منصورا حقات عدردي بارنتو تكمبيا أوقارو قونيا هيكوتا تسني قلوج أم حجر على قدر ...الخ.
لم تتمكن الثورة من الدفاع عن أبنائها لأسباب كثيرة أهمها أن عمر الثورة كان ست سنوات فقط وكانت وحداتها متباعدة وتغطي مساحات شاسعة وكان المناضلون يسيرون على الأقدام والعدو كان يتنقل بالسيارات وكانت قوة الثورة ناشئة وتسليحها متواضع جداً كما كانت تفتقر لوسائل الاتصال وفوق كل ما سبق لم تكن على علم مسبق بنوايا العدو وإذا كانت تعرف لتقربت من مراكز حركة العدو لشل حركته أو إبطائها وإذا تعذر تنبيه الجماهير لتختفي من أنظار العدو.
قضت السرية التي كنت أقودها (الرابعة) تلك السنة وحتى منتصف السنة التي تلتها في المنطقة الممتدة من ساوا وحتى قالاي وفي النصف الثاني من سنة 1968م إتجهنا لقرى عد شحاي وليبان وحبلى بهدف تبصير الأهالي بالثورة مستفيدين من أجواء الهزة النفسية العميقة التي أحدثتها المذابح في ضمائر الإرتريين إلا أن تصورات سكان تلك القرى كانت سالبة عن الثورة وكان يتنازع في داخلهم أن الثورة سوف تنتقم منهم بسبب المذابح التي نفذها البعض من أبنائهم المنتسبين لقوات الكوماندوس ولهذا قابلونا بإطلاق النار وخاصة في قرية عد شحاي مما أجبرنا للرد على مصادر النيران وسيطرنا على القرية وجمعنا السكان وإنتزعنا منهم سبع بنادق ثم جمعناهم لتفقد الخسائر ولحسن الحظ لم يصب أحد بأذى سوى رجل من المسلمين البني عامر من منطقة عد على بخيت ويدعى صالح أستشهد، جمعنا سكان القرية وتحدثنا إليهم عن أهداف الثورة وكانوا في قمة الخوف والتوجس وبالتدريج أخذوا يطمئنون ثم قراءنا عليهم بيانات ونشرات كانت مكتوبة بالتجرنية وقلنا لهم نحن ثورة كل ضد الاستعمار الإثيوبي من أجل الحرية والاستقلال وأنتم أبناء الثورة والوطن ولابد أن تشاركوا في الثورة وألا يخدعكم العدو وعملائه وعليكم أن تفكروا جيداً في هذا الأمر فانتم أبناء هذه الأرض وهذه ثورتكم وبعد الإطئنان على أداء رسالتنا ودعناهم وتركناهم وهم في حالة من الاستغراب والذهول وسرت هذه المحاضرات وغيرها كسريان النار في الهشيم وأخذت تتناقلها الألسن بين قرى كبسا وحواضرها وأخذت هواجس أولئك المواطنين حول حقيقة الثورة تتبدد وإن أخذت وقتاً أطول من اللازم بسبب قوة الدعاية الاستعمارية التي ضللت الكثيرين في كبسا وبالتدريج أخذ أولئك السكان يفكون إرتباطهم بالسلطة الاستعمارية تدريجيا خضنا خلال هذا العام سلسلة من المعارك أهمها معركة دون التي أستشهد فيها المناضل عبد الله تيته وجرح المناضل الشهيد كاسا شولي ثم خضنا معركة أخرى بالقرب من قونيا غنما فيها رشاش برين كما خضنا معركة مشتركة مع السرية الثانية في منطقة عميدي أستشهد فيها مناضلان من كلتا السريتين، ومن الناحية السياسية حدثت إضطرابات كثيرة في هذه السنة وظهرت ثلاث حركات هي حركة الإصلاح وحركة الجنود وحركة الكسر.
تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة