قـراطـيـس مـبـعـثـرة والأمـيـر الـقـاتـل - الحلقة الأولى
بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب إرتري، المملكة المتحدة
دائما عندما أقلّب على أوراقى القديمة والمبعثرة هنا وهناك أجد ما يستوقفنى ويجبرنى
على تسجيل الملاحظات وأنا اليوم كذالك، فقراطيسى القديمة هى ذاكرتى أحميها من تقلّبات الطّقس وتحمينى بدورها من النسيان وتبلّد الذاكرة.
حيث وخذ اليوم ذاكرتى كتيب صغير. كنت قد إقتنيته فى أحدى مهرجانات (جبهة تحرير إرتريا) فى مدينة (كاسل) فى ألمانيا يحمل بين دفّتيه (قصّة شهيدة) إختفى خبر إستشهادها عن رفاقها وأهلها وذويها لفترة جاوزت العشرة سنين، إسمها (سابا قدى) وتحدّثت إلى الكتابة طويلا حول ضرورة الكتابة عن شهداءنا وعن قصص وملاحم معركة التحرير بكلّ تفاصيلها.
الكاتبة إسمها (طقى منقشّا) وعنوان الكتاب بالتقرنية (مسكّر) وتعنى (شهادة) بالعربية.
(طقى منقشا) كانت مناضلة فى الجبهة الشعبية ثمّ سكنت ألمانيا.. (سابا قدى) هى رفيقة الكاتبة فى النّضال ومعلّمتها فى ثانوية الملك فى العاصمة (أسمرا).. حكت (طقى) في الكتاب عن منطقة ميلاد المعلّمة المناضلة (سابا قدى) فى ضواحى (سقنيتى) فى مديريّة (أكلى قوززاى) فى العام 1951 ثمّ دراستها الثانوية فى أسمرا ثمّ (جامعة أدّيس أببا) وتخصصها فى اللغة الفرنسية لتكون معلمة للكاتبة (طقى منقشّا) فى الثانويّة.
وفى إحدى أيّـام عام 1975 تركت المعلّمة الطبشور والكتب وتركت حيّها (كدانى مهرت) لتلتحق بالمقاتلين فى الضّواحى وفى إحدى قرى (كارنشم) القريبة.
الكاتبة (طقى منقشا) يبدوا أنّها تأثرت كثيرا بمعلّمتها (سابا قدى) وكانت معجبة بنجاحها وصغر سنّها ووطنيّتها فتركت هى أيضا الفصول لتنتقل إلى الحقول ولتحمل السلاح فى (قوات التحرير الشعبية) حينها، ويبدوا من سطور الكتاب أنّ العلاقة بين المعلمة والطالبة قويت فى الميدان أكثر ممّا كانت فى أسمرا.
قرأت الكتيّب عندما إقتنيته فى مدينة (كاسل) الألمانية وطرحته جانبا للبحث عن غيره وقبل عدّة أسابيع أعدت قراءته عندما لمحته عيناي فجأة للمرّة الثانية فتولّد عندى إعجاب جديد بالفكرة فكرة الكتابة عن الشهداء والبدأ بمن نعرفهم فأحسنت (طقى منقشّا) وأبدعت حين صورت لنا رحلة البحث المضنية عن معلمتها (سابا قدى) التى فقدت لأكثر من عشرة أعوام فبدأت هى فى البحث عنها وأولا بالبحث عن رفقاءها الذين خرجوا معها من (أسمرا) وكان أحدهم (أحفروم) ولوجود (طقى منقشا) خارج إرتريا قام بباقى المهمة أختى المناضلة المفقودة (سابا قدى) الصغيرتين (روتا) و(حرقو).
وعندما وجد (أحفروم) وكان حينها مسؤول فى مكتب (الشعبية) فى كسلا ومنها نقل (مديرا) إلى مدينة (تسنى)، وبعد التحرير نقل منها إلى (عدّى قيّح) ومن ثمّ إلى (مصوّع) ولكنه لم يكن (أحفروم) الأصلى والمطلوب الذى خرج من (أسمرا) مع الشهيدة... فتعثّر البحث ولكنّه دلّ الأسرة ورفيقتها (طقى منقشّا) على من يعرفونها وجاء الخبر اليقين من الرّفاق بأنّ الشهيدة كانت فى الدّفاعات الأماميّة فى حىّ (الختميّة) فى معركة تحرير (مصوّع) الأولى عام 1977 فقاومت وصمدت وتحدّت القصف والحرّ والجوع لعام كامل مع بقيّة المقاتلين الأشاوس لتستشهد فى يوم 13 يوليو 1978.
بعيدا عن التأويلات السياسية، معركة مصوّع الأولى (سالينا) 1977-1978 ومعركة مصوّع الثانية (فنقل) عام 1990 هنّ من ملاحم التّحرير وبلا أدنى شكّ كلّ معاركنا من أجل التّحرير ملاحم وكلّ شهدائنا فيها قامات. بل حتّى هؤلاء الذين سقطوا ضحايا قصف جائر أو قضوا فى محرقة أو مجزرة فى مسجد أو دير أو باحة قرية مسالمة تنتظر الفرج من ربّ العالمين تسجد وتركع شكرا وحمدا لله خالق السّبب والمسبّب كلّ هؤلاء شهداء. مكانهم القلوب والأفئدة ولدوام ذكراهم فى ذاكرة الوطن كان الواجب أن نسمى المدن والشوارع والأزقّة والمدارس والمنشئات بأسماءهم ويكون الوطن صورة ونسخة منهم، وأن يتبوّأوا أولى الصفحات فى كتاب شهداء إرتريا وليكون لأبناءهم نصيب من التكريم.
ومن ثنايا قصص هؤلاء تخرج إلينا قصص الضّحايا، ضحايا الثورة نفسها لأنّها تغذّت على رفات أبناءها من حمل السّلاح ومن لم يحمل... وتلك إحدى تراجيديا الإستشهاد من أجل رفعة وطن.
كتب المقدمة للكتاب المناضل الجبهجى والشّاعر المعروف (نقوسى منسعاى) وأشاد بالمبادرة قائلا:
إرتريا قد إبتلعت الكثير ين من أبناءها وبناتها فى مسيرة التحرير منهم من نال تعليما عاليا ومنهم الفلاح الذى لم يطرق أبواب المدارس، ولكنهم كلّهم مضوا وذهبوا فداءا للوطن.
والباقى هو نحن ماذا يجب أن نفعل فوفاءا لدورهم يجب أن يذكرهم الوطن ويسجل بأحرف من نور دورهم ونضالهم وهذا لا يتأتى إلاّ عندما يسجل كلّ منّا ما يعرفه عن هؤلاء الصناديد.
نواصل... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة